مناضلون يساريون محمد حسن جاد «برق» (1) أنا كنت في الأصل فتوة، وأكبر وأشهر فتوة في حي المناصرة وشارع محمد علي، والفتوة غير البلطجي فهو يحمي الضعيف ويأخذ من الغني ليعطي الفقير، ولهذا كان سهلا أن أصبح شيوعيا. محمد حسن جاد «برق» ... «ذات يوم اعتدي سائق الترام علي سيدة من حي المناصرة، جاءت المرأة باكية تطلب تأديب سائق الترام، سحبت كرسي من القهوة وترابيزة وقعدت بالضبط علي شريط الترماي وأحضروا لي شيشة وجلست أدخن بينما توقفت التروموابات في طابور طويل، وجاء مأمور القسم وظل يلح علي ثم أحضر سائق التروماي ليعتذر للسيدة.. وأفرجت عن التروموايات.» ويمضي عم برق في حكاياته «أنا في الأساس كنت أسطي نجار مسلح وكنت أنفق كل دخلي علي الجدعنة وأصحابي ومشاريب القهوة، ولم أكن أهتم بالسياسة لكنني كنت وفديا، وفي عام 1935 هاجت شوارع القاهرة بالمظاهرات ضد تصريح المستر هور الذي قال فيه إن مصر لا تستحق الاستقلال، كنت أعمل في بناء عمارة في شارع سليمان باشا، وجاءت مظاهرة تهتف «يسقط هور ابن الطور» وتصادمت المظاهرة مع الجنود الإنجليز الذين أطلقوا عليها الرصاص وما أن اقترب الجنود الإنجليز من العمارة حتي وجدت نفسي ألقي عليهم عروق الخشب و«القمط» الحديد وشاركني كل العاملين معي وهرب الإنجليز وطبعا هربت بعدها». «من حوار أجريته معه»، وفي بداية الأربعينيات أصبح عم برق أسطي ورشة النجارة في شركة سالم سالم وكان إخوانيا متعصبا وفي نفس الوقت يستغل العمال استغلالا بشعا، ونمضي مع حواري معه «كنت أحصل علي مرتب كبير جدا جنيه وخمسة قروش في اليوم ومع ذلك بدأت في تجميع العمال لتشكيل نقابة، اتهمني صاحب العمل بأنني أحرض العمال علي تخريب ورشة الشركة، وسألني وكيل النيابة عن مرتبي فصعق وقال إنه أكبر من مرتبه بكثير، ودهش كيف أضحي بمرتب كهذا، وأفرج عني لكن الحاج سالم سالم فصلني واتهمني بأنني شيوعي وكانت أول مرة أسمع فيها هذه الكلمة». ثم ينتقل في حواري معه إلي مرحلة جديدة في سنة 1945 شفت مظاهرة ضد الإنجليز فمشيت فيها ولكن البوليس بدأ يضربنا بوحشية فهجمت عليهم ولكنهم تكاثروا علي وساقوني إلي قسم الموسكي، وفي الحجز شاهدت عديدا من الطلاب المتظاهرين، وسألت واحدا منهم إنت ممسوك ليه فقال «أنا شيوعي، فصحت في وجهه هو انتم يا اولاد.. وأمسكت بخناقه» هكذا وجد هؤلاء الذين تسببوا في فصله، لكن الشاب الهادئ استمر هادئا وشرح له أهدافهم ومواقفهم وفي مساء ذات اليوم أصبح أكبر فتوات حي المناصرة وشارع محمد علي شيوعيا ويلاحقه هذا الشاب «كمال شعبان طالبا في كلية الفنون قسم عمارة» بالمحاضرات يشرح له أحوال البلد وأحواله.. وتغير الفتوة «تركت الفتونة وأصبحت أمشي في الشارع هادئا، الناس دهشوا وكانوا يتساءلون.. هو برق جري له إيه؟ فيرد من يعرف «أصله بقي شيوعي» ولكن «شيوعي يعني إيه؟» ويشرح لهم برق حتي أصبح معه العديد من الأعضاء الجدد، ثم تأتي مرحلة الاحتراف الثوري ويحكي «قابلني هنري كورييل وبهرت بتواضعه وبساطته في شرح أعقد المسائل، وسألني بهدوء إيه رأيك لو تترك عملك وتصبح محترفا ثوريا؟ أجبت دون تردد: «ماشي» فسأل مرتبك كام في الشهر؟ وقلت: ثلاثين جنيها، فقال: مش حنقدر نديك إلا ثلاثة جنيهات في الشهر فقلت: ماشي وأصبحت محترفا». وسألته: كم عاما سجنت؟ فإذا به يغضب قائلا: لا أحب الإجابة علي هذا السؤال فلست مثل هؤلاء الذين يسجنون شهورا أو عامين أو ثلاثة ولا يتوقفون عن الحديث حول السجن والتضحيات والبطولات، أنا مناضل بسيط أديت ضريبة التزامي بالمبدأ، وألححت وألح في الرفض وأخيرا قال: 16 سنة وشوية شهور». ويمضي الحوار مع واحد من فرسان الزمان القديم، هؤلاء الذين يرحل الواحد منهم ولا يمكن تعويضه، كان يجلس أمامي هادئا يتحدث عن تضحياته وعذاباته هو وأسرته وابنه الذي لم يره إلا رجلا، كأنه قطعة من جرانيت فرعوني لا يمكن للزمان ولا السجون ولا التعذيب أن تغير ملامحها ولا قناعاتها واستمع «طبعا السجن كان صعب، وبالنسبة لي بالذات كان صعبا جدا أنت لا تعرف معني أن تترك بيتك دون لقمة خبز ودون مليم واحد، كنت آكل في السجن وأنا أعرف أن أم حسن وحسن يجوعون بالفعل»، ويمضي «لا تقل كم سجنا سجنت فيه، ولكن قل كما سجنا لم تزره، في الفترة من 48 إلي 1950 كان النظام حريصا علي توزيعنا علي سجون عديدة حتي لا نجتمع معا وعلي نقل كل منا من مكان لمكان حتي لا نستطيع الاتصال بالتنظيم فزرت سجن مصر «قره ميدان» والزقازيق وطنطا والمنصورة والإسكندرية وطرة وأبوزعبل وبعدها الواحات». ولست أدري لماذا سألته «كم مرة بكيت يا عم برق؟» فأجاب «الراجل مش ممكن يبكي إلا إذا كانت المصيبة تهد جبل، وعلي أي حال أنا بكيت أربع مرات طوال حياتي يوم موت حسن ابني ويوم اغتيال هنري كورييل ويوم حل الحزب ويوم ما أصدرت كتابك عن الصحافة اليسارية وبه إهداء لي» ويمضي في حوار لابد أن يستكمل.