حتدم الجدل والصراع بين الاتجاهين، الليبرالي والإسلاموي بصدد المادة الثانية من الدستور المزمع كتابته، تلك التي تتعلق بالشريعة الإسلامية، ومعلوم أن هذه المادة لم يكن لها وجود في الدساتير السابقة علي دستور 1971 الذي أصر الرئيس السادات علي تضمينها لأسباب سياسية، كما هو معروف، وتكمن تلك الأسباب في محاولة استقوائه بالتيارات الإسلاموية ضد قوي اليسار المصري التي عارضته في مواقفه وسياساته حين ارتد عن مبادئ ومكاسب ثورة يوليو 1952. أما وقد نجح الإسلامويون في اختطاف ثورة يناير 2011 – بالتحالف مع العسكرتاريا – فقد أصروا علي تعديل تلك المادة بإضافة كلمة «أحكام» بدلا من كلمة «مبادئ» علي النص الوارد في دستور 1971، ليصبح النص هو: «أحكام الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع». وينطوي هذا النص – بداهة – علي جهل بين سواء بمفهوم «الدستور» – باعتباره مبادئ عامة لا أحكام – فضلا عن عدم فهم أولي لمصطلح «الشريعة الإسلامية»!! ولسنا بصدد إثبات حقيقة مفهوم المصطلح، بقدر محاولة دحض المزاعم المتعلقة بدعواهم الخاصة بتطبيق الشريعة. معلوم أن الشريعة الإسلامية تستمد مرجعيتها من القرآن الكريم والسنة النبوية ومبدأ الإجماع، ومعلوم أن القرآن الكريم لا ينطوي علي أحكام ثابتة إلا فيما يتعلق بالحدود ونحوها، بينما اشتمل مبادئ عامة بصدد تنظيم العلاقة بين أفراد المجتمع يمكن علي هديها وضع القوانين والأحكام، وعندنا أن هذا التصور الإلهي ينطوي علي «جدلية» لو أحسن فهمها، لكانت الشريعة الإسلامية – بالفعل – صالحة لكل زمان ومكان، لا لشيء إلا لأن المبادئ – كالشوري والعدل والمساواة – إلخ.. قيم عليا تتسم بالثبات بينما الأحكام تخضع للتغيير والتعديل حسب معطيات التطور، وتلك هي الحكمة من وراء وضع أصول علم الفقه، حيث ينط الفقهاء بمهمة استنباط الأحكام التي لا تتعارض مع «مقاصد» الشريعة، الكامنة في «مصلحة» الفرد والمجتمع في المعاش والمعاد، في الدنيا والآخرة. لعل ذلك يفسر لماذا لم تصدر دساتير وقوانين ثابتة وقاطعة طوال عصور التاريخ الإسلامي، كما هو الحال عند اليونان والفرس والرومان والبيزنطيين، وحتي البرابرة والجرمان. خلاصة القول، أن القرآن الكريم الذي أنزل رحمة للعالمين، وأن الإسلام الذي هو خاتم الأديان، وأن الله – سبحانه – العالم بما كان وما سيكون، وما استن من نواميس وسنن تحكم الكون والحياة، جعل الشريعة «مفتوحة» لمواكبة المتغيرات والتحولات، دونما أدني مساس بالقيم والمثل العليا التي تضمنتها أخلاقيات الإسلام. لذلك، جعل الفقهاء المستنيرون من مبدأ «الاجتهاد» أحد مصادر التشريع، وفي ذلك تفسير لاختلافات أرباب المذاهب الفقهية السنية الأربعة في اجتهاداتهم التي لا ترجع إلي أسباب عقدية بقدر ما تتعلق بطبيعة المجتمعات ومجريات التطور حسب الزمان والمكان وخصوصيات الظروف والأحوال، وحسبنا أن مذهب الإمام مالك في رحلته عبر مصر والمغرب والأندلس أصبح أقرب ما يكون من مذهب الإمام أبي حنيفة منه إلي أحكام المذهب في المدينة، وأن الأحكام الخاصة بفقه الإمام الشافعي في العراق عدل عنها عندما انتقل إلي مصر، وفي رفض الإمام مالك اقتراح الخليفة «المنصور» بجعل «الموطأ» دستورا للتشريع في «دار الإسلام»، ما يؤكد هذا المنحي. ثمة اختلافات أخري في التشريع شجرت بين الفقهاء الأربعة، تتمثل في اختلافاتهم بصدد المصدر الثاني في التشريع، وهو السنة النبوية، ومعلوم أن تدوين الأحاديث النبوية حدث بعد قرنين من وفاة الرسول – صلي الله عليه وسلم – الأمر الذي أسفر عن اختلافات بينة في مرويات الرواه، ناهيك عن تعاظم ظاهرة الوضع والانتحال، لأسباب متعددة لا يتسع المجال لذكرها، وعلي الرغم من الجهود التي بذلها «الصحاح الستة» في غربلة تلك المرويات ونقدها، فقد اختلفوا في درجة مصداقية حتي حديث واحد، علي حد قول المرحوم