الزراعة: لولا المشروعات الجديدة لارتفعت أسعار الخضروات 5 أضعاف (فيديو)    جيش الاحتلال: إصابة 14 جنديا خلال ال 24 ساعة الماضية    «مناظرة النفس الأخير».. سقطات أنهت أحلام المرشحين برئاسة أمريكا    لماذا ودعت أوكرانيا يورو 2024 رغم امتلاك 4 نقاط؟    50 مليون إسترليني تقرب نجم لايبزيج من مانشستر سيتي    مراجعات «مجانية» للثانوية العامة على بوابة أخبار اليوم حتى نهاية الامتحانات    رامي جمال يطرح أغنية يا دمعي على يوتيوب    لطيفة تطرح أغنية «مفيش ممنوع» على اليوتيوب    جداول تنسيق القبول بمدارس الثانوى الفنى الصناعى والتجارى والفندقى بالجيزة .. تعرف عليه    أحمد موسى: هناك من يحاول استغلال أزمة الكهرباء لتحقيق مصالح ضد الدولة    بالأسماء.. مصرع 6 أشخاص وإصابة 3 في حادث تصادم ب"زراعي البحيرة"    التعليم تعلن نتيجة امتحانات الدور الأول للطلاب المصريين بالخارج    جولر يقود تشكيل تركيا ضد التشيك فى يورو 2024    5 صور ترصد زحام طلاب الثانوية العامة داخل قاعات مكتبة الإسكندرية    قبل انطلاقها.. مسرحية "ملك والشاطر" ترفع شعار "كامل العدد"    على أنغام أغنية "ستو أنا".. أحمد سعد يحتفل مع نيكول سابا بعيد ميلادها رفقة زوجها    هل يجوز الاستدانة من أجل الترف؟.. أمين الفتوى يجيب    أحمد المسلمانى: أمريكا تقدم نفسها راعية للقانون وتعاقب الجنائية الدولية بسبب إسرائيل    حكم استرداد تكاليف الخطوبة عند فسخها.. أمين الفتوى يوضح بالفيديو    سماجة وثقل دم.. خالد الجندي يعلق على برامج المقالب - فيديو    بالفيديو.. أمين الفتوى: العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة عليها أجر وثواب    في اليوم العالمي لمكافحة المخدرات- هل الأدوية النفسية تسبب الإدمان؟    القوات المسلحة تنظم مؤتمراً طبياً بعنوان "اليوم العلمى للجينوم "    لماذا يقلق الغرب من شراكة روسيا مع كوريا الشمالية؟ أستاذ أمن قومي يوضح    الرئيس السيسي يوقع قوانين بربط الحساب الختامي لموازنة عدد من الهيئات والصناديق    وزير الرى يدشن فى جنوب السودان مشروع أعمال التطهيرات بمجرى بحر الغزال    ثلاثي مصري في نهائي فردي الناشئات ببطولة العالم للخماسي الحديث بالإسكندرية    بشرى لطلاب الثانوية العامة.. مكتبة مصر العامة ببنها تفتح أبوابها خلال انقطاع الكهرباء (تفاصيل)    صندوق النقد الدولي يقر بتمويل 12.8 مليون دولار للرأس الأخضر    نجاح كبير للشركة المتحدة فى الدراما.. 125 عملا بمشاركة 12 ألف فنان و23 ألف عامل "فيديو"    مساعد وزير البيئة: حجم المخلفات المنزلية يبلغ نحو 25 مليون طن سنويا    كيف يؤثر ارتفاع درجات الحرارة على الرحلات الجوية؟.. عطَّل آلاف الطائرات    بتكلفة 250 مليون جنيه.. رئيس جامعة القاهرة يفتتح تطوير مستشفي أبو الريش المنيرة ضمن مشروع تطوير قصر العيني    17 ميدالية حصيلة منتخب مصر في كأس العالم لرفع الأثقال البارالمبي    المشدد 15 سنة لصاحب مستودع لاتهامه بقتل شخص بسبب مشادة كلامية فى سوهاج    كيف يؤدي المريض الصلاة؟    