مناضلون يساريون أحمد الرفاعي (1) «في السجن الحربي تعلمت أن أتزود بصبر لا ينفد، وبسخرية من الحكام لا تهدأ. كان الضابط المسئول يفتح باب الزنزانة كل صباح ممسكا بورقة في يده ويصيح المسجون أحمد الرفاعي السيد عبد الله. وأجيب وفق الأوامر «أفندم». فيصيح: حكم عليك بالإعدام. وأجيب «علم يا أفندم» كنت أعلم أنه يكذب لكنه الإرهاب النفسي اليومي الذي تحول إلي مادة للسخرية» أحمد الرفاعي من حواري معه الأب عمدة «طناح »وهي قرية قرب المنصورة، والعمودية تنتقل لكنها لا تغادر الأسرة، الأب وفدي متعصب. والابن بدأ وفديا أيضا وعندما كان أحمد في الثامنة طاف مع فلاحي القرية وهم يهتفون «يسقط صدقي - يحيا الدستور- النحاس خليفة سعد- هل هلالك يا نحاس» وأطاح صدقي بأبيه من العمودية لكنها ذهبت إلي عمه الذي كان الوحيد المؤيد لصدقي في القرية، وكان عنيفاً مع الوفديين خاصة، ومع الفلاحين يسير وسط «الغفر» ومعه كرباج اشتهر باسم «الازعر» لكن لا «الغفر» ولا «الأزعر» امكنهما إسكات «هل هلالك يا نحاس» فأتي الهجانة الذين فرضوا حظراً للتجول من الغروب حتي الفجر. لكن دهاء الفلاحين يهزم الجميع، نار تشتعل في كومة قش أو حطب في إحدي حواري القرية فيستجير العمدة بالأهالي ليخرجوا من بيوتهم لاطفاء الحريق. والعمدة يحظر دخول أي صحف وفدية إلي القرية وتأتيه كل يوم لفافة ضخمة من جريدة «الشعب» التي كان صدقي يصدرها، كانت توزع مجانا لكن لا أحد يمد يده إليها. لكن نسخة من جريدة «الجهاد» الوفدية كانت تهرب من المنصورة كل يوم ليلتف الفلاحون حول مأذون القرية «الشيخ محمد شمس الدين» ليبدأ القراءة كل يوم بتلاوة شعار الجريدة. قف دون رأيك في الحياة مجاهدا إن الحياة عقيدة وجهاد والفتي ابن الثامنة يندس وسط المجتمعين ليستمع ويجاهد كي يفهم. ويجري صدقي باشا انتخابات ارادها مزورة، لكن الأب وأعيان الناحية جميعا يخطفون الصناديق المزورة ليلقوا بها في الترعة. وقبلها قرر صدقي أن يقلد النحاس في زيارات للريف وصدرت الأوامر بحشد الفلاحين علي جانبي الطريق إلي قرية إخطاب المجاورة، وتآمر الأعيان. الفلاحون اختفوا ويمر موكب صدقي باشا بين صفين من الجواميس والأبقار التي ربطها أصحابها لاستقبال صدقي، ويضيق النظام ذرعاً بالأب فيصدر أمراً بالقبض عليه ضمن مجموعة من الأعيان الوفديين. ومن المنصورة الابتدائية الأميرية إلي المنصورة الثانوية حيث ترأس أحمد جمعية الخطابة وأتقن فنون الزعامة والخطابة. وإلي كلية الحقوق جامعة فؤاد الأول يأتي في زمن كان ابناء جيله في حيرة خاصة الوفديين منهم. كان جرح 4 فبراير 1942 يدمي قلوب الجميع ويمنحهم قدراً كبيرا من التردد إزاء الزعامة الوفدية. وفي ذات الوقت كانت مدافع ليننجراد وستالينجراد تدوي لتهزم النازيين الغزاة ولتحقق انتصاراً مبهراً للدولة الاشتراكية «الاتحاد السوفيتي» وتتفتح أذهان هذا الجيل علي رؤي جديدة وعالم جديد. وفي ساحات الجامعة يلتقي بمصطفي هيكل الذي كان قد أسس تنظيما صغيرا سماه «القلعة» وينضم إليه، لكنه يبقي علي تماس مع مجموعة الطلاب الوفديين الذين تأثروا مثله بالموج