لايزال عدد كبير من خبراء المال والأسواق، ومعهم سياسيون وإستراتيجيون من مختلف المشارب، يشككون في مدى جدية محاولات فك الارتباط بالدولار على المستوى العالمي، التي قادتها روسياوالصين منذ انطلاق الحرب الروسية الأوكرانية تقريبًا. وقد كانت الحجج في هذا الاتجاه كثيرة، أبرزها اعتماد معظم دول العالم على احتياطات دولارية كبيرة حتى يومنا هذا، من الصين إلى الهند حتى البرازيل وفنزويلا. عناصر كثيرة أُضيفت على المعادلة، لكن هل يمكن القول بأن عصر الدولار قد انتهى فعلًا؟ احتياطيات وتبادلات ثنائية في عام 2022، تراجعت حصة الدولار من العملات الاحتياطية 10 مرات أسرع من المتوسط في العقدين الماضيين. وفي 2023 بدأت وسائل الإعلام الغربية بإنكار حقيقة ترنح عرش الدولرة في العالم متعدد الأقطاب. بلغت حصة الدولار من الاحتياطيات العالمية 73% في عام 2001، ثم 55 % في عام 2021، و 47 % في عام 2022. يبدو أن حصة الدولار من الاحتياطيات العالمية تنخفض بمعدل 10 مرات أسرع من المتوسط في العقدين الماضيين. لم يعد من المستبعد الآن أن تنخفض حصة الدولار العالمية لتبلغ 30 % فقط بحلول نهاية عام 2024 ، بالتزامن مع الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة. كانت اللحظة الحاسمة – التي أطلقت سلسلة الأحداث بهذا الشأن -في فبراير 2022، عندما تم "تجميد" أكثر من 300 مليار دولار من الاحتياطيات الأجنبية الروسية من قِبل الغرب، وبدأت كل الدول تروادها مخاوف بشأن تعاملاتها الدولارية في الخارج. أكثر من 70 % من الصفقات التجارية بين روسياوالصين تستخدم الآن إما الروبل أو اليوان، وفقًا لوزير المالية الروسي أنطون سيلوانوف. كذلك تتداول روسياوالهند النفط بالروبية، وقبل أقل من أربعة أسابيع، أصبح بنك "بوكوم بي بي إم" أول بنك في أمريكا اللاتينية مشاركًا مباشرًا في نظام الدفع بين البنوك عبر الحدود، وهو البديل الصيني لنظام الرسائل المالية الذي يقوده الغرب، المسمى ب "سويفت". وتمت الصفقة بين الشركة الصينية للغاز "نوك" و "توتال" الفرنسية، لتكون أول عملية تجارة للغاز الطبيعي المسال باليوان عبر بورصة شنغهاي للبترول والغاز الطبيعي تتضمن طرف بحجم شركة توتال. كما أن الصفقة بين روسيا وبنغلاديش لبناء محطة "روبور" النووية ستتجاوز الدولار الأمريكي، ستكون أول دفعة بقيمة 300 مليون دولار مدفوعه باليوان، وأوضحت روسيا أنها ستحاول استقبال الدفعة التالية بالروبل. أما بالنسبة لمناجم الليثيوم العملاقة في بوليفيا(الاحتياطي الأكبر عالميًا)، تقوم شركة "روسا توم" بالعمل عليها متلقيةً مدفوعاتها بالروبل واليوان. البريكس وال7 الكبار ترتبط هذه التطورات كلها بدول منظمة "بريكس"، هذه المجموعة التي أصبحت أكثر صلة بالاقتصاد العالمي من مجموعة ال 7، حيث تكشف أحدث أرقام صندوق النقد الدولي أن دول البريكس الخمس الحالية ستساهم بنسبة 32.1 % في النمو العالمي، مقارنة ب 29.9 % لمجموعة ال7 الكبار. وبعد اعلان نوايا كثير من الدول للانضمام للمنظمة، في مقدمتها مصر والسعودية وإيران والمكسيك، يبدو أن "للبريكس" دورًا حاسمًا في المرحلة الحالية والقادمة على مستويات عديدة. لدى دول "البريكس" فوائض السلع المُنتجة التي تغذي اقتصاديات العالم، ولدى مجموعة ال7 سيطرة على المنظومة المالية العالمية. لا يمكن لل7 أن تنتج سلعًا لكنها تخلق العملات، هذه العملات التي تحمل قدرة تداولية فعالة، خصوصًا عندما ترتبط بالذهب والنفط والمعادن والموارد الطبيعية. وربما تتأرجح هذه المعادلة إذا انتقل ثقل تسعير النفظ والذهب من الغرب إلى الشرق، وهو ما بدأ في الحدوث عمليًا. بدأ الطلب على السندات المقومة بالدولار ينخفض ببطء بالفعل، ولكن بثبات.