اخوات للأبد.. المصري والإسماعيلي يرفعان شعار الروح الرياضية قبل ديربي القناة    خبير شئون دولية: فرنسا الابن البكر للكنيسة الكاثوليكية    «مياه كفر الشيخ» تعلن فتح باب التدريب الصيفي لطلاب الجامعات والمعاهد    «التمريض»: «محمود» تترأس اجتماع لجنة التدريب بالبورد العربي (تفاصيل)    وزيرة البيئة تتابع حادث شحوط مركب سفاري بمرسى علم    الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي: صرف معاشات شهر يوليو اعتبارا من الخميس المقبل    نجم ميلان الإيطالي يرفض عرض الهلال السعودي ويتمسك بالبقاء في أوروبا    الصحة: استجابة 700 مدمن للعلاج باستخدام برنامج العلاج ببدائل الأفيونات    لجنة القيد بالبورصة توافق على الشطب الإجبارى لشركة جينيال تورز    الإعدام لثلاثة متهمين بقتل شخص لسرقته بالإكراه في سوهاج    شديد الحرارة رطب نهارًا.. الأرصاد تكشف عن حالة الطقس غدا الخميس    المنظمات الأهلية الفلسطينية: الاحتلال يمارس جرائم حرب ضد الإنسانية في قطاع غزة    مختار مختار: عدم إقامة مباراة القمة خسارة كبيرة للكرة المصرية    ختام دورة "فلتتأصل فينا" للآباء الكهنة بمعهد الرعاية    تعيين 4 أعضاء جدد في غرفة السلع والعاديات السياحية    فحص 764 مواطنا فى قافلة طبية مجانية بقرى بنجر السكر غرب الإسكندرية    هل يجوز الرجوع بعد الطلاق الثالث دون محلل؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    الأكاديمية الطبية تفتح باب التسجيل في برامج الماجستير والدكتوراة بالمعاهد العسكرية    أحمد فتحي: انسحاب الزمالك أمام الأهلي لا يحقق العدالة لبيراميدز    احتفالات 30 يونيو.. باقة من الأغنيات الوطنية تستقبل جمهور «الإنتاج الثقافي»    «حلو بس فيه تريكات».. ردود فعل طلاب الثانوية الأزهرية بقنا عقب امتحان النحو    الجريدة الكويتية: هجمات من شتى الاتجاهات على إسرائيل إذا شنت حربا شاملة على حزب الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جنازة جديدة لعماد حمدي..رواية وحيد الطويلة ..الجزء السابع والأخير
نشر في الأهالي يوم 09 - 10 - 2021


رواية
وحيد الطويلة
الجزء السابع والأخير
26
اِسحبْ صفحة بيضاء من كراسة رسم جديدة، أو لوحة فارغة واملأها، ما حدث قد حدث.
نحن الآن أمام المصائر.
تهيأ، توضأ بروحك للمعركة الأخيرة قبل أن تغلق الصفحات وترمي الكشكول في البئر.
ضع المسجلين خطراً الصغار أولا.
ضع النساء في لوحات متجاورة، الجمال مفرد لكن الحسن جمع.
اِحشر حبيبتك في الجانب، حاذر أن تقترب من القلب، غفا على ما به، ثم ضع ناجح وحده في صدر البهو، ولا تنس أن تضع تهويماتك كلها، هي في النهاية من صنعك أنت مهما كانت حقيقتها، هي حقيقتك وحدك، عينك أنت.
وروحك أنت.
لا تنس أن تجعل وجه آيات جميلاً تحت الأمواس، ووجه ناجح نصف حزين نصف منتصر تحت الأقواس.
وأمك.
أمك أمام عينيك مباشرة، خلِ عينيها تنظران إليك مباشرة، طويلاً كما كانت تفعل، فربما تنطق من قلب الصورة، وأعد رسم حذاء البيادة نفسه وأخرج وجه أبيك منه.
لن يضيرك شيء، الآباء الضباط لا يتغيرون، نسخة واحدة تقريباً.
