ينزل الصحفى الشارع لحق المجتمع فى المعرفة، والكشف عن الفساد، ومتابعة الأعمال الرسمية لمؤسسات الدولة، وليس على سبيل الرفاهية، رغم كل أشكال الترويع التى يواجهها الصحفيون يوميا، لكن عملهم وواجبهم المهنى يقتضى عليهم القيام بذلك. لقد راعنى منذ قليل رؤية زميلنا الصحفى فى جلسة الشهادات الحية والذى تعرض لطلق نارى فى الفك مباشرة، أدة لقطع جزء من لسانه، ولا أعرف هل سيقدر على الكلام بشكل طبيعى بعد ذلك؟!، أو هل سيقدر على معاودة عمله من جديد؟!، هل سيتم الإمساك بمن قاموا بالاعتداء عليه؟!، لقد كان من أفضل المصورين الصحفيين فى مصر، وقبل أن أنسي، أود تذكيركم أن فى هذه اللحظة التى نتحدث فيها، هناك وقفة احتجاجية لبعض زملائى الصحفيين على سلم نقابة الصحفيين، وهى مبادرة تامة من الجمعية العمومية، وهؤلاء هم عماد العمل الصحفى الجاد فى مصر. الصحفى هو شخص تعرفه ويعرفك، يحاول مساعدتك وإيصال المعلومة لك، وليس شخصا يجلس فى غرفة زجاجية مكيفة ويعتبرها منصة سياسية يحشد ويوجه ويبث منها خطاب كراهية ضد فصيل معين. تحولت مهنة الصحافة فى بلدان العالم العربى إلى مهنة البحث عن القتل، بدلا من مهنة للبحث عن متاعب ليس من بينها القتل والإصابة والاعتداء والاحتجاز والسجن والاختطاف وتحطيم المعدات والمنع من العمل، وهى أنماط الانتهاكات التى باتت شائعة فى عالمنا العربي. انتكاسة كبرى يكفينا معرفة أن من بين 70 صحفيا قتلوا فى عام 2013 يوجد 49 صحفيا قتلوا فى العالم العربي، لندرك حجم خطورة وضع الصحفى الذى يعمل فى منطقة هى الأكثر دموية فى العالم 70% من الصحفيين القتلى فقدوا حياتهم فى العالم العربي، على الرغم من المؤشرات الأولية الإيجابية التى حملتها الثورات العربية إلا أن الأمر تحول فى النهاية إلى انتكاسة كبيرة وعدوان لم يسبق له مثيل على كل من ينتمى لمهنة الصحافة، ويكفى الإشارة إلى أن 2009 على سبيل المثال لم يشهد إلا مقتل 5 صحفيين مقارنة بالصحفيين ال 49 الذين قتلوا فى أكثر الأعوام دموية وهو عام 2013.. وبالمناسبة لا تجعل مقتل 3 فقط من الصحفيات يجعلك تعتقد أن الاعتداء عليهن أقل، فعددهن فى الانتهاكات الأخري، كما أنه يكشف جزءا من انتكاسة وضع المرأة بشكل عام عقب قيام الثورات وصعوبة حصول الصحفية على وظيفة لتغطية المواقع المهمة. ثلاث دول عربية تصدرت قائمة أكثر الدول خطورة للصحفيين وفقا لتصنيف لجنة حماية الصحفيين، وهى سوريا ثم العراق ثم مصر، سوريا وحدها حازت على نسبة 55% من عدد قتلى الصحفيين فى المنطقة بسبب الحرب الدائرة بها منذ عام 2011، حيث كان العام 2013 الأكثر دموية، أما بالنسبة لمصر فقد حصلت على المركز الثالث بعدد قتلى وصل فى إحصاء لجنة حماية الصحفيين إلى 7 بينما نختلف معهم فى احتساب الزميلة حبيبة عبدالعزيز التى تلقت رصاصة فى الرأس بينما تمسك الكاميرا فى يدها وأن العدد الفعلى 8 قتلى منهم صحفى واحد أجنبى هو مصور شبكة سكاى نيوز. حروب الشوارع يكفى أن نعرف أن مصر تصارعت مع العراق على المركز الثانى حتى الأسبوع