العلامة «أحمد أمين»، وحسبنا التذكير بقول «ابن حجر العسقلاني – وهو من كبار علماء الحديث – بأن التحقق من صحة الإسناد» أمر بعيد المنال، وحتي لو اكتمل، فلا يعني ذلك بالضرورة صحة «المتن»، أي مضمون الحديث». لذلك، رفض بعض الفقهاء المحدثين اعتبار السنة مصدرا للتشريع، كما هو حال جماعة «القرآنيين» الذين يستندون في دعواهم إلي إحدي الروايات التي نبه فيها الرسول – صلي الله عليه وسلم – إلي عدم تدوين السنة النبوية، كذا إلي نهي الخليفة عمر بن الخطاب لأبي هريرة عن رواية الحديث. وعندنا، أن الحاجةماسة إلي المزيد من بذل الجهود لمواصلة دراسة وتحليل ونقد التراث النبوي وغربلته بالاستعانة بالمناهج الحديثة – كالهرمونيطيقا والسميوطيقا والألسنية وغيرها – للتحقيق والتمييز بين الصحيح والمنتحل وفق معيار قياس مضمون الحديث علي روح وجوهر القرآن الكريم. أما عن «الإجماع» كمصدر للتشريع، فأمره جد صعب – ما لم يكن مستحيلا – وهو ما أثبته «ابن رشد» الحفيد في كتابه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» إذ كشف عن اختلافات الفقهاء الأوائل حول المسألة الواحدة، والأهم أنه أوضح أسباب الاختلاف، وكشف عن دوافعها، موضحا أضربا من الضغوط والإكراهات، فضلا عن الأهواء وخراب الذمم عند «فقهاء السلطان»، بالإضافة إلي عوامل أخري تتعلق بطبيعة المجتمعات، ودرجة الاجتهاد، والموقف من القياس.. إلخ. لعل في ذلك – وغيره كثير – ما يفسر لماذا لم يأخذ الخليفة «هارون الرشيد» بفقه أحد الأئمة الأربعة، وطلب من القاضي «أبويوسف» وضع كتاب «الخراج» استنادا إلي معطيات الواقع – لا أحكام الفقهاء – تحقيقا لمقاصد الشريعة، وطلبا لمصالح الخليفة والرعية في آن. بديهي أن تتعاظم القضايا الفقهية وإشكاليات التشريع خلال القرون المتأخرة التي أطلق عليها «ابن خلدون» – بحق – «عصور الانحطاط»، تلك التي شهدت تمزق العالم الإسلامي إلي كيانات إقطاعية إثنية وطائفية، فضلا عن تغلب العسكر علي السلطة، وانهيار الطبقة الوسطي اجتماعيا، الأمر الذي أفضي إلي التدهور العلمي والفكري، إذ جري تحريم العلوم العقلية، وجمود العلوم الدينية، حيث توقف الإبداع لصالح التقليد والاتباع. بديهي أيضا أن يتعاظم الصراع بين الفقهاء، وتظهر مؤلفات في الخلافيات» جري تحويلها إلي معارك كلامية حول السفاسف والترهات – كما هو الحال الآن – والأنكي إقحام العوام في هذا المعترك الذي سالت فيه الدماء!! وقد قدم «ابن الجوزي» وصفا لتلك الماجريات، بقوله: «غلب علي المتأخرين الكسل.. وهذا جناية علي الإسلام.. ومن تلبيس إبليس علي الفقهاء مخالطتهم الأمراء والسلاطين ومداهنتهم، وترك الإنكار عليهم مع القدرة علي ذلك، وربما رخصوا لهم فيما لا رخصة فيه، لينالوا من دنياهم عرضا، فيقع بذلك الفساد». كذا قول «ابن خلدون»: «كانت طرائقهم في الفقه غريبة، ولم يحفل الجمهور بمذاهبهم، بل أوسعوها جانب الإنكار والقدح». أسفر تردي أحوال العالم الإسلامي علي تعاظم مشكلاته الحياتية التي لم يقدم الفقهاء حلولا ناجعة لها، إذ انصرف اهتمامهم إلي مداهنة الحكام بهدف الحصول علي المال والجاه، وهذا يفسر ظهور ما عرف باسم «فقه الحيل»، فأحلوا الحرام وحرموا الحلال استجابة لأهواء الحكام. كما ظهر أيضا «فقه النوازل» أي الإفتاء بصدد المسائل المستجدة بفتاوي تخالف أحكام الشريعة في الغالب الأعم. لذلك – وغيره – لجأت الرعية إلي «العرف»، حيث دأب أهل المدن والبوادي علي استنان أحكام تتسق مع طبيعة الواقع المعيش كبديل لفتاوي الفقهاء، وقد جري تدوين كتب في هذا المنحي عول عليها القضاة في أحكامهم، كما هو حال «أعمال أهل فاس»، و«أعمال أهل قرطبة»، علي سبيل المثال. تلك صورة عامة عن قضايا وإشكاليات التشريع في «دار الإسلام» التي يطمع الإسلامويون إلي إحيائها. فماذا عن كيفية تجاوزها؟ ذلك ما سيتضمنه المقال التالي.