ابدأ من هناك:
أم حواء انتقمت لنفسها من الرجال، تبادلا الجور، جارت الحياة عليها، كُسرت من البداية، أحبت واحداً دخلها ثم سلمها لأصحابه، اِرسمها بلسان يصعد نحو السماء مرة، ارسمها مرة أخرى بلسان يتدلى نحو الماء بحثاً عنهم، لا تقربها من الماء كثيراً، لا تبعدها، نعم، اِجعل الأمل بينها وبين الأمواج، قد يعودون سابحين فوقها.
دعها تغسل ذنوبها فيه.
دع غواصين يسبحون في الماء ولو على مبعدة كي تجعل الأمل ممكناً، والخيط غير مقطوع.
لا تقطع الخيط.
الولد الذي عثرَتْ عليه على الفيسبوك بمساعدة أسعد قشطة، رفض أن يكلمها، ينظر إليها كأنه ينظر إلى الأم تريزا، قطع خيط الأمل في وجهها، يتحدث لغة أخرى، كان من الممكن أن يبتسم أو يلوح لها، بدل أن ينظر إليها ككائن فضائي.
انتبه، لا تضع أنت المصائر لكل من صادفتهم أو حكيت عنهم، دعهم يحددون مصائرهم بأنفسهم، هم اختاروا منذ البداية، اختاروا مصيرهم، ولم يمشوا في طريق البشر العاديين.
لستَ محتاجاً أن أُذكِّركَ أن شكل النهاية لا يعنيهم طالما المصير واحد، صراعهم في الحياة مع نفوسهم المشوهة لا مع الناس، مع غواياتهم وغاياتهم، والنهاية لا تعنيهم بالمرة.
ارسمهم بالأبيض والأسود، اسكتشات، حتى لا تختلط المصائر، حذرتك.
الوحيد الذي ينظر خلفه هو ناجح، سيظل ينظر خلفه، لم يعد له أمام.
دعك منه الآن، سيحدد مصيره بنفسه، سنعود إليه فيما بعد.
شحته الآن أفضل حالاً، وجد عند آيات ما كان يحلم به، كان محبوساً دوماً، فوجد من يحبسها تحته، كان يسجن جسده وروحه في الحبس فصار يحبسهما فيها والفرق كبير.
تصالح مع نفسه، وجد عشاً وحقق بطولة لم يحققها أحد، تسمح له أن يدخل موسوعة جينيس للحبس في جرائم لم يرتكبها.
ما يوجعه أنه تعود على الحبس، وجسده لم يتعود على المراتب بعد، لكن أصابع آيات سوف تنشئه من جديد، سوف تنسيه ماضيه، أول رجل ابتسم لها في حياتها، وأخذها وقت أرادت هي.
آيات ملكة الآن، أنهت سنوات العذاب، دفعت وتتهيأ للقنص، لن يدق قلعتها غريب، ولن يجلب لها ابنها فحلاً، ولن تتعارك معه على صياد، شحته ليس مطمعاً له، دخل من باب الحنان وهذا باب آخر، وخصية واحدة تكفي المطلوب، خصية مع فدان حنان ورضا تكفي لباقي الحياة، هو لا يريد أن ينجب.
آيات ملكة الآن لولا ابنها المحبوس، وعندما يخرج ربما يكون شحته قد مات أو صار شيخاً، هو سيخرج من الحبس شيخاً أيضاً، وشيخوخة الجسد والروح قد تصنع منهما أصدقاء، خاصة أن شحته سوف يربت على شيخوخة روح ابنها، سيترك له من ثمن بيع خصيته مالاً كثيراً، ثم أن ابنها سيشبع في السجن وقد يخرج من هناك وقد أعلن اعتزاله أيضاً.
صديقتك الراقصة حتى لو اعتزلت لن تتعب كثيراً، سوف تغني وربما تغني خلف راقصة وهذا شيء جميل وجديد، مختلف عن المغني الرجل الذي يقف خلفها دائماً، المهم أنها ستغني ولو لنفسها، الغناء يطيل العمر ويجلب الأحبة.
منير زبالة أو منير أبو شفة الذي كان ينفخ على ميزان الحشيش ليقلل وزنه لن يتعب أيضاً، لا الحشيش سينقطع ولا الذين ينظمون حفلات المزاج ويحتاجونه سينقرضون، وحزب الانبساط هو الحزب الوحيد الباقي على مر الزمن، ثم إن شفته أصبحت تتحرك على الفاضي والمليان، وسينفخ طالما فيه نفس، وحتى إن مات سيموت وهي تتحرك وتنفخ، وسيرتكب حماقات كثيرة.
