مناضلون يساريون محمد حمدينو في بداية خمسينيات القرن الماضي وتحديداً بين عامي 1953و 1955 كانت مصر تعيش زمناً صعباً . وكانت المطاردات ضد الشيوعيين، خاصة أعضاء حدتو لا تتوقف . لكن الدقهلية كان لها وضع خاص ففيها تنظيم قوي ومنتشر لحدتو . وفيها أيضاً المستشار ناهيد أبو زهرة وكان رئيساً للنيابة العسكرية بالدقهلية وكان أيضاً عضواً في حدتو وعبر رفيق آخر هو الدكتور محمود الخفيف وكان يمتلك صيدلية في ذات مسكن أبو زهرة كانت قوائم المطلوب القبض عليهم تتسرب إلي مسئولي حدتو فيهرب من يهرب وينظف منزله من الأوراق السرية من لا يستطيع الهروب. ولأن القصص عديدة وجميلة فقد طلبت من الزميل محمد حمدينو أن يكتب واحدة منها . فكتب ما يلي: في أحد أيام يناير 1954 وفي الرابعة ظهراً رن جرس الهاتف في مكتب إدارة الشئون القانونية لشركة السكة الحديد الفرنساوي المملوكة للمليونير جوزيف كافوري وكنت أعمل كموظف إداري بالمكتب . وكان علي التليفون الزميل شوقي عماشة وهو من أسرة ثرية من بين ممتلكاتها شادر للأخشاب في شارع سيدي عبد القادر يشرف عليه هو شخصياً . وكان عضواً معنا في لجنة قسم المنصورة لتنظيم حدتو . ودون مقدمات طلب أن أمر عليه الآن للأهمية . وخلال ربع ساعة كنت أمامه ووجدته وعلي غير عادته قلقاً ومتوتراً وهو المشهور بالهدوء والرزانة ، وبسرعة قال إننا سنواجه كارثة كبري حيث إن المباحث العامة تقدمت منذ وقت وجيز بمذكرة لرئيس النيابة العسكرية قالت فيها إن مصطفي البكري العضو في تنظيم حدتو ( بالمناسبة كان مسئول الاتصال في لجنة القسم ) قد سافر إلي طنطا لإحضار كمية من المطبوعات الشيوعية التي سيتم توزيعها علي الخلايا الشيوعية في مناطق الدقهلية ودمياط . وأضافت مذكرة المباحث أن احد رجالهم يتابع مصطفي في سفره وعودته في القطار الذي يصل إلي محطة المنصورة في السابعة مساء وطلبوا الإذن بضبطه في كمين أعد له علي محطة سكة حديد المنصورة وبعد نقاش قصير اتفقنا أن أقوم أنا بمحاولة إنقاذ الوضع واختمرت في ذهني خطة عمل . وتتضمن مقابلة القطار في منتصف المسافة بين طنطاوالمنصورة وإنزال مصطفي من القطار بأي وسيلة قبل وصوله إلي الكمين وبعدها أتصرف في المطبوعات الموجودة معه بإلقائها من نافذة العربة إلي الترعة المجاورة لشريط السكة الحديد وبذلك يتم إفشال كمين المباحث العامة. تركت شوقي عماشة وبعد أن كان قلقاً علي مصطفي أصبح الآن شديد القلق علي أيضاً فالمهمة خطيرة ونجاحها بالغ الصعوبة وتوجهت بسرعة لموقف السيارات واستأجرت سيارة أجرة طلبت من قائدها توصيلي بسرعة لمدينة سمنود وهي في منتصف المسافة بين طنطاوالمنصورة وأوصلني السائق لمحطة السكة الحديد وانتظرت بعض الوقت علي الرصيف في انتظار القطار وما إن وصل حتي صعدت للقطار وبدأت البحث من العربية الأولي حتي وصلت للعربة السابعة وفيها وجدت مصطفي جالساً وفوقه علي الرف ثلاث كرتونات من الحجم المتوسط ويجلس أمامه مرشد المباحث وللأسف كان طالباً في مدرسة الصنائع التي كان مصطفي ملتحقاً بها. فوجئ مصطفي بي لكنني ومن خلف ظهر المرشد أشرت إليه بيدي وفهم الإشارة . وكان لابد من اختراع قصة لتغطية الموقف وبصوت عال قلت له إن " خالتك ومعاها أولادها موجودة في العربة الأولي روح ساعدها لأن معها شنط كثيرة " وبالفعل قام مصطفي متوجهاً للعربة الأولي وأخبرته بما يحدث وهو يمر بجواري وطلبت منه النزول من القطار في المحطة التالية والعودة إلي المنصورة بمواصلة أخري وبعيداً عن محطة المنصورة. وعندما ابتعد مصطفي قليلاً تبعه المرشد عن بعد وهنا كانت فرصتي حيث قمت وبسرعة بحمل الكراتين واحدة بعد أخري وتوجهت بها لدورة المياه ولحسن الحظ كانت قريبة من مقعد مصطفي وألقيت بها من الشباك وتمزقت الكراتين وتناثر ما بها . وظللت في القطار حتي وصل لمحطة المنصورة