انفتحت أبواب الأسئلة الباعثة على التأمل على مصرعيها، والأوساط الفنية فى مصر وخارجها تحتفل قبل نحو أسبوعين بالعيد الثالث والثمانين لمولد الفنان عادل إمام . كيف تشكلت هذه الظاهرة الفنية المبهرة ؟ ما هو دور العوامل الذاتية والمجتمعية العامة فى تشكيلها ؟وهل كان للحظ نصيب فى ظهورها وتطورها وصعودها ؟ أم أن حظا بلا موهبة ولا إرادة ولا ذكاء لايثمر تلك المكانة الرفيعة التى وصل إليها ؟ المؤكد أن ظاهرة عادل إمام هى رحلة فنية فريدة من نوعها، قطعت نحو أكثر من نصف قرن للتحقق والتفرد والتأثير المستمر، لم يكن المهم فقط خلالها إلي أين تصل، بل الأهم، كان هو الرحلة نفسها .لماذا ؟ لأنها رحلة ملهمة مليئة بالمشقة وبالدروب المتعرجة الشائكة، وبالعرق والدموع، كان العمل الدؤوب والتعلم من الخطأ والصواب والاجتهاد المثابر، عماد توهجها وألقها والمتن الذى بَنى نجاحها و ورسخ استمرارها . منذ البدايات الأولى، أدار عادل إمام تلك الرحلة بمسئولية كبيرة، تدرك بوعى أن الموهبة وحدها لا تصمد فى سوق المنافسة الفنية دون أن تتطور وتتجدد، وهو مافعله بالتراكم الثقافي والمعرفي، والفهم العميق لدور الفن في حياة المجتمعات والشعوب . فضلا عن استقرار عائلي ذهب به إلى تكوين أسرة محبة، نجح في إبعادها عن سخف الإعلام و تفاهات صخبه، وباتت سندا ودعما لمشروعه، داخل وسط لا ينعم عادة فى هذا الجانب، بالاستقرار.وفى تلك الرحلة، لم يسمح لنفسه بخوض معارك صغيرة، برغم كثرة ما فُرض منها عليه . ففي الثماننيات، رفض عادل إمام عرضا لبطولة فيلم كتبه أحد رؤساء تحرير إحدى المؤسسات الصحفية القومية الكبرى، يهاجم فيه قادة المعارضة المصرية، فعاقبه رئيس التحرير بحظر نشر أخباره وصوره، والكتابة عن أفلامه، لمدة نحو عشر سنوات فى كل إصدارات المؤسسة، في واقعة لم تنتقص من فنه وجماهيريته، لكنها كشفت عن سوء استخدام السلطة داخل مؤسسات الخدمة العامة، وعن ذكاء الفنان، حين يقرر أن يختار نوع المعارك التى يريد خوضها وليست تلك التى يفرضها عليه غيره. بدأ عادل إمام مسيرته الفنية في الستينيات من القرن الماضي، في مجتمع يكافح من أجل التحرر الوطني، والتقدم الاجتماعى، ويشكل بذلك الرافعة التي مهدت الطريق لنمو وصعود الطبقة الوسطي بكل فئاتها. فأقتنص اللحظة أو بالأحرى، كانت اللحظة مواتية، لتسلط أعماله الفنية الضوء على حياة ومشاكل تلك الفئات الاجتماعية التي ينتمي إليها، فينتزع البسمة والضحكة من أقسي أيام جمهوره، وأكثرها بؤسا وظلاما ويسلط الضوء على آلامها .ولعب تكوينه الجسماني، وشكله كمواطن عادي، يشبهني ويشبهك، ويشبه معظم مشاهديه، دورا في بناء مصداقيته، وترسيخ شعبيته، لاسيما بعد الدفاع المجيد االذي أنطوت عليه معظم أعماله الفنية عن حقوق المهمشين والضعفاء ممن لا صوت لهم، وبحثها الدائم عن حياة بلا خوف أو جوع أو احتياج، وفضحها لقوى الفساد فى السلطة وخارجها، وكشفها لتواطؤها مع الإرهابيين والمتاجرين بالدين، وتحريضها على رفض كل أشكال الظلم والقمع والاستبداد الدينى أو المدنى، والقهر المادى والمعنوى، برصدها مفارقات الحياة الاجتماعية والسياسية، بسخرية وتهكم تبعث على الضحك، وفي أحيان كثيرة تجلب أحر الدموع. درس عادل إمام ميراث آبائه فى عالم الكوميديا من نجيب الريحانى إلى عادل خيرى، ومن إسماعيل ياسين إلي عبد السلام النابلسي، ومن عبد المنعم إبراهيم إلي فؤاد المهندس وعبد المنعم مدبولي، وشكل من هذا المزيج نموذجه الفنى الذي ساهم في تجديد الأداء الكوميدى في المسرح والسينما والدراما التليفزيونية، ومهد لجيل الكوميديا الذى تلاه وسانده في الظهور في معظم أعماله : من محمد هنيدى وأشرف عبد الباقي، إلي محمد سعد وأحمد مكي، ومن هاني رمزي إلي علاء ولي الدين . ولأن ساحة الفن سخية، تتسع لكل التجارب والنظريات، الفن للفن والفن للحياة، فقد ساح في كل تلك المجالات بحرية تامة، لكي يجلب لجمهوره الضحك في أقسي أيامهم، وأكثرها خيبة وظلاما. وقبل أيام بثت منصة شاهد السعودية فيلما من انتاج فضائية العربية بعنوان "عادل إمام ذاكرة مصرية "سلط الضوء على الجانب الوطنى والسياسى فى رحلة عادل إمام الفنية . وفى عام 1994 فى قلب اشتعال ظاهرة الإرهاب المتستر بالدين والذى تمدد فى مدن مصر ومحافظاتها، وطال عنفه مسئولين ومواطنين وأجانب، ظهر فيلم "الإرهابى "الذى قام ببطولته وكتبه لنين الرملى وأخرجه نادر جلال . ولأنه عادل إمام فقد ساهم هذا الفيلم بدور فعال فى إنحسار ظاهرة الإرهاب، وفقدان العناصر الدينية المتشددة أى شكل من التعاطف الشعبى الذى كانت تحظى به، بعد أن تصدر من هو فى قامته لفضحهم على الشاشات ومنصات المسرح، متجاهلا كل التهديدات التى وصلته، وهو ما أكده الفيلم الوثائقى، بالكشف عن الخطة الفاشلة التى وضعها قائد الجماعة الإسلامية «عبود الزمر»، وكلف عضو بها هو محمد كروم بتنفيذها لإغتيال عادل إمام فى أعقاب ظهور الفيلم . ولكل هذا باتت ظاهرة عادل إمام الفنية منصة لإسماع أصوات المعذبين في الأرض، وساحة لترطيب خشونة حياتهم، وتخفيف آلامهم، والدفاع عن مصالحهم، فقد نصبه هؤلاء زعيما لهم، ومنحوه سلطات لم يمنحوها لغيره، لأنها سلطة محبة غامرة لا شروط ولارقابة ولا مساءلة فيها، بل امتنان لنشوة الفرح والسعادة، والفكاهة العذبة الصافية التي حملها إليهم، فأضفت أنسا وبهجة، على حياة لم تكن تخلو من القسوة والعناء. كل سنة وأنت طيب يازعيم.