الذين يرتكبون الحماقات لا يخشى على مصيرهم، هم لا يكترثون ولا يأسى عليهم أحد.
هل تستطيع أن ترسم شفة تتحرك؟
هذا هو رهانك.
لوحة بيكاسو عن الرجل الذي نطره الحصان جمالها فقط في اقتناص الحركة، يهتز الرجل والحصان أمام عينيك.
ابتسم الآن وأنت تدخل عالم النصابين. النصابون ظرفاء مهما أوجعوك، ويمكنك رغم ألمك أن تصفق لمهاراتهم وتعجب بهم.
هل تنتظر مصيراً للسيد أسعد قشطة، الفنان النصاب المعلم، لن يتورع عن ارتكاب أي شيء، وقد يخترع هو نهايته، قد يموت في النهاية بحقده على أخيه وإن كان أمراً مستبعَداً لشخص يعشق الحياة ويفصلها تفصيلاً.
انظر معي وستعرف بنفسك، واحد استطاع أن يضع إعلانات شركته على الجوامع حتى لو كانت شركة وهمية، بل دفع المؤذن من أعلى وأذن العصر بدلاً منه، وأكمل بالإعلان عن شركته، لا يجب أن تخشى على مصيره.
أظن أنه سيحظى بنهاية رائعة تليق بحياته المميزة، قد يؤجر الجوامع للسائحين ليبيتوا ويتحمموا فيها باعتبار أن ذلك طقس غير ممكن لأية شركة سياحية أن تقوم به، بل سيدّعي ببراءة أمام شيخ الجامع أنهم مسلمون من البوسنة أو جورجيا لا يعرفون العربية لكنهم يعرفون الله بقلوبهم.
سيترك كرتونة صابون وشامبو وجل شاور للشيخ.
عقدة واحدة هي عقدة الأخ الكبير، وقد نجد لها حلاً بموت أحدهما في النهاية، بالأحرى موت الأخ الكبير، ارسمهما ضوءاً وظلاً.
أخشى ألاعيبه، قد تتغير نهايته، يفكر أن يذهب للحج ليعمل داعية، عرض على ناجح أن يذهب المسجلون الذين كبروا أو تابوا للحج والعمرة، أغواه أن تصبح شركة سياحية لهذا الغرض فقط بلافتة: شركة سياحة لرعاية المسجلين التائبين أو المعتزلين مثل جمعيات المساجين التائبين، وقد يحصل على جائزة الأيزو ويصبح من رجال المجتمع الصالحين.
لا تتحرك وخلِك في النهايات السعيدة.
البنت التي كانت تقنص دبل الخطوبة والزواج من زبائنها، تزوجت الآن من نشال آخر لكن مستقيم، تحكمه بالحديد والنار، ولا تسمح له أن يخلع دبلته حتى لو ادعى أنه يتوضأ أو أن الصلاة بها حرام، جلبت له دبلة من الفضة، تنظر إلى يده اليسرى قبل أن تنظر إلى وجهه، اليمنى بالطبع تكون مملوءة بحصيلة اليوم.
الضابط المزيف سوف يكون مديراً إدارياً لشركة السياحة، يشخط وينطر ويعقد الاتفاقات، سيتعامل مع زبائن الشركة بصلف لذيذ يليق به، عنجهيته مطلوبة أحياناً، لا تنزعج إن وضع جوازات السفر في مظروف وختمها بالشمع الأحمر، من ليس له ماضٍ ليس له مستقبل.
إن لم يقبل ناجح فيكفيه ما أحرزه من أمجاد، نصب على الحكومة بضباطها، يكفيه أن يجلس في غرفته أمام ملابس الضباط التي علقها أمامه على الحوائط، ينظر إلى السقف المرصع بالنجوم يهاتف مدير شرطة نيويورك ليعرض خدماته.
عرِّج الآن على ما يوجعك.، قد تخفف مرارتك بالمصائر.