وبمجر وقوفه شاهدت مجموعة كبيرة من رجال المباحث وقد أحاطت القطار. لكنهم لم يجدوا مصطفي ولا ما كان معه . وقد أحدثت هذه الواقعة صدمة شديدة لدي المباحث وظلوا لفترة في حيرة وبحث وتحقيقات عن كيفية هروب الصيد بعد أن كان في أيديهم . ومن جانبنا قمنا باستغلال ما حدث ونشرنا شائعة رددناها في أماكن المرشدين فحواها أن المخبر مصطفي أبو شنب وكان مشهوراً بشراسة هو الذي أبلغنا عن الكمين مقابل مبلغ دفعناه له وانطلقت الشائعة علي بعض القيادات الأمنية وصدر قرار باستبعاده من العمل في المباحث. لكن المباحث لم تسكت علي الهزيمة وبعد استجواب قاس للمرشد أدلي بأوصافي وما حدث بيني وبين مصطفي. ونظراً لكثرة تحركاتي ومحدودية المدينة . فقد استطاعت المباحث الوصول إلي وكان لا بد لهم من الانتقام مني . وكانت الفرصة المتاحة لهم في الانتقام هي أثناء وجودي بمنزلي في دكرنس وخلال ليلة الجمعة التي كنت أقضيها هناك وعن طريق ضابط المباحث الجنائية . اليوزباشي عبد المجيد العدوي رئيس مباحث دكرنس وكان يحمل حقداً شديداً لي بعد أن تلقي توبيخاً قاسياً من رؤسائه أكثر من مرة نتيجة قيامي وعدد من الزملاء بالكتابة علي جدران المباني في دكرنس خصوصاً مبني مركز البوليس بعبارات تندد بالحكم العسكري والديكتاتورية العسكرية. وتكرار ذلك عدة مرات وبعد مضي أسبوعين علي واقعة القطار فوجئت أثناء وجودي بمنزلي ليلة الجمعة بحملة ضخمة يقودها العدوي اقتحمت المنزل وعاثوا فيه فساداً لكنهم لم يعثروا علي أي شيء ورغم ذلك أصر علي القبض علي وكنوع من الانتقام مني من ارتداء ملابسي ووضع القيود في يدي، وأخرجني من المنزل حافي القدمين بالبيجاما لأخوض في الأوحال لأنها كانت ليلة ممطرة بشدة ( لحظي السيئ كان الذي اصدر الأمر بالتفتيش وكيل النيابة العسكرية الثاني سليم عبد الله إذ كان المرحوم ناهيد أبو زهرة في إجازة لعدة أيام ) وبعد نقلي لمبني المباحث العامة في المنصورة فوجئت بهم يعرضون أمامي كمية من المطبوعات الشيوعية ادعوا أنها كانت في منزلي وعندما اعترضت واتهمتهم بالتلفيق قال لي مفتش المباحث العامة ( إنت عايز تبوظ شغلنا ونسيبك ) وكان هذا دليلاً علي ارتباط ما يحدث بواقعة القطار وتبين أن هذه المطبوعات من البقايا التي عثروا عليها بجوار شريط القطار في واقعة مصطفي وبعد ذلك صدر قرار النيابة بحبسي حبساً مطلقاً وتوجهت بعدها لسجن المنصورة العمومي وفي السجن كنت أعامل معاملة قاسية عقاباً علي واقعة القطار واعتدي علي بالضرب عدة مرات وكسر ذراعي وتقدمت بطلب للنيابة بإعادة معاينة منزلي. وبالفعل قام وكيل النيابة بمعاينة سطح المنزل وأثبت أن المكان المدعي وجود المطبوعات به لو كان الأمر صحيحاً لغرقت في مياه الأمطار . وأكد ذلك تقرير من هيئة الأرصاد الجوية طلبته النيابة وأكد التقرير أن يوم الضبط كان يوم شديد المطر واستمرت الأمطار لعدة أيام وهكذا ثبت للنيابة أن التهمة ملفقة وخلال عشرة أيام صدر القرار بالإفراج عني فوراً . وفي مبني المباحث العامة كانت هناك حالة من الغضب للإفراج عني وهددني المفتش بأن الأمر سيتكرر معي إذ لم أبتعد عن التنظيم الشيوعي. لكن ردي عليه كان بابتسامة أثارت استفزازه وذهبت لمنزلي وعلمت بعدها أن قراراً صدر بفصلي من العمل وحرماني من أي حقوق لي فقد كان المسيو كفوري صاحب الشركة يقشعر بدنه عندما يسمع كلمة شيوعي فما بالك وهناك شيوعي يعمل في مؤسسة في إدارة مهمة من إداراتها. كنت اعتقد أن القضية قد انتهت بعد الإفراج عني لكنها ظلت متداولة و قدمت للمحاكمة أمام محكمة جنايات المنصورة عام 1955 وكان محاميي هو المرحوم أحمد مجاهد والذي فند وقائع القضية وكشف التلفيق مستعيناً بمعاينة النيابة وتقرير الأرصاد الجوية وبعد المداولة قضت المحكمة ببراءتي من التهمة بعد أن ثبت مدي تلفيق التهمة.