تختلط الأوراق فى ساحة الفعل السياسى المصري، فتتطاير آراء وأفكار مثيرة للغثيان، فأحد الذين يكرسون أنفسهم كزعماء منذ 25 يناير إلى ما بعد 30 يونيو يبرر قيام الحمقى بتدمير حجر الأساس للنصب التذكارى بأن من وضع الأساس كان يوما ما عضوا فى لجنة سياسات الحزب الوطني، وآخر لا أعرف إن كان لم يزل قيادا فى الديمقراطى الاجتماعى أم لا يرى أن تدمير حجر الأساس هو نتيجة لا يجب التوقف أمامها كثيرا بل نتوقف أمام السبب لنسأل من وضع بيده غير الكريمة حجر الأساس، ولا يدرك هذا أو ذاك أن ثمة أشياء تكتسب قدسيتها من ذاتها وليس ممن فعلها، فمثلا نحن اعترضنا على كثير جدا من سياسات السادات وخاصمناه نحن وجموع كثيرة من المصريين معترضين عليها ومستنكرين بالأساس زيارته لإسرائيل وكامب ديفيد لكننا لم نهدم بل ولم نتجاسر على عدم احترام النصب التذكار لشهداء أكتوبر الذى وضع هو حجر أساسه، وحتى التكفيريين الأشد تطرفا يعتبرون أن المساجد التى يبنيها الطاغوت مساجد ضرار لكنهم يكتفون بعدم الصلاة فيها ولا يهدمونها، والعلم رمز الوطن نحن لا نعرف من صنعه فقد يكون عدوا وقد يكون إخوانى الانتماء لكن هذه القطعة من القماش تكتسب احترامها وتقديسها من ذاتها.. لكن البعض يخلط الأمور، أو هى تختلط فى ذهنه فيحاول أن ينقل فهمه المريض إلى الآخرين.. فيقع الخلل وتسود حالة من الخبل أفكار البعض ممن يسمون أنفسهم «ثوريين». وهناك فى القانون جريمة تسمى «انتحال الصفة» كأن ينتحل سباك صفة طبيب مخ وأعصاب ولا يعاقبه أحد على توهمه المرضى لكنه يعاقب إذا ما مارس توهمه عمليا، وفى الدين هناك من ينتحل صفة ممثل السماء، كأن يعلن حسن البنا أن برنامجه «عام 1936» كله من الإسلام وأن كل نقص منه نقص من الإسلام ذاته فيصادر الدين لحسابه، ويمنح بديع الفرصة كى يصيح فى رابعة إن عزل مرسى أشد كفرا من هدم الكعبة حجرا حجرا، ويتكاثر انتحال الصفة فى ساحات ميدان التحرير ومحمد محمود، وتسمع عن مهن وصفات مثيرة للدهشة مثل «ناشط سياسي» و»خبير استراتيجي» و»خبير أمني» و»داعية» وأيضا هناك جماعة تنتحل صفة «الاشتراكيين الثوريين» وتستمع إليهم وتعاين أفعالهم فتجدهم لا اشتراكيين ولا ثوريين، فهل ثمة اشتراكى ينسى ولاءه الطبقى ليمارس تحالفا خفيا مع أشد القوى السياسية يمينية، وهل هناك ثورى يتجاهل مخاصمة أعدى أعداء الثورة؟ وهل يمكن تخيل اشتراكى ثورى يقف فى محمد محمود مرددا ذات ما يردده تنظيم الإخوان الفاشى وحلفاؤه من خصوم التقدم والانحياز للمستقبل؟ والحقيقة أن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالاشتراكيين الثوريين يمارسون فعل انتحال الصفة الفاضح فهم يرددون أكثر الشعارات ثورية بل وتطرفا فى الثورية لكنهم يمارسون فى الواقع أشد الأفعال والمواقف يمينية، تماما كما فعل ملهمهم تروتسكى الذى دفعته خصومته لستالين إلى الوقوف مع النازى فى حربهم ضد الوطن السوفييتى بمقولة إن إزاحة ستالين وإسقاط حكم الحزب الشيوعى السوفييتى هو الأولوية الأولى حتى لو احتل النازى أرض الوطن فبعدها سيخوضون «وبعد فوات الأوان» حرب تحرير الوطن من النازي، وبرغم ركاكة هذه النظرية وإجرامها فإنها تعنى فى جوهرها عزلة التروتسكيين عن شعب وطنهم بل وعدم ثقتهم فى قدرته على المواجهة فيتطلب الأمر الاستعانة بعدو الوطن ثم بعد ذلك نحارب العدو وهكذا هم يفعلون اليوم، يعلنون أنهم ضد حكومة الببلاوى «ليس بسبب خطأ هنا أو هناك وإنما لأنها حكومة» وضد الجيش بزعم أنهم ضد حكم العسكر، ويخوضون هذه الحرب جنبا إلى جنب مع الإخوان الفاشيين خصوم الوطن وخصوم التقدم، ثم وبعد هزيمة الحكومة والجيش وإزاحة الببلاوى والسيسي، يتحولون ضد الإخوان، هل هذا عاقل؟ أو هو معقول؟ ثم أسألهم إن كنتم تريدون إزاحة الإخوان أصلا فأين كنتم طوال الفترة من 28 يناير 2011 وحتى 30 يونيو 2013 وماذا رفعتم من شعارات؟ وماذا فعلتم يا من تدعون الثورية؟ ثم إذا كنتم اشتراكيين حقا وثوريين حقا فكيف تقفون فى مواجهة 30 مليونا خرجوا ليسقطوا وفورا حكم مكتب الإرشاد؟ وماذا كان مطلبكم يومها؟ وإذا كنتم تزعمون أنكم قيادة ثورية لشعب تحركت ملايينه ثائرة فأين أنتم من هذه الملايين؟ ولماذا لم يخرج معكم سوى أنفسكم وحدكم أى بضع مئات لا أكثر؟ كل هذا الضجيج وكل هذه الثورية حصادها بضع مئات من بين تسعين مليونا؟ ألا يقلقكم ذلك ويلقنكم درسا حاسما يقول إنكم بما تقولون وبما تفعلون تقفون فى مواجهة شعب يرفضكم. ولقد حاورت واحدا منكم قال إنه عضو بمكتبكم السياسى فى إحدى الفضائيات فكان مسكينا متلعثما وهو يجيب عن سؤال وجهته له: يعرف الماركسيون أن هناك تناقضا رئيسيا وتناقضات ثانوية فأين تناقضكم الرئيسي؟ فأجاب فى وهن: ضد الحكومة والجيش، فقلت وماذا عن الإخوان؟ فأجاب نتخلص أولا من ديكتاتورية الحكومة والجيش وبعدها نفكر فى الإخوان إنهم لا يدركون ظلام وظلامية الهوة التى يسعون إليها بأقدامهم. والحقيقة أن هذه الفكرة التى ترتدى ثيابا نظرية قد أطلقها ستالين فى زمان عجز النموذج السوفييتى عن النهوض لتلبية احتياجات البناء الاشتراكى فى نهاية عشرينيات القرن الماضي.. وتقول الفكرة بوجوب التمييز بين العدو الرئيسى وبين اتجاه الضربة الرئيسية فى دول المستعمرات وأشباه المستعمرات ومن ثم فإن الرجعية الموالية للاستعمار والتى تتشكل من كبار الملاك العقاريين الذين يستغلون الفقراء أبشع استغلال ويبيعون الوطن بأبخس الفتات هذه الرجعية هى العدو الرئيسى لكن موعد المعركة معها لم يأت بعد، وإنما اتجاه الضربة الرئيسية التى توجهها الأحزاب الشيوعية تكون ضد البرجوازية الوطنية والتى تتشكل أساسا من الطبقة الوسطى وبالتالى فقد كان على الحزب الشيوعى أن يوجه كامل عدائه وخصومته أولا وقبل كل شيء ضد حزب الوفد فى مصر، وحزب المؤتمر فى الهند والكومنتانج بزعامة صن يات صن فى الصين، لماذا؟ لأن أحزاب البرجوازية الوسطى والتى ترفع رايات النضال الوطنى ضد الاستعمار، قد قامت كما فى النص «بإلقاء علم الحريات فى الوحل، ونجحت فى تضليل الجماهير الشعبية ومن ثم يتعين فضحها وشن الهجوم عليها، وعلنا رفض الشيوعيون المصريون أن يتركوا القصر الملكى والاحتلال ويحاربوا حزب الوفد الذى كان يقود عملا جماهيريا شجاعا دفاعا عن الدستور ورفضنا لحكم البطش الموالى للاحتلال الذى مارسته حكومة القبضة القوية «محمد محمود باشا حزب الأحرار الدستوريين الممثل لكبار الملاك»، وفى الهند تجاهل الحزب الشيوعى تحت قيادة المناضل م. ن روى هذه الدعوة وفى الصين قاد ماوتس تونج جيش التحرير الشعبى المكون من جماهير الفلاحين وصغار الملاك ومتوسطيهم والمثقفين لتحرير الصين، على أن ستالين سرعان ما اكتشف خطأ هذه الفكرة وأسرع فى حشد كل قوى الثورة لبناء قلعة صناعية وزراعية نهضت بالاتحاد السوفييتي، وسقطت إلى الأبد قصة اتجاه الضربة الرئيسية بل على العكس قامت الأحزاب الشيوعية ببناء جبهات شعبية تضم كل القوى المعادية للنازية، ويواصل ستالين تجديده لأفكاره فتنشأ فكرة بناء ديمقراطيات شعبية متعددة الاتجاهات الطبقية لقيادة الحكم فى دول أوروبا الشرقية وفى نهاية أيام ستالين أصدر كتابه الشهير «قضايا اشتراكية» الذى أشار فيه إلى تعاظم التناقضات بين الدول الاستعمارية وبعضها البعض وإلى ضرورة توصيل القوى الشعبية المناهضة للاستعمار للاستفادة من ذلك التناقض، أما المجلة التى أصدرها الكومنفورم فيما بعد فى تشيكوسلوفاكيا لتنطق باسم كل الأحزاب الشيوعية فى العالم فقد سميت «من أجل سلام دائم وديمقراطية شعبية» ويبقى بعد ذلك كله أننى عدت لمطالعة كتاب لينين «الشيوعية اليسارية عبث أطفال» وتيقنت من أن ما نراه من أقوال وممارسات هو وياللأسف «عبث أطفال» وأخيرا فإننى أسجل أننى وفى نهاية الحوار التليفزيونى مع المسكين عضو المكتب السياسى لهذا المسمى «الاشتراكيين الثوريين» ناشدته ثم كررت المناشدة عدة مرات كى نجلس معا لنناقش ونتحاكم إلى النظرية وإلى التاريخ وإلى الواقع ولكنه رفض مصمما أنهم متمسكون بموقفهم، وكعادة أمثالهم من منتحلى الصفة هم يعتقدون أنهم وحدهم هم والبضعة من العشرات أو المئات التى تعوم على موجتهم هم كل الحقيقة.. وما عداهم من التسعين مليونا من المصريين.. باطل ويبقى أن أشير إلى أن ترجمة أكثر دقة لكتاب لينين ترجمت عنوان الكتاب «الشيوعية اليسارية مرض طفولي».. شفاهم الله من هذا المرض.