لن تبحث عن مصير لثريا التي لبسك عارها، فهي قد أراحت واستراحت، فعلت مع غيرك ما فعلَتْ بك، استمرت في غيّها، حاولت أن تسرق حياة الآخرين.
علّمها زوجها المجنون بجمع الهواتف التي تسرقها كيف يكون لها حساباً على الفيسبوك، وأن تستعمل الإيميل، انتحلت شخصية واحدة جميلة، سرقت صورها من الهاتف، وضعتها على صفحتها كأنها صورتها، عاشت بشخصيتها عامين، أعجبتها اللعبة، ما لم تأخذه باليد تأخذه بالتكنولوجيا حتى وقعت بجرم انتحال شخصية، قضت عاماً واحداً بالسجن، وعندما خرجت معتلة الصحة طلقها زوجها لأن العار لبسه بعد أن أصبح زوج مجرمة، ولأنها لن تنجب أولاداً ولا هواتف جديدة، فماتت بحسرتها بعد عشرة أيام.
زوجها لبس قمصانك وبدلاتك وربما باع لوحات لا تتذكرها وينعم الآن بزواج جديد، هذا هو الوحيد الذي يجب أن تحدد مصيره أنت، وتقبض عليه متلبساً، ربما علق لوحاتك على الحوائط وينتظر فرصة أن تنسى ليبيعها، أو يعلقها على الحيطان ليعيش حياتك.
لاحظ أنك يمكن أن ترسمه بالأبيض والأسود، بقلم جافٍ، حتى تتحكم في المصائر، أو اسمعني: ارسمه زيت على توال، دع الألوان تسيح على بعضها البعض حتى يسقط في مصير غامض، وليطغى الأحمر والأسود على بقية الألوان، وليغرق هو في لون جديد لا يعرفه، نعم هو من يستحق الحبس، سرقت… لكنه هو من زين لها ودفعها وأمسك بلجامها، دفعها وأخافها.
أنت نسيت نفسك، وجهك أمام لوحة بيضاء هي مستقبلك وخيارك، أنت تريد أن تتركها بيضاء حتى تروق وتفعل ما تحب، أو لأنك بل تعرف بالضبط ماذا سيحدث، هذا جيد لك.
لا تنس أن الحظ يجري أمامك وأنت لست أعرج، والصفحة الآن بيضاء، ولا تنس أنك شاهدت محمد عبد الوهاب يتحدث في التليفزيون، كان يقول إنه يدهن الحوائط كلها بالأبيض، تتراقص عليها النغمات وتلونها، وعندما ألحوا في السؤال: لماذا؟ سكت طويلاً ثم عدّل نظارته، ألقى بقنبلته وقال:
اللون الأبيض مسئولية.
قالها بالثاء لأنه ألثغ وأنت لست كذلك.
صوت عبقرينو يقطع حبل أفكاره، أخيراً جاء، بعد انتظار طويل، جاء لمصيره.
تجادلا كثيراً حول الذهاب لناجح.
اعترض بشدة، قال بشكل واضح: لا تذهب للقرد في دولته، سحب نفساً عميقاً من الشيشة أطلقه من أنفه وقال:
يجب أن نقفل على هذا الماضي، ونختم بالشمع الأحمر ولو لآخر مرة في حياتنا.
عبقرينو أصبح أقرب من ناجح، كان يعمل معك في الأساس وأحياناً تتركه يعمل مع ضباط آخرين كي يشفي غليل غوايته، ولم تتحرك قضية في السنوات الأخيرة دونه، خبير عالمي، ما من حل رآه إلا وحل القضية، لكنه منذ خروجك على المعاش عافت نفسه المباحث وأخواتها، كأنه زهد، كأنه شبع، كأنه كان دفعتك وخرجتما معاً في قرار واحد.
التفت إليك كأنه يعرف فيما تفكر، كأنه يقرر مصيره بنفسه.
فجأة وبصوت خفيض غير مكترث قال إن مدير المباحث اتصل به.
ماذا يريد؟
.. كان يحتاجني في قضية.
شرد قليلاً ثم أكمل:
.. قال لي بصوت آمر ببعض العشم: هل ما زلت نائماً حتى الآن يا عبقرينو! هيا لا تتأخر.
