بعد اختطاف الإسلامويين ثورة 25 يناير وهيمنتهم علي السلطة، دأبوا علي تنفيذ تصورهم العقيم للثقافة والفنون والآداب، باسم الشريعة الإسلامية التي هي من هذا التصور براء، بل تجمع الشرائع السماوية كافة علي تبني قيم الحق والخير والجمال. تستهدف تلك الدراسة إبراز ما يتعلق بحب «الجمال» باعتباره حبا لخالقه، فالله سبحانه جميل يجب الجمال الذي أودعه في الطبيعة والإنسان علي السواء، كما أودع في فطرة الإنسان حواسه الخمس لتذوق ما أبدعه الخالق فيما خلق من «أحسن تقويم». معلوم أن الديانة اليهودية – بعد أن حرَّفها الكهنة – أمعنت في إطلاق العنان للمتع الحسية بدرجة تصادر علي سعادة الإنسان في الآخرة، ومن يطالع العهد القديم – علي ضخامته، يلاحظ أنه لم يشر إلي السعادة الأخروية إلا مرتين، وعلي نحو عابر، لذلك حق للمؤرخ الكبير «أرنولد توينبي» الحكم بأن العبرانيين لم يصنعوا حضارة، لا لشيء إلا لإغفال الجانب الروحي. لعل ذلك يفسر لماذا ألحت المسيحية علي هذا الجانب المفتقد وإبرازه، ولماذا أعلن السيد المسيح أنه أنُزل لهداية «خراف بني إسرائيل الضالة، كذا اعتبار «القديس أوغسطين» الحياة الدنيوية بمثابة «خطيئة» اقترفها البشر في «مدينة الشيطان» ودعاهم إلي التكفير عنها بالزهد والتبتل كي يلتحقوا ب «مدينة الله» الخالدة. علي أن تعاليم «أوغسطين» لم تحل دون تذوق المسيحيين للجمال الإلهي في مخلوقاته، وحسبنا إلا الإشارة إلي أن طقوس الصلاة في الكنائس – التي زينت بالصور الجميلة – تجري ممارستها علي أنغام الموسيقي، وصدق علماء «الاستطيقا» – علم الجمال – حين ذهبوا إلي ارتباط نشأة الفنون بالدين. مصداق ذلك أن الفن – في نظر اليونان – ما هو إلا صنيع «ربات الفنون السبع» بجبال «الأوليمب». نظرا لإمعان المسيحية في تزكية الحياة الأخروية علي حساب الدنيوية – حيث دعت إلي الرهبنة – جاء الإسلام «رحمة للعالمين» – باعتباره الدين الخاتم – حيث وازن بين الحياتين فقدم وسطيته المعتدلة ليكون أتباعه «أمة وسطا» و«شهداء علي الناس». بديهي أن تسفر تلك الرؤية القرآنية عن أخري تعانق الجمال، وتكشف عن تجلياته في كافة المخلوقات، وتعبر عنه بما يدعم الإيمان، بل خلق الله الإنسان لعبادته باعتبار الإنسان مكلفا بتحقيق رسالة الله في «عمران» الأرض بل ينص القرآن الكريم علي نهاية العالم بعد بلوغ الأرض «زينتها وزخرفها». ناقص بطبعه تلك الزينة وذاك الزخرف ما هو إلا ما نطلقه علي «الآداب والفنون»، التي تتعرض الآن لحملة ضارية من قبل الإسلامويين المعارصين، لذلك، حق للفيلسوف المصري د. محمد عبدالهادي أبوريدة بأن يؤكد أن من «حرم زينة الله التي أخرج لعباده» «ناقص الطبع، فاسد المزاج، بهيمي النظرة»، لا لشيء إلا لأن «إدراك الجمال في حد ذاته عبادة روحية» فالله سبحانه «لا تدركه الأبصار»، لكن معرفته الدالة علي وجوده مبثوثة فيما خلقه «في أحسن تقويم» والله سبحانه هو الذي أودع في الإنسان أداة تذوق الجمال الإلهي الكائنة في مشاعره ووجدانه وحواسه، بمعني أن الجمال الإلهي «معنوي روحاني»، ولأن الإنسان جسد وروح، لديه القدرة علي استقباله وتذوقه، بل التعبير عنه كلاما وتصويرا، من ثم كان تذوق الجمال