لا شك أن الحرب الاقتصادية وخاصة فى مجال الطاقة بين الاتحاد الأوروبى وروسيا قد وصلت إلى أوجها، خاصة بعدما أوقفت روسيا ضخ الغاز من خلال خط الأنابيب "السيل الشمالى 1" بشكل نهائي وليس مؤقتًا كما أعلن من قبل "لإجراء بعض الإصلاحات"، وكانت روسيا قد استغلت من قبل اعتماد أوروبا على المحروقات الروسية لدرجة الإدمان بأن غيرت من شروط التعاقد مثل إجبار الدول الأوروبية على دفع ثمن الغاز بالعملة الروسية الروبل، وفى الوقت نفسه وبالتدريج خفض كميات الغاز المصدر لأوروبا، وهو الأمر الذى أدى لرفع أسعار الغاز فى أوروبا بدرجة أسطورية غير مسبوقة. الأمر الذى أتاح لشركة غازبروم العملاقة والحكومة الروسية لأن تحقق أرباحًا طائلة تقدر بتريليونات الروبلات نتيجة ارتفاع الأسعار، وحصول الدولة الروسية على رسوم تصدير ضخمة دخلت ميزانيتها. رغم أن حجم الغاز المصدر كان أقل مما هو معتاد. كانت أوروبا تسعى لمجرد الحصول على الغاز حتى لو بأسعار مرتفعة عن أنها تحرم منه نهائياً، وأنا هنا أتحدث عن الغاز الروسى. الهدف الروسى من ذلك هو بالطبع الضغط على الحكومات الرئيسة فى الاتحاد الأوروبى (ألمانياوفرنسا) بهدف إيجاد تسوية للنزاع الحالى على الترتيبات الأمنية، أو على الأقل تخفيف العقوبات. صادرات الغاز وكما تشير الأنباء لقد انخفضت صادرات الغاز الروسى بشكل حاد لدرجة أن ألمانيا لم تحصل سوى على 5 ملايين متر مكعب يومياً منذ 4 سبتمبر الجارى، فى حين أن الاستهلاك اليومى 270 مليون متر مكعب (ما يعنى أقل من 2% من الاستهلاك اليومى)، أما فرنسا فإن غازبروم قد توقفت عن تصدير الغاز لها منذ أواخر أغسطس، وربما لهذا السبب اتفق المستشار الألمانى شولتز والرئيس الفرنسى ماكرون مع رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراجى على وضع سقف يحدد سعر الغاز المستورد من روسيا. كانت روسيا قد أعلنت من قبل أنها لن توافق على تحديد سقف للأسعار سواء النفط أو الغاز، فكلتا السلعتين يتحكم فى أسعارهما العرض والطلب، كما أن شركة غازبروم لن توافق على سقف الأسعار وهى ستنفذ قرار الرئيس بقطع الغاز عن الدول التى لم تسدد ثمن الغاز بالعملة الروسية المحلية الروبل. ورغم أن سعر الغاز قد ارتفع بدرجة كبيرة حول العالم، إلا أن عملاق الغاز الروسى غازبروم لم يجن أى فوائد من ذلك وحرم نفسه من نصف ما كان من الممكن أن يحصل عليه نتيجة ارتفاع الأسعار لأنه ليس لديه إمكانية تصدير الغاز إلى مناطق أخرى، وعقود الغاز مع الدول الأوروبية تم توقيعها قبل ارتفاع الأسعار الحاد الحالى. فى واقع الأمر فإن الدول الأوروبية كما يقول المحلل الإقتصادى لصحيفة "كوميرسانت" الروسية ذات الميول الليبرالية يورى بارسوكوف الذى أشار إلى أن الدول الأوروبية إذا تطور الأمر على هذا النحو لن تخسر كثيراً، لكن أليس من الأجدى أن تقوم هذه الدول بمحاولة إيجاد حل توافقى مع روسيا عن أن تقطع العلاقة فيما يتعلق