و سوف تبدأ تريليونات الدولارات الأمريكية حتمًا في العودة لبلادها – مما يؤدي إلى تحطيم القوة الشرائية للدولار وسعر صرفه على المدى البعيد. في هذه الأثناء تتعاظم أدوار منظمة رابطة الدول الأوراسية، ومنظمة شنغهاي، عبر الاتفاقيات الشاملة والطويلة الأمد، التي تعمل بالأساس على أنشطة اقتصادية ملموسة الطابع، تشمل بالأساس بناء قاعدة صناعية مترابطة، وتشييد بنية تحتية في ما يزيد عن 20 دولة. لكن هل ممكن مقارنة كل هذه التطورات على مستوى "الاقتصاد الحقيقي" بنفوذ المنظمات الدولية الغربية وتكتلاتها؟ أعلن الغرب الحرب على أسعار النفط، عبر توجيه منظمة "الأوبك+" نحو عزل روسيا بتخفيض أسعار النفط. والآن، يكاد يكون تسعير النفط مُتحكم فيه تمامًا من دولتان متحالفتان، روسيا والسعودية. بديل البترودولار هناك تحولات حادثة بالفعل في سياق التداول النفطي العالمي. تمثل دول مجلس التعاون الخليجي أكثر من 25 % من صادرات النفط العالمية (تبلغ المملكة العربية السعودية 17%). كما تأتي أكثر من 25% من واردات الصين النفطية من الرياض. والصين، كما هو معروف، هي أكبر شريك تجاري لدول مجلس التعاون الخليجي. بدأت بورصة شنغهاي للبترول والغاز الطبيعي أعمالها في مارس 2018. ومن خلالها يمكن لأي منتج للنفط، من أي مكان، البيع في شنغهاي باليوان. وهذا يعني أن ميزان القوى في أسواق النفط لديه قابلية عالية للتحول. لكن حتى الآن، معظم منتجي النفط يفضلون عدم الاحتفاظ باحتياطات كبير من اليوان ؛ في نهاية المطاف، البترودولار هو الخيار الأرجح حتى اليوم. لكن تحضرت بكين بالفعل لربط العقود الآجلة للنفط الخام في شنغهاي بتحويل اليوان إلى ذهب، يحث ذلك دون استنفاذ احتياطيات الصين الضخمة من الذهب. تحدث هذه العملية البسيطة من خلال بورصات الذهب التي أقيمت في شنغهاي وهونغ كونغ. وليس عن طريق الصدفة، ناقش مؤتمر الاتحاد الاقتصادي الأوراسي هذه التصرفات قبل تنفيذها دون مواربة. يتضح أن هناك آلية قائمة بالفعل تعمل على استبدال هيمنة الدولار: الاستفادة الكاملة من عقود النفط المستقبلية في بورصة شنغهاي للطاقة باليوان. في سياق متصل، قالت كريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، مؤخرًا لمجلس العلاقات الخارجية ومقره نيويورك، أن "التوترات الجيوسياسية بين الولاياتالمتحدةوالصين يمكن أن ترفع التضخم بنسبة 5 % وتهدد هيمنة الدولار واليورو". التفوق الأمريكي يرتبط بالأساس بقوة الدولار، وهذه القدرة الاقتصادية ترتبط بعقيدة الكونجرس في الحفاظ على " السيطرة الطيفية الشاملة".لكن يبدو كذلك أن هذه السيطرة العسكرية لم تعد مضمونة بالكامل، مع النشاط العسكري الروسي وتوسع الانفاق العسكري الصيني، رغم ذلك، يظل التفوق العسكري من نصيب الولاياتالمتحدة حتى يومنا هذا.