الثانى من شهر ديسمبر 2013 عندما قتل صحفيان فى العراق، لندرك مدى خطورة الوضع 25% من قتلى الصحفيين فى المنطقة كانوا فى مصر وهى دولة تمر بمرحلة انتقالية قاسية ولكنها ليست فى حالة حرب. الحقيقة هى أنه فى حال تصاعد العنف فى الشارع المصرى الذى يرقى فى بعض الأحيان وفقا لتصنيفات الخبراء إلى «حروب الشوارع» يمكن أن يصاب الصحفى لعدة أسباب هي: - الأول: وجود الصحفى فى المكان الخطأ فى الوقت الخطأ. - الثاني: استخدام أسلحة لا تعرف التمييز. استهدافه لأن الجميع يبدأ عندما يرتكب العنف يبدأ فى البحث عن الشاهد لقتله أو إصابته أو منعه من العمل على أقل تقدير، ما يحدث هو استهداف واضح للصحفيين محليين وأجانب ومواطنين صحفيين، فمع تصاعد العنف والنزاعات، دائما يبحث مرتكبو العنف عن الشاهد الصامت ليعتدوا عليه. الكاميرات تحول الصحفيين إلى أهداف حية، كما تشير الإحصائات، ولهذا فأغلب الصحفيين القتلى أو المصابين أو من تعرضوا لانتهاكات أخرى من «المصورين» وهم الفئة الأكثر تعرضا للاعتداء، كما أن المحررين أو المراسلين المغدورين ارتبط استهدافهم فى أغلب الأحوال بسبب حيازتهم هم أنفسهم، أو أحد فى محيطهم كاميرا، أى صحفى يحمل كاميرا يمكن أن يكون هو وفريقه هدفا لشارع غاضب وعنيف. قاعدة أساسية ندرسها فى «دورات أمن وسلامة الصحفي» حين العمل فى بيئات معادية هى تقليل التعرض والانكشاف، ودائما نقول كمدربين سلامة مهنية للصحفيين الميدانيين المتدربين أنه بمجرد أن يعرف فى الموقع العنيف أنك صحفى يبدأ عداد أمنك وسلامتك فى العد التنازلي، العجيب أن الحروب التقليدية يمكن أن تكون أكثر أمنا فى تلك النقطة إذ من بين كلاسيكياتها احترام شارة يرتديها الصحفي، غير أن التجمعات العنيفة أو السلمية التى يمكن أن تنقلب إلى عنف هى الأخطر، دعونا نتخيل من يتواجد فى مظاهرة مثلا: هناك المتظاهر المعارض والمتظاهر المؤيد وأجهزة الأمن بأنواعها ومنها من يرتدى زيه الرسمى ومنهم من يرتدى ملابس مدنية وهناك سكان المنطقة والمارة والمندسين والبلطجية وفئة جديدة اصطلح على تسميتها ب «المواطنين الشرفاء» وهناك اللصوص والمتحرشين والباعة الجائلين وأطفال الشوارع والمتفرجين الذين يزيد عددهم فى بعض الأحيان فى الفئات السابقة مجتمعة، السؤال هو: هل من الحكمة أن يظهر الصحفى هويته أمام كل هؤلاء الذين قد يتخذ أى منهم موقفا معاديا ضده؟ الشارة الدولية أحترم بشدة «حملة الشارة الدولية» ولكن ارتداء الصحفى لشارة تظهر هويته قد يكون أمرا مميتا بالنسبة له، ولهذا طورت الحملة مطالبها ومن بينها المطالبة باتفاقية دولية لحماية الصحفيين، إذ أن الاتفاقية الوحيدة التى تحمى الصحفى فى مناطق النزاع هى اتفاقية جينيف لحماية المدنيين، ولهذا نشدد دائما على الصحفيين بعدم حمل أى شيء يمكن تصنيفه كسلاح لأن ذلك يضعهم خارج حدود تلك الاتفاقية. لعل الأخطر من الانتهاكات التى يتعرض لها الصحفيون هى إفلات قتلة الصحفيين والمعتدين عليهم من العقاب، لأن ذلك يشجع على المزيد من استهداف الصحفيين.