مفهوم الحسبة ليس له تعريف إجرائي متفق عليه من عموم العلماء حيث يوجد لها تعريف لغوي وتعريف فقهي وتعريف تاريخي كما يتغير تفسير معني الحسبة وفق الدور الذي يقوم به المحتسب وعبر الأزمان المختلفة وبتغير المجتمعات وازدياد تعقدها .يقول الكاتب الصحفي حلمي النمنم صاحب كتاب “الحسبة وحرية التعبير ” إن التعريف اللغوي للحسبة هو الترك أي ترك ما هو خطأ وضرر أو ترك المنكر . أما التعريف الفقهي الذي تناقله الفقهاء رغم التباعد الزماني والمكاني بينهم هو ” الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه ونهي عن المنكر إذا أظهر فعله ” أما التعريف التاريخي فسنأخذ بأحدث هذه التعريفات وهو تعريف المحقق والباحث السيد الباز العريني والذي نشر بمجلة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية في أكتوبر 1950 ونصه : ” الوظيفة التي تراقب تنفيذ احكام الشريعة فيما هو حادث فعلا في المجتمع الإسلامي علي اختلاف طبقاته من حيث المعاملات الجارية بين أفراده وواجباتهم نحو الدولة وأحوالهم الشخصية وما قد يترتب علي مخالفتهم من إلحاق الضرر بالمصلحة ” ومن هنا يجب أن تتوافر المصلحة العامة ويضيف النمنم إن هذه الوظيفة ظلت تظهر وتختفي وفق قوة وضعف دولة القانون ولقد ظهرت الحسبة في العصر الحديث بعد إنشاء جامعة القاهرة التي كانت ساحة لصراع فكري شديد كان من بين ضحاياه جورجي زيدان ومنصور فكري وكذلك طه حسين واتهامهم جميعا بازدراء الأديان فكانت تهمة جورجي زيدان إنه مسيحي أما منصور فكري فتم اتهامه بإلطعن علي الإسلام والنبي ويهدف إلي هدم الإسلام في رسالة الدكتوراه الخاصة به ” المرأة في الإسلام ” أما طه حسين فكان كتابه في” الشعر الجاهلي ” مثار ضجة وصلت إلي البرلمان. الحسبة والضبطية يقول دكتور أحمد الخميسي يواجه المثقفون المصريون ترسانة من القوانين التي تكبل حرية الإبداع بعضها موروث من عهد مبارك وبعضها جديد ظهر منذ وصول الإخوان المشئوم إلي الحكم. وقد بدأ الإخوان في سن المزيد من القوانين في الدستور الذي أعدوه وحدهم بمعزل عن الإرادة الشعبية والتوافق الوطني، وأدخلوا فيه المادة 12 التي تنص علي حماية الدولة للوحدة الثقافية دون تحديد ماذا تعني ” حماية الدولة” ؟ وما حدود هذه الحماية ؟ وبدون تحديد ماذا تعني ” الوحدة الثقافية” في مصر التي تشكلت ثقافتها من التنوع والتعدد. ومنذ وصول الإخوان إلي الحكم واجه المثقفون إغلاق صحف، ومصادرة صحف، ومحاكمة صحفيين، وفنانين، والاعتداء البربري علي سور النبي دانيال بالاسكندرية وإزالة أكشاك الكتب، ووقف عروض مسرحية، وأخونة الجرائد والمؤسسات الثقافية القومية في الدولة ، حتي بلغت المهزلة حد وضع نقاب علي وجه تمثال أم كلثوم في المنصورة والإطاحة برأس تمثال طه حسين في المنيا. ومن بين القوانين السيئة الصيت المكبلة للحريات يبرز القانون رقم 3 المعروف بقانون الحسبة الصادر عام 1996 ، والذي يسمح لكل من يري وضعا مخالفا للشريعة أن يلجأ للقضاء ويرفع دعوي حسبة. وقد تم تعديل القانون لاحقا لكن جوهره ظل كما هو. بهذا القانون صدر