باستيراد الغاز الروسى، البنى التحتية الروسية لتوصيل الغاز بأي كميات لأوروبا ما زالت قائمة ولديها القدرة على العمل بكامل طاقتها. سياسة الطاقة على أى حال ما زالت هناك بعض الدول الأوروبية يصلها الغاز الروسى بانتظام المجر وسلوفاكيا وتشيكيا وماذا إذا لم توافق المجر على تحديد سقف لسعر الغاز الروسى، خاصة أنه لا توجد آلية لإجبار بودابست على الموافقة عليها، لأن الاتحاد الأوروبى يعطى الدول استقلالية فى تحديد سياسة الطاقة فى كل دولة على حدة، مما سيشكل حدثا فريدا من نوعه داخل الاتحاد. وفى الوقت الذى سوف تتوقف فيه بعض المصانع فى ألمانيا بسبب أسعار الغاز المرتفعة وفى باريس سوف تطفئ أنوار برج إيفل بسبب نقص الغاز المستخدم فى توليد الكهرباء، نجد أن المواطن فى المجر لا يعانى من مثل هذه المشاكل ويعيش حياته فى هدوء نتيجة سياسة رئيس وزراء المجر الذى توافق مع روسيا ووقع اتفاقية تضمن استمرار تدفق الغاز الروسى. فى تعليق لصحيفة "الفايننشال تايمز" على فكرة تحديد سقف لأسعار الغاز الروسى حذرت الصحيفة من رد فعل روسى، وأشارت إلى أن رد الفعل الروسى يثير مخاوف الأوروبيين، ومن الدول التى تخشى رد الفعل الروسى وفق الصحيفة هى إيطاليا واليونان وبولندا، وكان مستشار رئيس وزراء اليونان لشئون الطاقة قد صرح بأن روسيا بالتأكيد ستتخذ موقفا مضادا لمثل هذا الإجراء من قبل الدول الأوروبية. كانت أورسولا فون دير لاين قد صرحت يوم 7 سبتمبر الجارى أن اللجنة الأوروبية ستقترح على المجلس الأوروبى مسألة تحديد سقف أسعار للغاز الروسى، حتى الآن حوالى 10 دول أوروبية تؤيد تحديد سقف لاسعار الغاز الروسى، لكن للموافقة على القرار يجب أن تحصل على موافقة 27 دولة هى دول الاتحاد الأوروبى، وحول هذا القرار تكفى الأغلبية وليس الإجماع، وهناك بعض الدول ليس لها علاقة بالموضوع مثل المجر. هناك بعض المسئولين يخشون من أن تحديد سعر للغاز الروسى فقط قد يغضب روسيا، وفى نفس الوقت سيجعل القيادات الأوروبية فى وضع صعب أمام ناخبيهم، بمعنى سيسأل الناخب مثلاً لماذا نستورد غازا مرتفع الثمن من جهات أخرى والغاز الروسى محدد الثمن وقد يكون أرخص، فى دولة مثل البرتغال. كما أن أنصار تحديد الأسعار لكل الغاز سيكون عليهم أن يكونوا حريصين على تحديد سقف لكل أنواع الغاز الوارد إلى أوروبا سواء من آسيا أو الولاياتالمتحدة لكى تحافظ أوروبا على حافز التصدير لأوروبا من تلك المناطق. صعوبات التطببيق ويبدو أن مسألة تحديد سقف لأسعار الغاز الروسى لن تمر بسهولة، فقد أعلنت كل من النمساوألمانيا عن أنهما ضد تحديد سعر للغاز الروسى، بينما صرح الرئيس التركى بأنه طلب من الرئيس بوتين تخفيض سعر الغاز المباع لتركيا، مشيراً إلى أن تركيا لا تعانى نقصا فى إمدادات الغاز حيث إنها غير منضمة للعقوبات المفروضة على روسيا، فيما توقعت صحيفة تركية أن تستسلم الدول الأوروبية أمام روسيا فيما يتعلق بمسألة