تلقي السوريون بدهشة وغضب واستنكار وإدانة أنباء التفجيرات الإرهابية في بيوت مسيحيين عراقيين وأمام كنيسة في الإسكندرية، ورأوا أن مثل هذه الأعمال لا تصدر عن عاقل فكيف عن مسلم تجاه بني جلدته من المسيحيين خاصة ان التفرقة الدينية لم تجد لها مناخاً مناسباً في سورية طوال القرن العشرين وخاصة بعد الاستقلال، وليس للخلافات الطائفية أو الاحتقان من سبيل رغم محاولات عديدة جرت في المائة سنة الماضية للنفخ في كيرها، سواء من قبل المستعمرين في النصف الأول من القرن أم من الفئات المتطرفة في نصفه الثاني. لم يصدف خلال هذه المدة الطويلة أن كان المذهب الديني يشكل حاجزاً ولا حتي غلالة بين المسلمين والمسيحيين واستمر كل من الطرفين يشارك الآخر حياته وأفراحه ومناسباته الحلوة والمرة ويتعايشان ويتعاونان ويحتفلان معاًً في أعيادهما ومناسباتهما الدينية والاجتماعية وغيرها. كانت نسبة عدد المسيحيين في سورية في النصف الأول من القرن الماضي حوالي 20% من عدد السكان لكن هذه النسبة ما لبثت أن تراجعت تراجعاً كبيراً بسبب الهجرة بحيث تقدر نسبتهم الآن ب8% فقط من عدد السكان، لكن هجرة المسيحيين السوريين المرتفعة هذه لا علاقة لها بدينهم أو تعايشهم مع بني قومهم من المسلمين، ولا بالضغوط أو الاحتقان الطائفي أو الاجتماعي، وإنما كانت دائماً لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولي، بالإضافة إلي بعض الأسباب الشخصية كالبحث عن عيش رغيد في الغرب، أو عن شروط مناسبة لطالبي البحث العلمي أو للمغامرين، مثلهم بذلك مثل أبناء الشعب السوري من الديانات الأخري، حيث بلغ عدد المهاجرين السوريين إلي خارج بلادهم حوالي مليونين ونصف المليون نسمة حسب الأرقام الرسمية للمكتب المركزي للإحصاء، وبقيت مع ذلك نسبة هجرة السوريين المسيحيين أكبر من نسبة المسلمين بسبب إضافي هو أن الدول الأوروبية كانت تقدم لهم تسهيلات كبيرة جداً، وخاصة للمسيحيين السوريين غير العرب كما هو حال الآشوريين والسريان والكلدان الذين هاجر معظمهم إلي دول أوروبا، أو كما هو حال الأكراد فيما بعد. ومرة أخري لا أحد من هؤلاء كانت هجرته بسبب تعرضه لمضايقات دينية أو ضغوط اجتماعية أو اضطهاد أو تفرقة أو خوف من حصول ذلك. لم تدخل في ثقافة السوريين صيحات أبي الأعلي المودودي وسيد قطب المطالبة بحاكمية الله وتكفير المجتمع والدولة والمسلمين كافة وإنكار إسلامهم (فكيف بالمسيحيين) كما لم تدخل في ثقافتهم فتاوي الشيخ الشعراوي في مصر، وخاصة تعليماته القاضية بعدم مشاركة المسيحيين أعيادهم ولا حتي رد السلام عليهم إن ألقوا التحية، والإجابة علي تحيتهم (بالهمهمة والغمغمة) وغيرها من التخاريف التي نشرها المرحوم الشيخ الشعراوي وغيره، وبقي السوريون المسلمون يشاركون المسيحيين أعيادهم ويحتفلون بها معهم، ويزينون بيوتهم بشجرة الميلاد في عيد الميلاد ويلونون بيض الدجاج في عيد الفصح وتعطل الدولة ومؤسساتها والقطاع العام والخاص في الأعياد المسيحية كلها. كما يشارك المسيحيون بدورهم المسلمين أعيادهم ومناسباتهم الدينية أيضاً. وأخيراً لم تصلهم صيحات المهووسين الإسلاميين الذين كانوا ينادون بنهب أموال النصاري (كما جري في مصر لمحلات بيع الذهب) أو قتلهم (كما جري في كنائسهم في العراق) أوحتي التعرض لهم بسوء. ولم يفهم السوريون لماذا يرتكب الإرهابيون هذه الأعمال التي تجري في هذا البلد العربي أو ذاك، ولم تشهد سورية خلال الأعمال الإرهابية التي تفجرت فيها في ثمانينات القرن الماضي أي عمل إرهابي موجه للمسيحيين. شارك المسيحيون السوريون في الحياة السياسية طولاً وعرضاً، وخاضوا الانتخابات، وتسلموا المناصب الرفيعة في الدولة (مدراء عامون، معاونو وزراء، ومحافظون وسفراء. ووزراء وقادة عسكريون) بدون تحفظ بل وانتخب مسيحي لرئاسة الوزارة السورية عندما كان النظام السياسي برلمانياً، أي أن رئيس الوزراء هو الحاكم الفعلي للبلاد، كما انتخب مسيحي مرة رئيساً للمجلس النيابي في أربعينات القرن الماضي، وكما برز في مصر (مكرم عبيد) برز في سورية (فارس الخوري) وعديدون مثله قادوا الحياة السياسية السورية ونشطوا فيها فيما كانوا فعالين في إدارة الحراك السياسي والاجتماعي وحراك الطبقة الوسطي السورية والمشاركة في قيادة التيارات السياسية والحزبية ومن المعروف أن مؤسس حزب البعث هو المرحوم ميشيل عفلق وكان مسيحياً. حتي هذه الساعة يستبعد السوريون علي مختلف فئاتهم الدينية والسياسية والاجتماعية حصول أعمال إرهابية مماثلة في سورية ليس فقط بسبب القبضة الأمنية القوية، وإنما أيضاً وأساساً لأن مفاهيم وقيم وتقاليد الشعب السوري تجعل مثل هذه الأعمال تلقي استنكاراً وردود فعل تضر بالإرهابيين أنفسهم أكثر مما تنفعهم، ويبدو أن الشعب السوري محصن داخلياً حتي الآن تجاه مثل هذه الأعمال، ولم تأخذ التباينات الطائفية حيزاً من تقاليده وممارساته.