عرضنا في المقال السابق لوجه الليبرالية المضيء حين قضت على النظام الإقطاعي الفيودالي بأبنيته"الفوقية"المكرسة للتخلف و توظيف"اللاهوت"لكبح حريات"الناسوت",و إحلال الشعوذات و الخرافات محل التفكير العقلاني, وإهدار قيمة العمل لصالح الأقلية المغتصبة للسلطة و الثروة في آن. يتصدى هذا المقال لبرهنة كيفية تنكر الطبقة البرجوازية لفكرها الليبرالي الهيوماني المستنير؛بعد تحولها إلى النظام الرأسمالي الذي طالت مفاسده ليس فقط شعوب أوروبا؛بل كل الشعوب التي وقعت فريسة للاستعمار الأوروبي الذي يمثل انتكاسة في تاريخ البشرية معلوم أن ذيوع الفكر الليبرالي قد أسفر عن نقلة في حقل البحث العلمي نتيجة تطبيق المنهج التجريبي.و معلوم أيضاً أن التطور العلمي في مجال الطبيعيات والرياضيات كرس لخدمة أغراض عملية خصوصاً في مجال الصناعة؛بما يفسر قيام"الثورة الصناعية"تلك التي تأسست على اكتشاف قوة "البخار"من ناحية و تطور صناعة"الصلب"من ناحية أخرى.إذ بفضل ذلك جرى توظيف"الآلة"في عمليات إنتاج السلع المصنعة بدرجة من الكفاءة ,كذلك زيادة الإنتاج و جودته؛الأمر الذي يسد حاجة الاستهلاك المحلي ويصدر الباقي إلى الخارج؛فيما عرف"بالإنتاج من أجل السوق"_Mass production_نظراً لعظمته من حيث الكم؛فضلاً عن جودته كيفا من جراء التنافس بين المنتجين لتسويق الفائض السلعي؛بما يضمن استمرارية الإنتاج من ناحية,و توظيفه في المزيد من الإنتاج عن طريق إنشاء مصانع جديدة؛من ناحية أخرى. من أجل ذلك؛تعاظم التنافس بين أصحاب العمل للحصول على المزيد من المواد الخام؛فضلاً عن فتح أسواق جديدة في الخارج.من هنا تحول التنافس إلى صراع بين الدول الصناعية وهو ما أدى إلى ما عرف بحركة الاستعمار الأوروبي.و هو ما يفسر حروب نابليون في أوروبا و منافسة إنجلترا في تكوين إمبراطورية مماثلة. في نفس الوقت؛جرى الاهتمام بعلم الاقتصاد و توجيهه من أجل حيازة ثروة الأمم المستعمَرة وفق أساليب النظام الرأسمالي الذي نظر له علماء من أمثال آدم سميث و ريكاردو و غيرهما. و ما يعنينا هو أن الثورة الصناعية أسفرت_ضمن ما أسفرت_عن مشكلات جديدة ذات طابع اقتصادي_اجتماعي عكست تأثيراتها على الواقع السياسي؛بطبيعة الحال.هذا فضلاً عن إبداع "إيديولوجيا"الليبرالية كغطاء فكري يعانق هذا الواقع الجديد.من أهم خصائصها وضع ما عرف ب"قوانين السوق"التي تستهدف تحقيق"مجتمع الرفاهية"للنخبة أصحاب رأس المال على حساب العمال المنتجين من ناحية,و شعوب المستعمرات من ناحية أخرى.و بطبيعة الحال غدت تلك النخبة تمثل عصب"الدولة الحديثة"و توجهها لخدمة النظام الرأسمالي؛و ذلك بصياغة نظم في التعليم و الإعلام و الثقافة تروج للإيديولوجية الليبرالية. من سمات تلك الليبرالية؛الزعم بتحقيق الحرية و العدالة و المساواة و الديمقراطية؛باعتبارها من نتاج "آليات و قوانين السوق". لم تكن تلك المبادئ المعلنة سوى مجرد شعارات زائفة و مفرغة من مضامينها الإنسانية. فعلى الصعيد الاقتصادي؛مر النظام الرأسمالي_و لا يزال"بأزمات فادحة رغم جهود منظريه و مؤسساته في حلحلتها. و على المستوى السياسي؛أفضى تنافس الدول الاستعمارية إلى حربين عالميتين؛اكتوى العالم بويلاتهما؛ فضلاً عن العديد من الحروب الصغيرة في المستعمرات؛كحرب فيتنام و كوريا والجزائر وغيرها. و على الصعيد الاجتماعي؛أسفرت الثورة الصناعية عن ظاهرة"البطالة"نتيجة ما ترتب على استخدام"الآلة"في الإنتاج على حساب الطبقة العمالية.و إذ حاولت الدول الصناعية حلحلتها عن طريق تجنيد العمال في حروبها؛لم يجد هذا الأسلوب في الحيلولة دون اندلاع حركات عمالية_و ثورية أحياناً_نتيجة تعاظم الوعي السوسيو_سياسي الذي بثه منظرو الفكر الاشتراكي؛بما أسفر عن ميلاد العديد من الدول الاشتراكية المناهضة للاستعمار و النظام الرأسمالي؛سواء بسواء. و حسبنا الإشارة إلى أن الكثيرين من الفلاسفة و المفكرين تصدوا لدحض مزاعم نظرائهم الليبراليين؛منذ تخلت البرجوازية الأوروبية عن أفكارها الإنسانية التي طرحتها إبان صراعها مع الإقطاع الفيودالي.