لم تسأله عن رده.
دعك أنفه، صمت قليلاً، وبوجه مرتاح:
.. قلت له يا باشا، سامحني، لن آتي مرة أخرى، لم أعد ضابطاً عندك، أنا اعتزلت.
27
اِقطع صفحة ناجح، لا، لا تقطعها من حياتك، لا ترمها، لن تستطيع، اطوها إذاً ناحيته يفعل بنفسه ما يشاء.
نقطع صفحات الذين غدروا بنا أو كانوا أنذالاً معنا، ناجح كان نذلاً مع نفسه أولاً ومع الجميع، وأنت قبلته هكذا وأحببته هكذا، وتزوجت به على هذا النحو.
لم يؤذك أنت شخصياً، كان يدك في معظم الأوقات، ورجلين لنفسه، لا تنس أن له معك دقات مرجلة، لكن ذهابك إليه الآن لن يبرئ ساحتك، وامتناعك عنه لن يعني أبداً أنك شاركت بأي شيء حتى بالتقاعس عن مساعدته في قتل ابنه، غيابك لن يعني أنك شامت.
عندما تهدأ النار، سوف يظهر ما في القصعة كاملاً بعيداً عن بقبقة النوايا وفرقعة الحطب.
من يمسك ملعقة ليغرف من سطح القصعة، لن يعرف الطعم من بقبقة الطبخة، هي ليست الطعم النهائي.
المذاق الحقيقي بعد أن تبرد قليلاً، القرارات التي تتخذ لحظة غليان الطبيخ قرارات متسرعة، لم يفعلها حاذق مثل ناجح، صحيح أن من حوله ومناخ الهزيمة قد يدفعونه لقرار أهوج، لكن الذي أعطاك شبشب المقتول في كيس وقال لك بهدوء: خذ هذا، قد ينفعك، لن يفعلها.
لا تذهب، قولاً واحداَ.
أنت ربَّيْتَ الذئب في حضنك، لكن هذا لا يعني أنك يجب أن تربي ابنه، أو تربي مسيرته كلها.
ولا تقلق عليه، هذا الذي يؤرقك بحكم العيش والملح، سيفكر ألف مرة قبل أي قرار طائش، هو يعلم جيداً أن الثأر-إن كان هناك ثأر- يجب أن يطبخ على ماء بارد لا على سطح قصعة ملتهبة، هو مثلك تماماً، سيتخذ قراره وحده، وهو في النهاية كما يقولون عنه: بني آدم فوقه جنة.
دعه الآن وفكِّر في غيره.
هوجان حدد مصيره بنفسه، لا تقل إنه ذهب غيلة، كان يعرف منذ البداية أن سكته كلها خوازيق، قفز عليها واحداً تلو آخر، انتصر دائماً، لكن هناك دائماً بروتس لكل قيصر وهناك دائماً خازوق لا يراه أحد، حتى لو كان أقرب خازوق له.
كان يقول بثقة الرئيس إن المسجل الكبير أو المرشد الكبير ليس أمامه سوى النصر أو الشهادة.
ربما هذا ما منح حياته طعماً حريفاً، كأنه قرن شطة حارق وسط صفحة طماطم، منحها طابع المغامرة والتوتر اللذيذ، غامر في حياته وبحياته وعاش ومات منتشياً، ارسمه إذاً في لوحة وسط مسجليه بوجه نصف متفاجئ نصف متألم، ينظر لأعلى بفم مفتوح تخرج منه كل الضحايا والمسجلين، ارسم روحه يراها تصعد أمامه إلى السماء.
ولي العهد الذي يُقتل قبل استلام مقعد الملك بيوم يتحول إلى أسطورة.
اِرسمه وهو يقابل الملائكة بقافلته من المسجلين، يحوطونه في الأرض والسماء، اِرسم حوله كلابه، صدقني، الكلاب تنبح والقافلة تنبح أيضاً.
اِدخل الآن إلى مصائر الشجن.