حكم بتفرقة نصر حامد أبو زيد وزوجته ابتهال يونس، وحوكم عادل إمام بتهمة إزدراء الدين ، والكاتب المسرحي لينين الرملي، وغيرهما. وفي هذا المناخ الرجعي الكئيب لم يعد مستغربا أن يطالب البعض مثل حازم أبو اسماعيل بالغاء وزارة الثقافة علي أساس أن وزارة العطور والعلاج ببول الحمير قادرة علي بناء الثقافة وحل مشاكلها. ويستطرد الخميسي لم يعد المثقفون يواجهون قانونا بعينه مفردا يكبل الحريات , ذلك لأن الأخوان خلقوا مناخا قادرا علي مصادرة الحريات الثقافية والسياسية حتي بدون أي قانون ,و قانون الحسبة في الثقافة المصرية أخو قانون الضبطية القضائية في الشارع . بالحسبة نهدم الإبداع , وبالضبطية القضائية نروع البشر في الشوارع وفي الحالتين فإن المقصود نفي فكرة الدولة والدستور والقوانين ونقل كل ذلك إلي أمزجة الجهلاء والرعاع ليصبح من حقهم التفتيش في ضمائر المبدعين والناس وأعتقد إننا لم نعد نواجه قانونا بعينه يهدد الثقافة وينبغي التصدي له . فلم تعد المشكلة هذا القانون أو ذاك , فالمشكلة أصبحت مواجهة حكم فصيل سياسي فاشي رجعي يتمسح بالدين , أصدر ويصدر وسيصدر مختلف القوانين المكبلة للحريات ملاحقة الفنانين ويؤكد الكاتب الروائي فؤاد قنديل إن المحتسب في العصور القديمة كان يؤدي دور شرطيا سبة في التفتيش علي المخالفين للقانون وعلي التجار الغشاشين وعلي غيرهم من مرتكبي الأخطاء في حق المجتمع ثم تحول بعد ذلك إلي ملاحقة الفنانين والأدباء الذين يحاولون إبداع نصوص وأعمال فنية من شأنها رفع الوعي وإثارة الوجدان والعقول بالأفكار الجديدة وتم إساءة إستخدام هذه الوظيفة أو هذا العرف ضد الأدباء والفنانين ولا شك إن العودة إليه بصورة مباشرة أو غير مباشرة يؤدي إلي قمع الأدباء والكتاب والمفكرين وفي الأساس إلي إعادة المجتمع إلي عهود التخلف والرجعية والإستبداد وإفتقاد الآفاق المفتوحة نحو مستقبل أفضل لذلك تعاني المجتمعات التي تطبق مثل هذه الوظيفة من حصار شديد للأفكار الجديدة وتتخلف عن معايشة العصر ولا تتعامل مع مستجداته ولا متغيراته ومن ثم يمكن أن يتصور الحكام المستبدون أن بالأمكان مع هذا النظام ” الحسبة ” أن يتم التحكم في الناس والسيطرة علي أفكارهم ومن ثم سهولة قيادتهم ولكن النتيجة في الواقع هي العودة إلي الخلف والقضاء علي الإبداع وعلي حرية التعبير ولا يمكن أن يكون هذا في صالح الأمة لأن صالح الأمة الأول يبدأ من إتاحة الفرص للتعبير بشتي الوسائل والتقنيات والاستفادة من فكر الكتاب والمفكرين وإستشراف المستقبل ومعرفة ما يمكن أن تواجهه الأمة من أزمات وكيفية تحقيق أحلامها لأن هذا هو العمل الأول للمفكرين إذا بالحسبة نحن نغلق باب الأجتهاد ونغلق باب الأبداع ويكون النظر فقط تحت الأقدام وبالتالي التخلف والعودة إلي المربع صفر دائما في حلقة دائرية مفرغة لا يتقدم عبرها الشعب أبدا . السلطة المؤقتة يقول الناقد السينمائي كمال رمزي من الأدبيات التي قرأتها وجدت إن عددا كبيرا جدا من المحتسبين كانوا لصوصا. لم يحدث إطلاقا أن رفعت قضية حسبة إلا وانتهت إما بالبراءة أو بحكم