الإفراج عن التاريخ أمينة النقاش تفتح المبادرة الكريمة من الرئيس «السيسى» بتوجيه وسائل الإعلام المختلفة، للاحتفال بمئوية «خالد محيى الدين» باب الأمل، بأن ينطوى برنامج عمل «الجمهورية الجديدة» على مهمة تندرج فى سياق قضية إعادة الوعى بوظيفة التاريخ، ومسألة التكوين السياسى للمواطنين، ومنحهم الثقة فى تاريخهم، وحفزهم على السعى للفهم الموضوعى لوقائعه وأدواره، والشخصيات التاريخية التى قادت تلك الأدوار وأثرت فى مسارها إن بالسلب او بالإيجاب، دفاعا عن ثقافتهم الوطنية. وتتمثل تلك المهمة فى إعادة كتابة التاريخ المصرى الحديث والمعاصر بمناهج علمية، ومعايير بحثية معتمدة تدقق الحدث وتبحث عن وقائعه فى كافة مظانها.وهو أمر يستدعى وضع المادة 68 من الدستور موضع التطبيق، وتقضى بإلزام الدولة بتوفير المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية والمكاتبات والرسائل، والإفصاح عنها، وإتاحتها للمواطنين بشفافية، وفقا لقانون ينظم ضوابط الحصول عليها، ويتيح التظلم من رفض إعطائها، ويعاقب من يحجبها، أو يعمد إلى إعطاء معلومات مغلوطة بشأنها. وليس سرًا أن ضرورات الصراع السياسى طوال عقود العهد الجمهورى، ومنافساته وأهوائه، قد أخضعت بعض مراحل هذا التاريخ وأبطاله ووقائعه، لحملات دعائية انتهت بتهميشه وإنكاره، وتشويهه ومحوه تمامًا من المناهج التعليمية فى مراحل التعليم ما قبل الجامعى.أما فى التعليم الجامعى، فقد ظلت تلك المراحل التاريخية حبيسة قاعات البحث، وخاضعة لأهواء قائليها وبعيدة عن متناول القارئ العام. و لايظن أحد أن الانتماء السياسى والفكرى والإيدولوجى فى الكتابة التاريخية وفقا لمناهج البحث التى ينتمى إليها المؤرخ تمنع حقه فى تفسيره للظاهرة التاريخية، أو فى الاستنتاجات التى يخلص إليها منها، لكنها تحظر عليه أن يبدل فى الوقائع أو يحذف منها أو يختلق وقائع لكى تتلاءم مع رؤيته للواقعة وتفسيره لها. أتذكر قبل سنوات، حين بدأ التليفزيون فى إذاعة المسلسل البديع «بوابة الحلوانى-1992»الذى تدور أحداثه أثناء حفر قناة السويس، أن كاتبه «محفوظ عبدالرحمن «ومخرجه» إبراهيم الصحن» قد تعرضا للنقد من قبل بعض الأقلام الصحفية، لأن المسلسل بدا منصفا لعصر الخديو إسماعيل، مما اعتبره هؤلاء دفاعا عن أسرة محمد على. وقد تحول هذا النقد إلى هجوم حاد على السينارست «لميس جابر» حين تم عرض مسلسلها «الملك فاروق» للمخرج حاتم على -2000– بزعم أنه يبشر بعودة الملكية إلى مصر، بإظهاره جوانب مضيئة فى شخصية الملك. ولا تعدو تلك الانتقدات سوى إثارة لمشاعر عاطفية سطحية لا علاقة لها بالتاريخ ووقائعه، فضلا عن أن هذا المناخ يشكل نوعا من الإرهاب الفكرى، يعوق حرية الكتاب والمؤلفين والمؤرخين فى التناول الموضوعى والمختلف عما هو شائع فى الإعلام الدعائى لمراحل التاريخ المصرى الحديث والمعاصر. ووقفت التفسيرات الرسمية المتباينة حول الأدوار التى سبقت ومهدت وشاركت فى حرب أكتوبر العظيمة، حائلا دون إنجاز فيلم سينمائى ضخم يؤرخ لها، لكى يحرم المصريون من إتمام عمل تاريخى كهذا، يحفظ لهم الذاكرة الوطنية ويحميها بالصوت والصورة والكلمة من التشتت والاندثار، فضلا عن حمايتها من أهواء السياسة المتقلبة. وشمل الغضب بعض عناصر من النخبة السياسية، التى تحب أن تحتكر لنفسها التحدث باسم عبدالناصر، دون أن يفوضها أحد بذلك، حين أطلقت القيادة السياسية عام 2017 اسم اللواء « محمد نجيب»على القاعدة العسكرية الضخمة فى مرسى مطروح، على اعتبار أن خلاف الرئيس عبدالناصر معه، يعلو على تكريمه. مع أن أحدا من الضباط الأحرار الذين دونوا مذاكراتهم، لم ينكر أن جسارة محمد نجيب بقبوله أن يكون واجهة لثورة 23 يوليو، وإن لم يشارك فى الإعداد لها، شكلت الدعم الرئيسى لنجاحها. لكن روح العدل والإنصاف التى تتسم بها القيادة السياسية الراهنة، لم تلتفت لمثل تلك التصورات القصيرة النظر، التى تمعن فى الإقصاء والتجاهل، ولا تعكس ولاء أو محبة لأحد، بل تسيء إلى ذاكرة مصر الوطنية، وتجزئ تاريخها، وفقا لأهواء سياسية، وهى روح وثابة نتمنى أن تمتد لتشمل قادة الحركة الوطنية المصرية من ثورة عرابى مرورا بثورة19وصولا لثورة يوليو. فى عام 1964 شكلت لجنة لإعادة كتابة التاريخ القومى، لم تسفر عن شىء.وفى عام 1976 شكل الرئيس السادات «لجنة إعادة كتابة تاريخ مصر» وأوكل رئاستها لنائبه آنذاك «حسنى مبارك» وعقدت اللجنة جولات متعددة للسماع للشهود وجمع الوثائق والمستندات والمراسلات الرسمية، لكن تسارع التطورات السياسية الداخلية أوقف عملها، ولم تتجدد المحاولة مرة أخرى. تباعد الأشخاص الآن، وغابت وجوه، وجرت فى النهر مياه كثيرة، وبات تشكيل لجنة وطنية مستقلة من خبراء ودارسين وباحثين مشهود لها بالكفاءة والنزاهة والمهنية الرفيعة المستوى مهمة ضرورية، ونحن فى الطريق لبناء الجمهورية الجديدة.على أن تتوفر أمام تلك اللجنة كافة المعلومات والوثائق، والجهود السابقة على عملها، لجمع وتوثيق وتدقيق أحداث مصر التاريخية الحديثة والمعاصرة. على أن يستند عملها إلى منهج علمى عقلانى موضوعى يبتعد عن الانحيازات السياسية والفكرية، التى قد تغرى بالتحامل أو التملق، لوقف العبث بأحداث التاريخ وتلويث الرموز الوطنية، تحت وطأة التقلبات السياسية، لأن التاريخ يبدأ، كما يقول المؤرخون، بعد انتهاء السياسة ! ولعل تلك الفكرة أن تجد مكانا لها، فى المحاور التى يجرى الإعداد للنقاش حولها فى مؤتمر الحوار الوطنى.