حبيبتك لا تريد نهاية لقصتها ولا أنت تريد، يا رجل حكاية وانتهت، صادفتها في السوبر ماركت، هي من جاءت إليك، تقدمت نحوك ببراءتها القديمة، لم تعد هناك غيومُ على وجهها، وجفناها صارا مفتوحين، جرت نحوك كأنها اشتاقت إليك، كأنها كانت معك بالأمس، تزوجت وتطلقت، لديها ولدان، كبرا، يحوطان حياتها لكنهما في الشارع ليل نهار، وحتى حين يعودان يعسكر كلٌ في غرفته مع الهاتف واللاب توب، وأشياء غريبة وأشياء لا أعرفها.
تضحك فتذوب تجاعيد خفيفة، كما هي إلا من تجاعيد العمر والتجربة، ظلت نحيلة وإن بقيت مؤخرتها عالية كما هي.
ربع الابتسامة مازال، قالت كأن الحكمة تلبستها فجأة أو دعكتها الأيام:
كنت تفيض عن إحساسي وقلبي، وكنت خائفة، الخائفون لا يحبون، وحتى إن سقطوا في الحب لا يضعون أقدامهم على الأرض، يهربون للخلف، يهربون من الحواف.
صدقني عندما كانت الدنيا تضيق بي، أو يغلقها طليقي أمامي، يسوّدها، كنت أغمض عينيَ وألوذ بفرحك بي، أنت ساعدتني دون أن تدري، عندما كنت أحتاج لثقة في نفسي ألجأ لأيامك، أنت من جعلتني أشعر أنني أنثى، أصعب إحساس على أنثى حين لا تجد أنوثتها في حضن أو عين رجل.
ودون أية مقدمات مدت يدها اليسرى، وضعتها على صدري بحنو ودلال:
لا تغضب مني، أعتذر لك.
لم تجد ما تقوله.
كنت صغيرة وأنت كبير، أكبر من قدرتي على احتمال التوتر.
لا تجد مخرجاً وأذناك احمرتا، قالت وهي تودعك إنها وحيدة الآن ثم ابتسمت، يبدو أنك لم تتزوج؟ هززت رأسك بالنفي فاتسعت عيناها، يا أخي كأنه ميثاق: البنت التي تحبها تتزوج واحداً، لكنها تتمنى أن تظل أنت تحبها، ورغم حنينك إلا أنك ودعتها ببساطة، أعطتك رقم هاتفها وقبل أن تمضي أضافت:
أريد أن أرى لوحاتك، هل مازالت اللوحة التي رسمتها لي عندك؟
قالتها ثم استدارت لتأخذ قطتها من عربة السوبر ماركت، وضعتها في حضنها ومضت.
وحده عماد يكاد يفقد وظيفته في الملاعب، لا تذاكر من السوق السوداء، لكنه لا يعدم المكافآت، يرمي بلاه على اللاعبين، مازال يحوقل وصار مناسباً أكثر بشعره الأشيب وشاربه الذي ابّيَض.
لم يعد أمامه غير مباريات المنتخب، يرفع اللافتات للجميع من مدير الاستاد حتى الوزير، لا يعدم الهتافات للوزراء رغم أن العلاقات انقطعت بعد غياب هوجان، لكن طالما الحاجة للتصفيق مستعرة لن يعدم دوراً ولا إيراداً.
الذي عاشر الدراويش لن يعدم حيلة، تحول فجأة من كبير المشجعين إلى مصور يحمل كاميرته، يصور ثم يذهب بالصور إلى قلب الوزارة.
ينسى الناس أي شيء، قد يهملونه، لكنهم يسقطون كالأطفال أمام صورة.
خلق عملاً جانبياً، يصنع الأعلام قبل المباريات، يوزع صبيانه القدامى والجدد على النواصي والمفارق في الشوارع، يضع الشارات، ثم حتى يغرف الليلة كلها في كرشه افتتح محلاً لبيع جميع ملابس وشارات الفرق الرياضية.
عبقرينو قد يعود في أية لحظة.
انظر لنفسك كأنك صفحة بيضاء، أنت الآن مولود جديد، الذي يولد في العمر مرتين يعش طويلاً، وسينجح في الحياتين.
فرصتك أمامك، أنت عشت مرتين، مرة في البوليس بجسدك وعقلك، وهذه مرة أخرى للفن خالصة تعيشها بروحك.
