نشأت الجامعة المصرية في العقد الأول من القرن العشرين لاستكمال أركان النهضة الحديثة، بإتاحة الحرية للفكر والبحث العلمي التي تفتقدها المؤسسات التعليمية بكل أشكالها. ذلك أنه من دون هذه الحرية التي تنهض عليها الدول المدنية لا تصبح هناك قيمة للفكر، أو جدوي للبحث العلمي. وحين طرح الدكتور نصر حامد أبوزيد أفكاره وأبحاثه التي تعرض بسببها للتكفير لم يخرج بها علي تقاليد الجامعة التي نصت في كلمات وخطب المؤسسين لها علي أن دينها العلم. وكان صاحب هذه العبارة سعد زغلول، وهو خريج الأزهر، لا يستطيع أحد أن يزايد عليه. ولهذا فليس صحيحا ما جاء في مقال الشيخ جمال قطب «المفكر والمجتهد بين حقه وواجبه»، الذي نشر في صفحة الفكر بجريدة «الأهرام» في 6 أغسطس 2010، من أن نصر حامد أبوزيد لم يأخذ إذن الجامعة في تدريس ما درسه، لأن أستاذ الجامعة لا يأخذ إذن أحد، والجامعة التي يعمل بها هذا الأستاذ كيان مستقل لا يخضع إلا لقوانينه الخاصة، إلي السياسة أو الإدارة. وكلما استطاع أستاذ الجامعة أن يتحرر من كل معرفة سابقة، وأن يفتح الآفاق أمام طلابه في إطار الفكرة الوطنية والمبادئ الديمقراطية، ويمكنهم من ارتياد الأصقاع غير المطروقة، كلما وفق في أداء رسالته التي تتضافر فيها المعرفة النظرية للفرد بالحياة الاجتماعية والخلقية. وعلي أساس قدرات الأساتذة وجهودهم العلمية يكون تقييم الجامعة، وتقييم هؤلاء الأساتذة. ولو أن الجامعة كما يقول فضيلة الشيخ تلتزم بالمناهج المتوارثة، ولا تقدم إلا ما أُجمع عليه من الثوابت والأصول، لما كانت جامعة، ولأصبحت مدارس أو معاهد متوسطة منفصلة عن عصرها، يتلقي فيها الطلاب الدروس المقررة للحفظ عن ظهر قلب، دون استخدام العقل النقدي في رفض ما يستحق الرفض، وتطوير ما يحتاج إلي تطوير. ولكم أن تتصوروا وضع الفكر والبحث العلمي في بلادنا لو أن الآداب والفنون والعلوم تدرس اليوم بالصورة التقليدية التي تشكلت عليها في الماضي. ولأن الجامعة لا تتقيد في مقرراتها بحدود معينة، مثل تلك التي تتقيد بها المدارس والمعاهد المتوسط، ولا تعرف التعصب علي أي نحو من الأنحاء، فإن المكتبات تعد فيها، كما تعد التجارب والمشاهدات، أهم من نصوص المحاضرات التي تلقي في قاعاتها، في مدي طاقتها علي بناء الوعي والمعرفة. ومنذ أيام قليلة أعلن الدكتور هاني هلال وزير التعليم العالي والبحث العلمي، في معسكر جامعة المنصورة بجمصة أن الكتاب الجامعي سيلغي ابتداء من العام القادم 2010 - 2011، واصفا إياه بأنه بدعة، وسيكون الاعتماد الكلي في التحصيل علي مكتبات الجامعة، لأنها، بما تملك من ذخائر لا تتوافر في مكان آخر، أقدر علي تنمية ملكات البحث، وزيادة القدرة علي التحليل والاستنتاج. وبناء عليه فإن القول بأن نصر حامد أبوزيد استثمر غفلة الدولة لصالح إبداعه وليس للصالح العام قول غير صحيح، ووصف مشين لا يليق بهذا الأستاذ الجامعي النابه، ولا بقلم شيخ معروف له وزنه، لأن إبداع أستاذ الجامعة، خاصة إذا كان في قامة نصر حامد أبوزيد، لا ينفصل عن الصالح العام، وإلا لما منحته الجامعة ومنحت أساتذتها الحرية الكاملة التي يتمتعون بها، ويحققون إنجازاتهم في ظلها. وإذا كان لابد من خضوع أساتذة الجامعة في فكرهم وبحثهم العلمي للمعايير المحافظة، التي كانت صالحة في تاريخها، فأين تكون الأصالة؟ وأين يكون الاجتهاد؟ وأين تكون المراجعة والإبداع؟!. وأين يكون، قبل هذا كله وبعده، الارتباط بالزمن والعالم؟! وكيف يكون التقدم والنهضة؟!. إن صلاح المعايير للماضي لا يعني أنها صالحة للحاضر، كما أن وصف الإبداع، في مقال فضيلة الشيخ، بالتجديف، وصف غير لائق، لأن الإبداع شيء، والتجديف شيء آخر لا علاقة له بالإبداع. أما القول بأن اللجنة التي رفضت أبحاث الدكتور نصر حامد أبوزيد وأدانته لم يكن لمطلق فكره، وإنما لدراسته الإسلامية فقط، فهو قول مردود، وتتناقض فيه الدلالة، لأن هذه الدراسات صدرت من نفس النبع الصافي لهذا الفكر الذي لا يتجزأ، ولو كان الفرع مختلفا عن الأصل، أن هذا الفكر هو المدخل الذي أنتج هذه الدراسات وصاغ ملامحها. ومما يؤسف له أن فضيلة الشيخ لا يكتفي بنفي التاريخ نفيا تاما عن كل ما يتحدث عنه ويشير إليه، بل إنه يري أيضا في قصر دعاوي الحسبة علي النيابة العامة «كبيرة الكبائر»، حتي تظل سيفا مسلطا من كل من يشاء، بمن فيهم من ليسوا من أهل الاختصاص. ولا أظن أن الفكر والبحث العلمي يمكن أن يؤتيا ثمارهما المرجوة، في الجامعة وخارج الجامعة، ما لم يشطب من القانون هذه الدعاوي التي لا يقبلها العقل والذوق المعاصر، حماية للإبداع والمبدعين من المحن التي عاني منها هذا المفكر الكبير، نصر حامد أبوزيد، كما عاني منها عدد من أعلام النهضة الحديثة.