انقضي اكثر من عشرين عاما علي انهيار او تفكك الاتحاد السوفييتي. وأصبح من الضروري معرفة ما اذا كانت الاشتراكية قد تفككت بالمثل. وما اذا كان حلم البشرية بالمساواة في ظل تقدم اقتصادي شامل قد انزوي، ام ان هذا الحلم لا يزال يراود أفكار البشر الذين لا يتطلعون الي استغلال الآخرين والثراء علي حسابهم. باختصار هل انتهت الاشتراكية بنهاية التجربة السوفييتية والاوروبية الشرقية، ام ان تبني الفكر الاشتراكي لا يزال يشكل منهجا أصيلا في محاولة الانسان التي لا تنقضي من اجل خلق مجتمع المساواة والرفاهية؟ الامر المؤكد ان الاشتراكية تزداد ازدهارا وتعمقا في المجتمعات الغربية، بشكل اساسي في المجتمعات التي وقفت طوال نحو سبعين عاما ضد التجربة الاشتراكية كما عاشت في الاتحاد السوفييتي والجبهة العريضة التي قادها في اوروبا الشرقية. وبصريح العبارة فان الدراسات الاشتراكية وما يصاحبها من نمو التنظيمات والاحزاب السياسية التي تأخذ بهذا الفكر وتتخذ منه منطلقا لها آخذة في الازدهار والاتساع ، بل انها تجد رواجا في البلدان الرأسمالية “المتقدمة” والتي تجد الديمقراطية فيها مرتعا خصبا فتنمو ويتسع مجالها. الاشتراكية والديمقراطية الامر الجدير بالملاحظة فعلا ان التزاوج بين الاشتراكية والديمقراطية اصبح ظاهرة جديرة بالملاحظة والتأمل في سنوات ما بعد تفكك النظام السوفييتي. كأنما لابد ان نقتنع بان خفوت التجربة الديمقراطية في الاتحاد السوفييتي السابق هو الذي ادي الي تفكك التجربة الاشتركية أكثر مما تسبب فيه فشل اساسي اصاب التجربة الاشتراكية بحد ذاتها. ولعل من الضروري ان نلاحظ ايضا ان الاهتمام الغربي بالافكار الاشتراكية لا يصاحبه اهتمام مماثل – او حتي بقدر أقل – بدراسة التجربة الاشتراكية السوفييتية ذاتها. الجدير بالملاحظة عند مناقشة هذه القضية هو ان الدراسات الاشتراكية تزداد اهمية وعمقا في بلدان مثل الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا. الملاحظ ان الجامعات الأمريكية والاوروبية تعني بقضايا الاشتراكية وقضايا الديمقراطية في ارتباطهما معا، سواء في مناهجها الدراسية او في انتاج اساتذتها الفكري في محاضراتهم وكتبهم. ويصل الامر الي حد يصعب معه متابعة كل ما يكتب وينتج في هذا المضمار حيث لابد من الاكتفاء باختيارات محدودة. وتتعزز هذه الرؤية بحقيقة ان التنظيمات الاشتراكية الغربية تمارس نهج الديمقراطية في مناقشتها لاهمية الاشتراكية كمستقبل للمجتمعات التي لا تزال تعيش تحت وطأة النظام الرأسمالي. ويتجاوز الامر حدود الدراسات الجامعية ذات السمات النظرية البحتة ليصل الي البيانات والمناقشات التي تعم التنظيمات السياسية – مثل الاحزاب بصفة خاصة – في بلدان لا يزال النظام الرأسمالي هو المسيطر عليها وعلي العلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي تقوم بين طبقاتها الرئيسية. رواج الماركسية ان النظريات – ولا نقول النظرية – الماركسية بشكل خاص تزدهر في دراسات المفكرين الأمريكيين والاوروبيين منذ وقت سقوط الاتحاد السوفييتي. وتدل الدراسات الأمريكية والاوروبية في هذا المجال علي ان سقوط التجربة السوفييتية لم يحدث تأثيرا كبيرا ذا طابع سلبي علي رواج النظريات الماركسية. بل الحقيقة التي تدل عليها كتابات المفكرين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين في حقبة السنوات العشرين الاخيرة هي ان تأثير النظريات الماركسية في هذه الزوايا الثلاث جميعا اصبح الان أكثر مما كان في اي وقت مضي. ويذهب الامر الي حد يمكن ان نقول معه ان اختفاء الاتحاد السوفييتي من الصورة ربما يكون قد ساعد في ازدهار الاهتمام بالنظريات الماركسية وعودتها الي نقطة الذروة في التفكير السياسي والاقتصادي والاجتماعي. من هنا يمكن التأكيد بان ازمة النظام الرأسمالي هي التي اصبحت السبب الرئيسي في ازدهار الفكر الاشتراكي. اما تزامن حدث سقوط التجربة الاشتراكية السوفييتية وازدهار الفكر الماركسي باعتباره المنبع الرئيسي للفكر الاشتراكي في العالم الغربي فانه يحتاج الي دراسة قائمة بذاتها. والاجدر بالدراسة في هذا المجال في هذا الوقت بالذات هو ان الاشتراكية – لا الرأسمالية – هي التي ترفع اعلام الديمقراطية عاليا في العالم الغربي. الامر الذي يجعل الرأسمالية مجبرة علي ان تراجع مواقفها وسياساتها وان تتراجع عن مكانة الصدارة التي كانت تشغلها منذ اكثر من ثلاثة