تعددت الاتهامات الموجهة الي الولاياتالمتحدة في الايام الاخيرة. ولكن اكثرها غرابة أو ربما نقول اكثرها طرافة لم يسمع به من قبل في مجال انتقاد سياسات الدول وخاصة الدول الكبري. الولاياتالمتحدة اتهمت بالنذالة من جانب حكومة الصين الشعبية. واتهمت ايضا بالجنون من جانب مواطنين أمريكيين. وقد جاء هذا الاتهام من داخل أمريكا نفسها من جانب القوي التي تستشعر ان الادارة الأمريكية الحالية تجاوزت في ممارستها التجسس علي الشعب الأمريكي نفسه كل التوقعات، سواء من حيث ما ينفق علي انشطة التجسس الرسمية علي الشعب الأمريكي او من حيث تعارض هذه النشاطات الجاسوسية مع مباديء الديمقراطية الأمريكية. ثمة شعور عام يسود الولاياتالمتحدة بان نشاطات الادارة الأمريكية الحالية في مجال التجسس تجاوزت حدود الاحتمال. ولهذا رحبت الدوائر الجماهيرية الأمريكية بصورة لم يسبق لها مثيل بما كشف اخيرا عن نشاط المواطن الأمريكي ادوارد سنودن الموظف السابق في الامن القومي في مجال كشف التجسس الحكومي الأمريكي علي المواطنين الأمريكيين. وأظهرت استطلاعات الرأي العام التي اجرتها صحف أمريكية غير متهمة باليسارية او التطرف من اي نوع ان غالبية الأمريكيين تؤيد ما فعله سنودن وتستنكر ما قرره القضاء الأمريكي من توجيه اتهام ما قام به سنودن من فضح النشاطات السرية للحكومة الأمريكية ضد المواطنين بانه "جاسوسية". بل ان القضاء اراد ان يضمن حكما اشد قسوة ضد سنودن فاتهمه بسرقة ممتلكات حكومية ونقل معلومات تتعلق بالدفاع الوطني دون اذن والنقل المتعمد لمعلومات مخابراتية سرية الي من هو غير مسموح له بالاطلاع عليها. وقد صدرت بالفعل مذكرة اعتقال بحقه. كان سنودن يعمل متعاقدا لحساب جهاز الامن القومي الأمريكي في هاواي قبل ان يفر في شهر مايو الماضي الي هونج كونج. وكان قد بدأ في هونج كونج تسريب تفاصيل عن برامج أمريكية واسعة لرصد المكالمات الهاتفية للمواطنين الأمريكيين ومراقبة اتصالات الانترنيت الخاصة. وكشف سنودن ايضا خلال وجوده في هونج كونج عن وثائق قام بامداد صحيفتي الجارديان البريطانية وواشنطن بوست الأمريكية ان المخابرات الأمريكية تستخدم برنامجين سريين لمراقبة الاتصالات والتنصت علي مستخدمي الانترنت الاجانب خارج الولاياتالمتحدة. وقد اكد سنودن انه كشف هذه المعلومات لانه لا يستطيع ان يسمح للحكومة الأمريكية بان تدمر سر الحياة الخاصة وحرية الانترنت والحريات الاساسية للاشخاص. خوفا من الملاحقة وقد ادلي سنودن بهذه المعلومات اثناء الفترة التي اقامها في هونج كونج ولكنه لم يلبث ان اضطر للسفر الي روسيا ولا يزال – حتي كتابة هذه السطور موجودا فيها مطمئنا الي عدم وجود اتفاقية لتسليم الهاربين بين روسياوالولاياتالمتحدة. وأذيع مؤخرا انه طلب اللجوء الي ايسلندا. والامر المؤكد ان الحكومة الأمريكية لن تكف عن المطالبة بتسليمه اليها، خاصة بعد ان دافع كيث الكسندر مدير وكالة الامن القومي الأمريكية عن نشاطات التجسس التي تقوم بها حكومته ووصف البرنامج الذي تنفذه الحكومة الأمريكية في هذا الصدد والمسمي برنامج "بريزم" بانه "قيم للغاية لحماية الامن القومي الأمريكي"، وبانه برنامج "قانوني". واوضح المسئول الأمريكي امام جلسة استماع للجنة المخابرات الأمريكية بمجلس النواب الأمريكي ان المعلومات التي تم جمعها من برنامج "المراقبة" – وهو يعني برنامج التجسس – اتاحت للحكومة الأمريكية ان تحصل علي ادلة مهمة، الامر الذي ساهم في احباط اكثر من خمسين عملا ارهابيا محتملا في اكثر من عشرين بلدا في انحاء العالم وليس في الولاياتالمتحدة فحسب. وعند هذا الحد لابد لنا ان نبدي دهشتنا ازاء حاجة الولاياتالمتحدة الي ممارسة كل هذا القدر من التجسس علي مواطنيها ومن ليسوا من مواطنيها. ان الولاياتالمتحدة تملك من اساليب التجسس غير المباشر – عن طريق الاقمار الصناعية – ما يمكن ان يغنيها عن التجسس علي الافراد. وفضلا عن ذلك فان الولاياتالمتحدة تملك من القدرة والقوة العسكرية ما يمكن ان يجعلها في غني عن الاستعانة بالاسرار الشخصية. والاهم