أقرب للجريمة ” لأن الحكم هنا هو الجريمة ” وليس الأمر الذي رفعت ضده دعوي ولو أنعشنا الذاكرة بعدد من القضايا التي ينطبق عليها هذا الوصف سنجد إن بعضها كيدي وبعضها يكتنفها فهم خاطيء للأمور . لكن فيما يتعلق بالفن فجميعنا يري أن الفن لا نحاكمه إلا بمعايير النقد ومعايير الفن فقضاة الفن هم النقاد . وهنا القضاء ليس بمعني أن يملك حق المعاقبة أو التبرئة . فتعامل قاضي الفن ” الناقد ” مع العمل الفني من منطلق إبراز جوانبه الجمالية ويقيمه إنسانيا ويفسره ويربطه بغيره من الاعمال .ويكشف ما به من سلبيات أو عيوب ويتعرض له فكريا وفنيا . وفيما يتعلق بتراجع الإنتاج السينمائي في الآونة الأخيرة وعلاقة هذا بملاحقة بعض الفنانين قضائيا مثل الفنان عادل إمام والنجمة إلهام شاهين وسما المصري يقول كمال رمزي إن التلاحق السريع للأحداث في الواقع جذب الجمهور بعيدا عن دور العرض . وما يحدث في الواقع أكثر إثارة من أي فيلم سينمائي وبالتالي قاعات السينما خاوية . وفي تقديري موضوع الحسبة سيلقي نوع من الزراية وسينتهي بهم إلي صناديق القمامة . ويجب ألا ننسي أن السلطة الموجودة حاليا هي سلطة مؤقتة لإن لا أحد استطاع أن يضر بالاخوان المسلمين كما أضروا هم بأنفسهم إنهم عباقرة في كيفية ليس إنفضاض الناس من حولهم فحسب بل وكراهيتهم ايضا الوصاية الأبوية يؤكد دكتور علي مبروك أستاذ الفلسفة جامعة القاهرة علي أن الحسبة تمثل استدعاء لمنطق الوصاية الأبوي الذي لا يمكن أن يندرج تحته ليس فقط الحديث عن الإبداع ولكن عن حياة إنسانية سليمة . واستدعاء هذه الوسائل الآن تأكيد علي إن ما يجري إستدعاءه تحت مظلة الإسلام السياسي هو كل ما يمثل الوصاية والابوية والسلطة وكل النزعات القمعية التي تحاول أن تتخفي أو تحاول أن تجد لها اطارا دينيا بديلا تتخفي وراءه . وأعتقد أن المجتمعات بدأت مرحلة الرشد ليس فقط علي مستوي الفنانين والادباء والمفكرين ولكن المجتمعات علي العموم بلغت حدا من الرشد يمكنها من أن تتخذ قرارات وتحدد وتضع القواعد التي تحمي مباديء العيش المستقرة فيما بين أفرادها من دون أن يكون هناك تسلط بأسم أي مبدأ مثل الحسبة وغيره . ويستطرد مبروك أن الحسبة تتعارض مع الدستور والقانون حيث أن الدستور مفهوم سياسي حديث يهتم بالوطن ودولة مواطنين وهنا الحديث عن المواطن ليس حديث عن رعية يصلح لهم منطق الوصاية فنحن هنا نتكلم عن أفراد أحرار ذوي إرادة يمتلكون عقلا وقدرة علي التفكير المستقل فإذا الدستور يستدعي كل هذه المفاهيم حيث إنه مفهوم سياسي حديث مرتبط إرتباط جوهري بمفهوم المواطن ومفهوم المواطن يحيل إلي مفهوم الفرد صاحب العقل وصاحب الإرادة وليس إلي الرعية التي تحتاج إلي من يوجه ومن يرشد . وبذلك فالدستور والقانون بالتأكيد يرفضان رفضا باتا منطق الحسبة ومنطق الوصاية فهذه مفردة تنتمي إلي مجال سياسي وسيط بينما الدستور ينتمي إلي مجال سياسي حديث ولا يمكن أن نأتي بمفهوم سياسي وسيط ونعمل به في الوقت الحالي . هذا الارتباك سيؤدي إلي الانفجار في وجه من تسببوا فيه إذا ظلوا علي العناد والمكابرة .