اليساري وأسس معهم «الطليعة الوفدية» وتأتي الاجازة الصيفية ليعود الفتي محملا بفكره الجديد إلي فلاحي طناح الذين استقبلوا ابن حضرة العمدة هو وفكره الجديد بترحاب وانتماء.. بما منح طناح اسم «القرية الحمراء» وعندما قبض علي في طفولتي في قضية الشيوعية الكبري كان فلاحو طناح الأكثر وعيا وشجاعة ودهاءً وقدرة علي مراوغة المحقق المسكين، ومنهم عم سيد فلاح عجوز كان صامتا لكنه يفهم كل شئ ويوجه الجميع بنظرة من طرف عينه. وولد شقي اسمه الشحات، وسيد آخر مغني مواويل في الأفراح، أذكر أن وكيل النيابة سأله تعرف «ماهر قنديل» (وكان مدرس ثانوي ومسئول الدقهلية وأيضا مسئول طناح) فأجاب سيد الشاب أعرفه يا بيه، لكن لمحة من عين سيد العجوز أفهمته بأن هذا خطأ. فتهلل وجه المحقق فأخيرا وجد طرف خيط في التحقيق الممل، وسأل سيد بحنان: تعرفه منين يا شاطر؟ فرد سيد بكفاءة من اعتاد أن يرتجل المواويل : بيمر في بلدنا ياباشا. وسأله المحقق: بيمر يعمل إيه يا شاطر؟ وأجاب: بيسقي الغيطان ياباشا. ودهش المحقق: مين اللي بيسقي الغيطان يا ابن ....؟ فرد الفلاح الفصيح «نهر النيل» ياباشا. مش حضرتك برضه سألت علي نهر النيل، وجن جنون المحقق. وكان السؤال دوما عن «أحمد الرفاعي» والاجابة دوماً «ده ابن حضرة العمدة، هو فين واحنا فين». هرب أحمد الرفاعي لفترة، ثم قبض عليه وساقوه إلي سجن الأجانب وعندما علم المأمور أنه من «طناح» قال له : شوف مادام الشيوعية وصلت للفلاح أبو رجلين مشققة يبقي مفيش فايدة». ومع وصول حكومة الوفد إلي الحكم في 1950 يفرج عنه ولا تمضي سوي أيام قليلة حتي يأتيه نبأ استشهاد زميله في الزنزانة صلاح بشري (طالب سوداني بكلية الهندسة) وارتبكت حكومة الوفد التي تحلم بعلاقات حميمة مع الشعب السوداني، وارتبك القصر الملكي الذي كان يتمسك بلقب ملك مصر والسودان، وسارت في شوارع القاهرة جنازة مهيبة اندفعت نحو المطار حيث كان القصر الملكي قد خصص طائرة خاصة لنقل الجثمان إلي عطبرة، ومع تدافع الجموع قبل ممثل القصر الملكي المصاحب للجثمان أن يركب معه ممثل للمتظاهرين وكان أحمد الرفاعي. وفي الطائرة سأله ممثل السراي بتعرف تخطب فاستعان أحمد بدهائه الريفي، وقال لا. فأملاه ممثل السراي اكتب يا ابني «إن جلالة الفاروق أعز الله ملكه وحمي عرشه يعزي شعبه في السودان في وفاة ابنه صلاح»، ويمضي أحمد في دهائه ويتبدي في أنه يحاول تدريب نفسه علي إلقاء هذه الكلمات. وتهبط الطائرة في مطار عطبرة ويدفعه ممثل السراي إلي المقدمة وأوقفه علي سلم الطائرة طالبا منه أن يلقي الكلمة.. ويتقدم أحمد الرفاعي ليهتف في الجموع السودانية المحتشدة «يسقط فاروق قاتل صلاح.. يسقط فاروق عدو الشعب» وتردد الجماهير الهتاف. وفي طريق العودة كان ممثل السراي محتقن الوجه وصاح في ضابط اللاسلكي طالبا منه ابلاغ المطار بضرورة استدعاء أحد ضباط البوليس السياسي ليقبض علي الولد الذي سب الذات الملكية. لكن ضابط اللاسلكي كان معجبا بهذا الفتي فقال آسف يا أفندم اللاسلكي عطلان. وفي الطريق إلي البيت عرف أن البوليس في انتظاره هناك. فهرب من جديد.