عشرات الأسئلة تطرح نفسها مع استمرار موقع ال«وكيليكس» في نشر المزيد من الوثائق السرية، وآخر الحصيلة 250 ألف وثيقة جديدة حصة الشرق الأوسط - ومصر بالذات- لا بأس بها، ويحتاج الأمر إلي فريق من المترجمين لتقديم كل تلك الوثائق إلي الشعوب العربية التي تتطلع لمعرفة ما الذي كان يتم وراء الأبواب المغلقة ورؤساء وسفراء ومبعوثي الولاياتالمتحدة، ولابد أن ذلك سيؤدي إلي تغيير كبير في طريقة فهم السياسات العربية الحقيقية، حين تثبت الوثائق أن كثيرا مما يقال في العلن وأمام الميكروفونات وشاشات الفضائيات ،يختلف عما كان يقال في الغرف السرية إلي أن جاء موقع «الوكيليكس» ليفتح الخزائن السرية في أكبر عملية تسريب في التاريخ لكل هذا الكم من الوثائق السرية، والأهم أنها لاتزال مهمة في متابعة وتحليل العديد من القضايا العربية والدولية الحالية.. ولم يكن مستغربا أن تشتد محاولات إلقاء القبض علي مؤسس ال«وكيليكس» الاسترالي «چوليان اسابنج» ، والذي اضطر للنزول تحت الأرض هاربا من المطاردات، علاوة علي استمرار الهجمات الألكترونية علي «الموقع الألكتروني نفسه فتعرض للإغلاق لفترة إلي أن يتم العثور علي مستضيف اليكتروني له ليواصل مهمته في نشر الوثائق السرية تحت شعار «حق الشعوب في أن تعرف ما يجري في الغرف السرية». ترقب وتعيش دول الشرق الأوسط علي وجه الخصوص وزعماء هذه الدول في المقدمة حالة من الترقب والقلق إزاء استمرار نشر الوثائق، التي أحدثت أزمات سياسية مع الإدارة الأمريكية بسبب أهمالها وسوء وتخلف أساليبها في حفظ الأسرار، حيث بدت دول المنطقة قلاعا عصية علي الاختراق، فيما يجري بشكل مستمر اختراق الأسرار الأمريكية ونشرها علي الملأ، وهو ما دعا وزيرة الخارجية الأمريكية «هيلاري كلينتون» إلي عرض تقديم استقالتها من منصبها، وهو ما رفضه الرئيس باراك أوباما. السياسة المصرية في وثائق ال«وكيليكس» التقييم الأمريكي للسياسة المصرية كشف الكثير من التناقضات والخلافات المصرية - الأمريكية ، وعدم رضا الولاياتالمتحدة في كثير من الأحيان عن تلك السياسة فالوثائق الصادرة عن السفارة الأمريكية في القاهرة تصف مصر بأنها «حليف عنيد ومتمرد أحيانا» وفي التفاصيل أسرار خطيرة مثل تهديد الرئيس حسن مبارك ببدء برنامج نووي إذا ما تمكنت إيران من تطوير أسلحة نووية، وهو ما يكشف عن طبيعة الموقف المصري من البرنامج النووي الإيراني، الذ ي يقوم في العلن علي دعم حق إيران في تطوير برنامج نووي للأغراض السلمية ، ولكن إذا تخطي الأمر الأغراض السلمية النواحي العسكرية، فأن مصر تري أن من حقها الدخول في سباق مع إيران لكي يكون لها برنامج نووي يمكنها من مواجهة البرنامج الإيراني الذي يشكل تهديدا للأمن القومي. وذلك خلافا لما يردده بعض الخبراء الاستراتيجيين والسياسيين من أن البرنامج النووي الإيراني لا يشكل تهديدا لمصر والدول العربية. والمثير أن معظم القادة العرب خاصة في الخليج أعربوا عن مخاوفهم العميقة من البرنامج الإيراني ، ومنهم العاهل السعودي الملك عبدالله وفقا للوثائق التي سربها ال«وكيليكس» حيث دعا الإدارة الأمريكية السابقة إلي اتخاذ موقف حاسم تجاه البرنامج النووي الإيراني. وهذه المواقف تقترب كثيرا مع الموقف الإيراني المعلن من ضرورة ايقاف البرنامج النووي الإيراني باعتباره موجها ضد إسرائيل وللسيطرة علي العالم العربي وإرهاب دول الخليج أساسا، وتهديد مصادر الطاقة المهمة للولايات المتحدة والدول الرأسمالية الكبري، مما يلزم وجود تعاون بين تلك الجهات جميعا ضد إيران. «حماس» وحرب غزة وبينما أظهرت الوثائق رفض مصر لحصار غزة وشن الحرب عليها لكنها أظهرت التوافق العربي - الإسرائيلي تجاه حركة حماس، حيث اعتبرتها إسرائيل عدوا يجب التخلص منه ومصر اعتبرت الحركة خطرا علي أمنها القومي وعلي القضية الفلسطينية وكثيرا ما انتابت