فطرة فطر الله الناس عليها، سواء أكان صورة محسوسة أو معنوية، وقد أصاب «البيروني» حين ذهب إلي أن «الأنفس الصافية ذات نزوع واشتياق إلي تصور الموجودات وتصويرها، بما يزيدها رونقا وبهاء». ومن يتدبر آيات القرآن الكريم – في هذا الصدد – يقف علي حقيقة كون الله سبحانه خلق المخلوقات ليس فقط من أجل تسخيرها لخدمة الإنسان في معاشه، بل لإشباع حسه الجمالي أيضا، يقول سبحانه – بصدد الدواب – «ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون». للجمال ظاهر وباطن، وإدراك ظاهره متعة للأنفس، ومعرفة باطنه عبادة تكمن في تعظيم الخالق الذي «أحسن كل شيء صنعا»، وتعبر من ناحية أخري عن الكمال والجمال الرباني. حسبنا – تأكيدا لذلك – أن سيدنا إبراهيم عليه السلام آمن بالله من خلال تأمله للنجوم والكواكب السيارة، كما أن تصوير الله سبحانه لجناته – في القرآن الكريم – مستوحاة من نعمه التي أنعم بها علي الإنسان في الأرض، ولا غروب فأسماء الله نعتت بلفظة «الحسني» ومن خاصية «الحسن» اشتق سبحانه الفضائل التي يفعلها الإنسان، فعرفت لذلك ب «الحسنات». ملة إبراهيم وتشير كتب السيرة النبوية إلي أن الرسول – صلي الله عليه وسلم – لفظ عبادة الأصنام وتعبد علي ملة أبيه إبراهيم قبل البعثة النبوية، نظرا لتأمله جمال الكائنات إبان اعتكافه في «غار حراء». ويؤكد «ابن حزم» ما عرف به الرسول – صلي الله عليه وسلم – من صفات الصفاء ونقاء السريرة وشيم النبل والأمانة والوفاء بالعهد.. إلخ من الصفات «الجميلة» التي أهلته لاستقبال الوحي الإلهي، وفي هذا الصدد ألح الفلاسفة القدامي علي الربط بين الفضائل والإبداع الجمالي، ولا غرو، فقد اعتبروا «الجمال» من أهم مباحث الفلسفة. ولفلاسفة الإسلام كتابات مهمة في مجال العلاقة بين «علم الأخلاق» و«علم الجمال»، كما هو الحال بالنسبة للكندي والفارابي وابن سينا، فضلا عن أبي سليمان السجستاني الذي ربط بين الموسيقي وبطبيعة النفس الإنسانية التي تنطوي علي ألحان وأنغام بالفطرة، تماما كتلك التي تسفر عن حركة الكواكب، فتسفر عن أصوات متناغمة بمثابة تسبيح بذكر الله الذي تسبح له كل المخلوقات، حسب القرآن الكريم الذي اعتبر تلك الأصوات لغات لا يعرف البشر كنهها. لقد أثبت العلم الحديث – مثلا – أن الحيوان والنبات يتأثر كالإنسان بالموسيقي ويطرب لها، الأمر الذي يؤثر إيجابيا علي إدرار الألبان، ونضج ثمار النباتات، ولم لا؟ وعلماء النفس يوظفون الموسيقي في علاج الإنسان من الأمراض النفسية. وفي ذلك تفسير أيضا لحرص المتصوفة في أذكارهم علي استخدام الموسيقي. قدم الإمام «الغزالي» – في هذا الصدد – معلومات مهمة تتعلق بخاصية «السماع»، لا يتسع المجال لذكرها، ونكتفي بالإشارة إلي الصلة بين الموسيقي وحال الوجد الموصل إلي «الوصل» مع الذات الإلهية، لذلك اعتبر «السماع» «لطيفة ربانية» تختزن «الأسرار ومعادن الجوهر». وقد سبقه «ذو النون المصري» إلي ذلك، حين قال بأن «السماع» «إشارات أودعها الله تعالي في القلوب الصافية.. فهو من ثم وارد حق يزعج القلوب إلي الحق». تلك الأقوال – وغيرها كثير – تفسر أسباب ازدهار الحضارة الإسلامية، وهو ما سيتضمنه المقال التالي.