قرون. هذه مسألة جديرة بدراسة تفصيلية وعميقة لمعرفة ما ينطوي عليه هذا الوضع المتناقض حيث الرأسمالية لا تزال في الحكم في العالم الغربي لكنها تجد نفسها في حالة تراجع تجبرها علي ان تراجع مواقفها بل ونظرياتها ازاء تقدم الفكر الاشتراكي واتساع تأثيره خاصة في بلدان كانت – ولا تزال – تعطي الاولوية للنظام الرأسمالي في الحياة العامة. ولكن الامر الذي لا يحتمل انتظار مثل هذه الدراسة – أو بالاحري الدراسات – هو الوضع في الوطن العربي الذي يبدو غائبا او مغيبا عن التطورات الفكرية في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع التي تتخذ مسارات جديدة في عالم الغرب. العرب والاشتراكية فالملاحظ ان الوطن العربي يخضع لانقضاض الطبقات الحاكمة الغربية علي مصائره وعلي تطوراته الي حد يكاد ان يحجب عنه رؤية التطورات الجارية في العالم الغربي نفسه والتي تدل علي ان الاشتراكية تفرض نفسها باعتبارها المستقبل الامثل في هذا العالم. ان سيطرة الغرب – أمريكا بصفة خاصة – علي الوطن العربي باتساع رقعته الجغرافية، سيطرة تشمل جوانب الحياة الاستراتيجية والاقتصادية، لايمكن ان تعني الا ان الغرب الرأسمالي يري في السيطرة علي الوطن العربي وشئونه وثرواته وقدراته السبيل الاوحد للخروج من ازمته الاستراتيجية والاقتصادية. ان مصادر الثروة العربية المتمثلة في الثروة النفطية بالدرجة الاولي تعني الكثير بالنسبة للعالم الغربي. وترتبط هذه الثروة بالموقع الجغرافي العربي الذي يعني تمكين الغرب من الهيمنة الاستراتيجية علي المنطقة العربية. وليس هناك ما هو اوضح من التناقض الصريح بين سياسات ومواقف الدول الغربية الراسمالية – وخاصة الولاياتالمتحدة – ازاء البلدان العربية. فهي تبدو من ناحية شديدة الاهتمام بالديمقراطية وتطورها في بعض البلدان العربية، بينما تقف حارسا علي النظم الطغيانية الدكتاتورية في بعض آخر من هذه البلدان العربية. ان مؤازرة السعي الي الديمقراطية في بلد مثل مصر تتناقض تماما مع مؤازرة الطغيان الملكي في بلد مثل السعودية. ولقد أوضحت التطورات الاخيرة في مصر بعد التأييد الأمريكي لتولي تنظيم الاخوان المسلمين السلطة في مصر ان اهتمام الولاياتالمتحدة بتطور مصر السياسي ليس مرهونا بتطور مصر باتجاه الحكم الديمقراطي قدر ما هو اهتمام بتطورها صوب نظام يقدم الضمانات والادلة علي التزامه بتأييد المصالح الأمريكية في مصر والمنطقة العربية. ويبدو موقف الحيرة الأمريكي ازاء التطورات السياسية في مصر تجاه حكم الاخوان المسلمين علي ان تدهور التجربة الديمقراطية في مصر بسبب فشل وتردي نظام الحكم الاخواني قد اربك الولاياتالمتحدة بين خيارين احدهما الاستمرار في تأييد حكم الاخوان المسلمين وثانيهما قطع هذا التأييد والاتجاه نحو تغيير تشعر واشنطن انها لا تعرف الي اين يتجه. مساندة الطغيان من أجل النفط في الوقت نفسه فان الولاياتالمتحدة تواجه تحديا حقيقيا في بلدان الثروة البترولية العربية الخاضعة لنظم طغيانية مستبدة. ويتمثل هذا التحدي في مساندة هذه النظم الطغيانية في مواجهة التحديات الكبيرة والصعبة التي أخذت تنشأ في الداخل. وهو ما يبدو واضحا في السعودية وقطروالبحرين وخلافها. ان القواعد العسكرية الأمريكية القائمة في هذه البلدان انما تأسست لاغراض مواجهة التحديات الاستراتيجية التي كان يمثلها وجود الاتحاد السوفييتي، اما الان فان هذه القواعد قد تحولت الي مساندة نظم الحكم الملكية والاماراتية في وجه المعارضات الوطنية والقومية المتصاعدة. كان بامكان الوطن العربي ان يكون قاعدة واسعة وقوية للاشتراكية لولا هذه الظروف المعقدة. وكان بامكان الوطن العربي ان يوسع اهتمامه بالديمقراطية وتطبيقاتها في بلدانه، لولا الهيمنة الغربية علي ثرواته وموقعه الاستراتيجي. كان بامكان الوطن العربي ان يسبق، او ان يحذو حذو أمريكا اللاتينية، في وضع اسس قوية لاشتراكية منتجة وخلاقة كتلك التي اقامتها دول في أمريكا اللاتينية اساسا لتقدمها علي اساس العدالة والديمقراطية. لقد أصبح من الضروري ان يتابع الوطن العربي تقدم الفكر الاشتراكي وما يمكن ان ينتج عنه في أمريكا واوروبا وان يتابع سعيه من أجل الديمقراطية . انه طريق واحد الي الكفاية والمساواة، وان يواصل في الوقت نفسه نضاله ضد الهيمنة الغربية. وسيجد في الاشتراكيين في الغرب حليفا قويا مؤيدا لاهدافه التي هي الان اهداف البلدان الغربية ايضا.