المسئولين في مصر حالة يأس من امكانية استجابة حركة حماس للوساطات المصرية المتتالية لتحقيق الوحدة الفلسطينية، إضافة إلي عدم الرضا عن الجهود الأمريكية في المنطقة.. وكذبت السفيرة الأمريكية الحالية في القاهرة (مارجريت سكوبي) وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط تقول أن مبارك يكره حماس ويعتبرها مثل الإخوان المسلمين في مصر لأنها التهديد والخطر السياسي الأكبر بالنسبة له».. وتضيف سكوبي لا يمكن أن تقوم مصر بأي تصرف يمكن تصوره علي أنه مشاركة في الحصار الإسرائيلي علي غزة كما أنهم شديدو الحساسية تجاه أي اقتراح بوجود مراقبين أجانب لمساعدتهم في مراقبة الحدود مع غزة، وتعتبر مصر أن الحل الوحيد الواقعي لإضعاف سلطة «حماس» ووقف تهريب الأسلحة هو عودة السلطة الفلسطينية لقطاع غزة وفتح الحدود للتجارة المشروعة. ديكتاتور في العراق كما تظهر الوثائق إضافة إلي ملفي إيرانوغزة عدم الحماس المصري لعملية ديمقراطية طويلة الأمد في العراق استنادا إلي التقييم المصري بأن طبيعة العراقيين عنيفة وترجيح الرئيس مبارك لسيناريو يسمح بتقوية الجيش إلي الحد الذي يحدث من خلاله انقلاب عسكري يقوده ديكتاتور عادل قوي في مواجهة الطائفية السياسية والخلافات الحزبية الحادة. وما ترسمه الوثائق الأمريكية يقترب من فكرة إعادة استنساخ صدام حسين مرة أخري ولكن بشروط محسنة، مع استبعاد الرهان علي نجاح التجربة الديمقراطية في العراق، وهو ما يختلف عن السياسة الأمريكية التي ركزت علي استمرار الرهان علي تلك التجربة حتي لا تفقد الولاياتالمتحدة كل ما راهنت عليه من احتلال العراق لإقامة نموذج ديمقراطي تعددي في الشرق الأوسط علي انقاض نظام ديكتاتوري مستبد أدخل العراق في عدة حروب متتالية وحروب ونزاعات أهلية وطائفية في الداخل.. ولم تخف الوثائق الأمريكية علي كل حال استمرار الرئيس مبارك في اظهار (شماتته) من السياسة الأمريكية في العراق مع استمرار انفجار عملية الإرهاب والعنف وسقوط آلاف (القتلي الأمريكيين والعراقيين حيث قالت سكوبي: يستمتع الرئيس مبارك بإعادة العبارات التي حذر بها الرئيس الأمريكي چورچ بوش من غزو العراق علي مسامع أعضاء الكونجرس الذين يزورنه في القاهرة حيث يختتم حديثه برفع أصبعه في وجوههم قائلاً : لقد قلت لكم ذلك»! حقوق الإنسان والإخوان والمعونات القضايا الداخلية تحتل مكانة لا بأس بها في الوثائق الأمريكية وهي لا تحمل الكثير من المفاجآت فالإدارة الأمريكية واجهت الغضب المصري من طرح قضايا حقوق الإنسان خاصة ما يتعلق بالدكتور سعد الدين إبراهيم وأيمن نور وكذلك جماعة الإخوان المسلمين واعتبرت أن الحديث عن هؤلاء بنبرة انتقادية يعتبر تدخلا غير مقبول في الشئون الداخلية المصرية، والقضاء المصري الذي يعالج تلك القضايا.. كما أبدت مصر غضبها في تقليص المعونات الأمريكية من 415 مليون دولار عام 2008 إلي 200 مليون دولار عام 2009 «ليس لأن مصر تحتاج المال كما يقول المسئوليون المصريون وإنما لأن ذلك يضعف من قوة العلاقة مع واشنطن».. واقترحت «سكوبي» تخصيص أموال للصحة والتعليم والقضاء علي الفقر لتبديد مخاوف المصريين المعارضين للتركيز علي المعونات العسكرية (1.3 مليار دولار سنويا) كما أظهرت عدم سعادة مصر بتوجيه جزء من المعونات لدعم الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني إجمالا فأن الوصف الدقيق الذي جاء في إحدي الوثائق حول رؤية الولاياتالمتحدة لمصر بأنها (حليف عنيد) ربما تعبر عن الحقيقة، فالسياسة المصرية الأمريكية لم تشهد خلافات جذرية حتي أيام الرئيس بوش وتوقف الرئيس مبارك عن زيارة الولاياتالمتحدة ، فقد استمرت العلاقات الاستراتيجية مع استمرار الخلاف حول التفاصيل التي ظلت حبيسة الوثائق السرية حتي كشفها ال«وكيليكس»، ويبدو أنه مازال في جبعته الكثير من التفاصيل المثيرة جداً.