من هذا وذاك ان علاقات الولاياتالمتحدة العسكرية بالعالم الخارجي تجعل العالم كله مكشوفا لعيونها المراقبة. ثمة وجود عسكري أمريكي في انحاء العالم يشمل اكثر من مائة دولة. والمناورات العسكرية المشتركة تسمح للاجهزة العسكرية الأمريكية بالاطلاع علي اسرار هذه الدول الحليفة والصديقة. ولقد كانت حاجة أمريكا الي التجسس علي الدول الاخري مفهومة عندما كانت هي احدي الدولتين الاكبر والاقوي في العالم. قبل اكثر من عشرين عاما كانت دولة الاتحاد السوفييتي تتنافس مع الولاياتالمتحدة علي التجسس وكانت اسبابهما مفهومة ومبررة – وان لم تبرر التجسس علي باقي انحاء العالم – اما الآن فان الولاياتالمتحدة تتمتع وتمارس دور القوة الاعظم الوحيدة في العالم، وتملك كل امكانيات حلف شمال الاطلسي التي تصب معلوماتها من انحاء العالم في الاجهزة الامريكية. أمريكا تتعاون مع القاعدة من الضروري بل الحتمي ان نتساءل لماذا تحتاج الولاياتالمتحدة الي التجسس علي كل دول العالم الاخري – الاصدقاء لأمريكا قبل الاعداء – في اطار التساؤل الواجب ممن تخاف أمريكا في هذا العصر الأمريكي؟ ولابد ان نبدي احترامنا بل واعجابنا بالأمريكيين الذين يؤكدون استعدادهم للتضحية بانفسهم من اجل كشف اسرار الجاسوسية الأمريكية. هؤلاء هم بمثابة مواطنين عالميين. وليس بمستغرب ان يكون اغلبهم – ان لم يكونوا كلهم – من الأمريكيين. وليس بمستغرب ايضا ان يظهروا من بين آلاف الجواسيس الذين تستعين بهم أمريكا في هذا النشاط الذي لم تكف عنه أمريكا منذ بداية حربها من اجل الاستقلال عن بريطانيا. ولعل الامر الاكثر اثارة للدهشة – او ربما نقول الاعجاب – ان عمليات كشف التجسس الأمريكي علي العالم الخارجي قد اسفرت عن اضطرار اجهزة التجسس الأمريكية الي الاعلان عن نتائج لهذه العمليات ما كان يمكن – لولا كشفها – ان يعلن عنها. لقد اعلن مدير وكالة الامن القومي الأمريكية انه ستعلن تفاصيل اربعة من تلك المخططات "الارهابية" التي احبطت في الفترة الاخيرة. من بين هذه المخططات – حسب ما قال مدير الامن القومي – ما كان يرمي الي تفجير بورصة نيويورك ونظام قطارات الانفاق في نيويورك ايضا. وبطبيعة الحال فليس ثمة دليل علي صحة ما ستذيعه الولاياتالمتحدة. ولكن ما هو اكثر اهمية من ذلك هو ان الكشف عن هذه المخططات يدين الادارة الأمريكية نفسها بالتعاون مع تنظيمات الارهاب – وخاصة تنظيم "القاعدة" – بعد ان اصبح التعاون بين الاجهزة الأمريكية والتنظيمات الارهابية جزءا من تنفيذ السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وخاصة في الشرق الاوسط. ان تعاون الولاياتالمتحدة مع التنظيمات الارهابية في سوريا يعطي اهم الامثلة علي دور أمريكا الجديد في المنطقة. ولهذا خشية كثيرين من المصريين من ان تكون الولاياتالمتحدة بصدد تنفيذ مخططات تتعاون فيها مع التنظيمات الارهابية مستخدمة مدخل العلاقات التي تربطها مع تنظيم الاخوان المسلمين في مصر (…) ربما تكون اجهزة التجسس الأمريكية قد امدت الادارة الأمريكية بدرس التعاون مع التنظيمات الارهابية عن طريق معرفتها بجدوي تجسس اجهزة التجسس علي الاجهزة المماثلة. ان التعاون والتنسيق بين اجهزة التجسس الأمريكية والاجنبية هو الطريق السهل الي كشف ما يعمل مع وما يعمل ضد هذه الاجهزة. ولهذا السبب وليس لاي سبب آخر فان ظهور مواطنين أمريكيين ينبذون الجاسوسية ويقررون العمل ضدها يأتي بدوره من داخل هذه الاجهزة. ان هؤلاء المواطنين الأمريكيين الذين ضاقوا ذرعا بالتجسس الأمريكي علي الأمريكيين بشكل خاص انما ينتمون الي شبكات الجاسوسية ويعرفونها من الداخل ولذلك هم اقدر من غيرهم علي توجيه طعنات مضادة لمن يشرفون علي امبراطورية التجسس الأمريكية التي لم تتوقف لحظة واحدة عن الاتساع والتوغل، بل انها في السنوات القليلة الاخيرة اصبحت مصدر المعلومات لاجهزة السياسات الداخلية والخارجية. والسؤال الذي يفرض نفسه بعد هذا كله: هل يمكن ان يتولي الرئاسة الأمريكية يوما مواطن أمريكي له ضمير مثل ضمير ادوارد سنودن؟ هذا مجرد حلم.