بل إن الرأسمالية نفسها أسهمت في إضعافها وعزلها عن مواصلة دورها التاريخي. يعد الفيلسوف"هيجل"من أشد خصوم الفكر الرأسمالي الليبرالي؛إذ وجه هجومه على نزعتها"الفردانية"التي تشكل قوامها البنيوي.ذلك أن فلسفة السياسة تعول على تجسيد مفهوم"الدولة"باعتبارها القوة"المتعالية"المعبرة عن قوى المجتمع.كما هاجم المؤسسات النقابية و منظمات المجتمع المدني؛باعتبارها مجرد حيل مخادعة"تدس السم في العسل".و يقول بصدد ذلك:"إذا خلطنا بين الدولة و المجتمع المدني,و جعلنا الغاية من الدولة إقرار الأمن و حماية الملكية الخاصة و الحرية الشخصية؛لكانت مصلحة الأفراد هي غاية الغايات…لا لشيء إلا لأن الفرد لن تكون له كينونة أصيلة و لا حياة أخلاقية قويمة إلا بكونه عضواً من أعضائها"؛و هو ما لم تحققه الرأسمالية التي تستهدف تحقيق رفاهية"النخبة"من"فائض قيمة"عمل الطبقة المنتجة؛و هو أمر يفضي إلى الفساد السياسي و الانهيار الاجتماعي.بل أعلن هيجل أن مفهوم"الديمقراطية"محض خداع يقصد من ورائه هيمنة"النخبة"على الدولة وتوجيهها لتكريس مصالحها؛فهي لذلك"فكرة ساذجة وديماجوجية"؛لأن المؤسسات السياسية يجب أن تؤسس على وعي المواطنين.و من ثم فمن أهم حقوقهم المشاركة الفعلية_لا الشكلانية_في ترجمة إرادتهم إلى ما يحقق مصالحهم جميعاً.باختصار يرى هيجل أن آليات النظام الرأسمالي تفضي إلى فقر الأغلبية و ثراء الأقلية. أما"كارل ماركس"؛فكان انتقاده للرأسمالية أشد و أنكى.إذ اعتبر رأسمالية الدولة وسيلة لتحقيق مكاسب مادية لصالح أصحاب العمل؛بما يطيح بالقيم الإنسانية.و يرى أن الحل يكمن في هيمنة الكثرة_البروليتاريا_على الدولة,عندئذ يصبح في وسعها إلغاء الطبقات و القضاء على الملكيات الخاصة.و من هنا؛صدق حكمه بأن الماركسية"تستهدف_في التحليل الأخير_تغيير العالم". أما المفكر الأمريكي"رايت ميلز"؛فقد ركز انتقاده للنظام الرأسمالي الليبرالي على حقيقة كونه مسئولاً عن اضمحلال الطبقة الوسطى؛نتيجة الاعتماد على بديل لها يتمثل في"البيروقراطية"الموالية للرأسماليين.و قد ترتب على ذلك تمييع الصراع الطبقي؛و من ثم الحفاظ على "الأمر الواقع"المكرس لديمومة النظام الرأسمالي.و تلك محاولة لتحويل الصراع بين أصحاب العمل و العمال إلى نزاع ثانوي مع البيروقراطيين؛بما يفضي إلى تزييف الوعي. على نهج"رايت ميلز"؛يرى"جاك إيلول"أن الليبرالية باعتبارها غطاء إيديولوجياً للرأسمالية ليست_في الحقيقة_سوى"أوهام سياسية"تسلط أسلحتها_المتمثلة في التكنولوجيا و الإعلام و البيروقراطية_في تزييف الوعي عن طريق الإيهام بحرية التعبير؛دون حرية التأثير بله التغيير السياسي.عندئذ تغدو المؤسسات الديمقراطية_شكلاً ليس إلا_دون جدوى.هذا في الوقت الذي يتعاظم تأثير"اللوبيات"_من وراء الستار_في توجيه السياسات. لذلك كله_و غيره الكثير الذي لا يتسع المقام لذكره_نرى أن الفكر الليبرالي عموماً ما هو إلا إيديولوجية مخاتلة و مبهرة في آن.إذ هي محض"وعي زائف"و مشوه؛لا لشيء إلا للبون الشاسع بين مفهومها النظري و الممارسة العملية.و بالقدر الذي استيقظت فيه الشعوب من غفوتها؛تعرت الليبرالية من ثيابها الزاهية؛لتسفر عن وجهها الحقيقي القبيح في امتصاص نخاع الشعوب. و نظراً لكونها قادرة على تجديد نفسها؛ضماناً لاستمرارية سياستها في"النهب المنظم"؛ارتدت_منذ سبعينيات القرن الماضي_ثياباً جديداً لإخفاء عوراتها.لم تكن تلك الثياب إلا ما عرف باسم"الليبرالية الجديدة"؛و هو ما سنتناوله في مقالات تالية.