تحديد سعر للغاز الروسى، على أى حال نحن فى انتظار القرار الأوروبى ورد الفعل الروسى القائم حالياً من خلال وقف إمدادات الغاز تقريباً عن أوروبا. ورغم أن بعض الدول تعلن أن خزاناتها ممتلئة بنسبة 85%، فإن السيف ما زال مصلتاً على هذه الدول التى تسابق الزمن فى محاولة لإيجاد مصادر بديلة منها غاز مسال من مصر وإسرائيل وبالطبع هذا بخلاف النرويج التى توقفت عن حقن الآبار النفطية بالغاز لتوفيره للتصدير، وهولندا المتوجسة من حدوث زلازل نتيجة استغلال آبار الغاز لديها، هذا بخلاف جزر بحر الشمال التى ستملأها مولدات الكهرباء من الرياح وربما الطاقة الشمسية. لكن لا شك ما كانت أوروبا تتوقع ضربة مثل هذه من الرئيس بوتين الذى عاقب الأوروبيين وحقق أرباحا من أسعار الغاز ستكون مفيدة حتى يجد أسواقا جديدة للغاز الروسى فى دول آسيا والصين. وإذا لاحظنا نجد أن النفط والغاز الروسيين فى معظمهما كانا يتجهان بالدرجة الأولى إلى أوروبا، وإذا بدأنا من الشمال للجنوب نجد خطوط أنابيب الغاز الروسى تكفى أوروبا والعالم فهناك فى الشمال "السيل الشمالى 1 و2" متجهين إلى ألمانيا ثم خط يامال أوروبا ويمر عبر بيلاروسيا، وهناك خط داخل أوكرانيا ويصل إلى المجر وبولندا، ثم مؤخراً هناك "السيل الأزرق" والسيل التركى. كل هذه الخطوط تصل إلى أوروبا بشكل أو بآخر، ولذلك لا غنى للأوروبيين عن الغاز الروسى بشكل نهائى نظراً لسهولة النقل، ومسألة تحديد سقف لأسعار الغاز والنفط بلا شك فيه إهانة لروسيا ويذكرنا بلعبة "النفط مقابل الغذاء" مع العراق والتى حددوا فيها أسعار النفط العراقى مقابل أن يمنحوا العراق ليس أموالاً ولكن مواد غذائية وأدوية. تكسير عظام فى الوقت الحالى يجرى صراع وحرب تكسير عظام سواء فى ميادين القتال فى خاركيف أو فى مجال الطاقة عض الأصابع، أوروبا تريد الإفلات من هذا الشتاء القارص، وروسيا تتلاعب بأعصابها، أوروبا يبدو لى أنها لن تستطيع تنفيذ مسألة تحديد أسعار الغاز أو حتى النفط الروسيين، لأن البدائل من الخارج ليست مؤكدة والحلول من الداخل تحتاج إلى وقت، ويبدو أن ألمانيا سوف تتراجع عن إغلاق محطتين نوويتين كانتا تريد إغلاقهما وفرنسا لن تغلق محطتها الصدئة النووية لإشعار آخر، ومحطة زابوروجيا التى كانت أوكرانيا تطمح فى فك ضيق حلفائها بها تسيطر عليها وتتحكم فيها روسيا، والموقف يزداد تعقيداً على المستويين السياسى والعسكرى، لكن من يدرى ربما يكون هذا طريق لإيجاد حل. على أن خسرت أوروبا حرب الغاز وفشل الأوروبيون فى إقرار سياسة تحديد سقف لأسعار الغاز، حيث وافقت 15 دولة فقط على ذلك فيما رفضت باقى الدول وهى فى الأساس من دول وسط وشرق أوروبا التى تعتمد على أنبوب الغاز الروسى. حتى مسألة تحديد سقف لأسعار النفط تغلبت عليها روسيا بتصدير النفط من خلال دولة ثالثة، ويستخدم الأوروبيون النفط الروسى، وهم يعرفون ولكنهم يتجاهلون المصدر الأصلى حفظاً لماء الوجه.