من الخطأ النظر إلي كتابة الدستور المصري الجديد باعتباره قضية فنية فقهية يتولي صياغته أساتذة وفقهاء القانون الدستوري، فالدستور وثيقة يشارك في صياغتها كل أطياف المجتمع السياسية والاجتماعية والطبقية والسنية والمناطقية، باعتباره «القانون الأعلي» الذي يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة «بسيطة أم مركبة»، ونظام الحكم «ملكي أم جمهوري» وشكل الحكومة «رئاسية أم برلمانية»، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وينظم السلطات العامة فيها من حيث التكوين والاختصاص والعلاقات بينها ومدي استقلال كل منها عن الأخري والرقابة المتبادلة بينها، والواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات، ويضع الضمانة لهم تجاه السلطة، ويقتصر دور أساتذة وفقهاء القانون الدستوري علي الصياغة الدقيقة والمنضبطة للمبادئ والأسس والنصوص التي تتوافق عليها اللجنة المكونة والممثلة لأطياف المجتمع، سواء كانت لجنة معينة أو منتخبة مباشرة من الشعب أو عهد إلي كل هيئة ومؤسسة وجماعة من الأطياف المختلفة للمجتمع باختيار ممثليها في لجنة الدستور، كما حدث في لجنة الخمسين المكلفة بتعديل الدستور المصري، وعلي الأصح المكلفة بكتابة الدستور المصري الجديد، بدلا من دستور 2012 الإخواني السلفي الذي أسقطته ثورة 30 يونيو 2013. لقد بدأت لجنة الخمسين عملها يوم الأحد الماضي بتشكيل هيئة مكتبها من رئيس وثلاثة نواب للرئيس ومقرر ومتحدث رسمي وإعلامي، وباستثناء انتخاب الرئيس من بين مرشحين إثنين هما سامح عاشور وعمرو موسي، فقد تم اختيار شاغلي المواقع الأخري جميعا بالتوافق رغم تقدم مرشحين كثر لكل موقع، وجاء تشكيل هيئة المكتب في النهاية ممثلا لهذا التنوع والتعدد في تكوين اللجنة، فالرئيس «عمرو موسي» دبلوماسي مصري لامع وأشهر وزير خارجية مصري خلال العقود الثلاثة الأخيرة وعضو بارز في جبهة الإنقاذ التي تضم الأحزاب المدنية، والنواب الثلاثة يحمل اختيارهم رسالة واضحة للمجتمع، فكمال الهلباوي مفكر إسلامي مرموق وكان عضوا بارزا في جماعة الإخوان المسلمين وممثلا لها في الخارج لسنوات طويلة، ود. مجدي يعقوب جراح قلب عالمي أرسي المفهوم الحقيقي للطبيب الذي يعمل بتفان علي خدمة المرضي خاصة الفقراء منهم وهو قبطي، ومني ذو الفقار محامية بارزة وناشطة في الحركة النسائية والمجتمع المدني المدافعة بقوة عن الحريات العامة ومبادئ حقوق الإنسان والمساواة وعدم التمييز ضد المرأة. والمقرر العام د. جابر نصار رئيس جامعة القاهرة وأستاذ القانون والعضو المستقيل من الجمعية التأسيسية التي وضعت دستور 2012 والذي وصفه بأنه وصمة عار في تاريخ مصر، وهو حاليا لا ينتمي لأي حزب سياسي وكان قبل الثورة عضوا في الحزب الوطني، والمتحدث الرسمي «محمد سلماوي» صحفي وكاتب يحسب علي اليسار والتيار الناصري وهو رئيس اتحاد الكتاب. وتتحمل لجنة الخمسين مسئولية الإجابة علي كثير من التساؤلات المطروحة في الساحة السياسية والتي تثير جدلا منذ فترة طويلة. أولها هل يقتصر دور اللجنة علي تعديل دستور 2012 المعطل طبقا للإعلان الدستوري وقرار رئيس الجمهورية الصادر بتشكيل اللجنة واختصاصها، أم ستلجأ إلي كتابة دستور جديد يعكس مبادئ وأهداف ثورتي 25 يناير و30 يوليو، ويبدو أن الاتجاه العام في اللجنة حسم هذا التساؤل وانحاز لكتابة دستور جديد، وذلك لمجموعة من الأسباب القوية، أولها أن دستور 2012 قد سقط نتيجة لثورة 30 يونيو وانحياز القوات المسلحة للثورة في 3 يوليو إضافة إلي أن الجمعية التأسيسية التي صاغته هيمن عليها تيار سياسي واحد وحكم ببطلان القانون الذي تم تشكيلها علي أساسه وبالتالي فهي جمعية باطلة، كذلك فالتعديل يمكن أن يمتد إلي كل مواد دستور 2012 بحيث يؤدي عمليا إلي كتابة دستور جديد، والوثيقة الدستورية التي أحالتها لجنة الخبراء العشرة إلي لجنة الخمسين حذفت 32 من مواد دستور 2012 وعدلت أكثر من 130 مادة بحيث يمكن اعتبار الوثيقة الصادر عنها مشروع لدستور جديد. وبالطبع هناك تساؤلات أخري حول عدد من المبادئ والقضايا الجوهرية تتعلق بالاتجاه لصياغة دستور ل «دولة مدنية ديمقراطية» والرؤية التي ستكتب اللجنة علي أساسها مواد الدستور المختلفة، ونظام الحكم برلماني أم رئاسي أم مختلط، ونسبة ال 50% للعمل والفلاحين، وما تسمي بمواد الهوية في دستور 2012 (المواد 2، 3، 4، 219)، والتمييز الإيجابي للمرأة، ومرجعية المواثيق والاتفاقات والبروتوكولات الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية كمرجعية إلزامية في الدستور الجديد، وصولا إلي النظام الانتخابي الذي سيتم تحديده في الأحكام الانتقالية وتجري علي أساسه انتخابات مجلس الشعب القادم وهل يكون نظام المقاعد الفردية أم نظام القائمة النسبية غير المشروطة. والمطلوب من لجنة الخمسين أن تحسم الإجابة علي هذه التساؤلات في الاجتماعات العامة الأولي وقبل أن تبدأ اللجان النوعية أعمالها، ليكون هناك رؤية ناظمة لأعمالها ولا تعمل كل لجنة برؤية خاصة بها، فالدستور ليس مجموعة مواد متراصة ولكنه انعكاس لرؤية ومبادئ يتم التوافق عليها أولا.