لا تخلط الحياتين قسراً، ستمتزجان رغماً عنك، أو ستنفصلان، قد تظهر القديمة في الجديدة بروح أخرى.
انظر لها كأنها عملية تناسخ، كأنك مت مرة وعادت روحك في شخص آخر، يتمتم كأنه يُسمِع نفسه: أنت محظوظ لأنها ستهبط في جسدك أنت مرة ثانية، لن تستولي عليك، لكنها ستبدو من بعيد كأنها أطباق طائرة هابطة من السماء عليك وحدك-كأنك بطوط في مجلة ميكي- أو خيالات تراها من بعيد.
من رأيتهم في حياتك السابقة لن تصادفهم ثانية، لكن لا تنس أن التناسخ قد لا يحدث لك وحدك، قرينك معك، عفريتك معك، سيولد ناجح جديد، ربما لن يكون كبيراً للمرشدين والمسجلين، ربما يكون كبير الجميع، قد لا يأتي بمطواة أو خنجر وليس لاعباً ماهراً في النصب والنشل، ربما تجده في لوحاتك وفي حياتك يركب دبابة أو يحمل مدفعا، أو يضع إصبعاً في عين الجميع.
الدنيا تغيرت، الجريمة تتغير والسلطة أيضاً وعليك أن تتغير تماماً وأنت راضٍ وسعيد.
دعك من كل هذا، صف أنت الآن حساباتك القديمة، لا ترم الجلباب القديم، علقه في خزانة لا تراه إلا صدفة، حتى إذا ما صادفته ستصادفه كأنه لواحد غيرك.
ستبدو مخاوياً كأنك تعمل مع عفاريت، مسكوناً بالجن، ستسمع كما سمعت من قبل أنك ترسم كائنات بملامح خرافية وتصنع عالماً آخر ليس جهنماً ولا جنةً، عالمك وحدك، جنتك وجهنمك بالألوان.
الفنان يخلق مدينة أخرى حتى لو كان يرسم شارعاً واحداً، يطحن التراب والأعمدة ويصنع منهما لوناً، ويصنع منهما فراغاً.
حياتك امتلأت بالألوان، وأذناك بالأصوات، ضع أصواتك داخل اللوحة، كن أول من يرسم الصوت، واخلق لغة جديدة.
كل القبائل تصنع أول ما تصنع لغة جديدة بأصواتها لتمشي بها في الحياة، لغة تضرب في الأرض ولا يستطيع الهواء أن يمنعها فيحملها.
ارسم الفراغ، أنت تحتاج تحديداً للفراغ كي تصفو روحك، صفحة جديدة تعني أنه يجب أن تغلق الصفحات القديمة، مع أنك تعرف أن كل الذين عاشرتهم ورأيتهم لا يحتاجون مصائر، هم كما هم، اختاروا دنيتهم ويعرفون مصيرهم وحدهم، أقدامهم تأخذهم لنهاياتهم دون أن ينظروا لأقدامهم.
ربما كان عليك أن تضع أنت خواتيمهم وتغلقها بالشمع الأحمر، وتنساها، وإن أتت إليك ستأتي كرؤى تصبها في لوحاتك.
نصيحة أخيرة ، نسيت أن أخبرك، لا تكترث لهؤلاء الذين يريدونك أن تظل ضابطاً لتقضي لهم أعمالهم الطيبة والسيئة، لهؤلاء الذين يتمسحون بسلطتك، هم لا يعنيهم أن تكون فناناً وتأكد أنهم يسخرون منك، ويعتبرونك فجنوناً، البوليس كأية مهنة بها موهوبون ضلوا طريقهم، الموهبة تطلع في الحجر كجرح، وأنت جرح بالنسبة لهم، حتى لزملائك، خرجوا على المعاش، لا يجدون ما يفعلونه، عملوا صفحة على الواتس آب، يهنئون بعضهم بأعياد الميلاد، بالحج، ويتجمعون في الجنازات، ويشتكون من معاملة الأصغر منهم، يتحسرون على مجد لن يعود، يسألون عن ميعاد نزول المعاش وعن الأطباء والأدوية، ويكتبون مقاطع في حب الوطن، يطلبون زيادة المعاش لأنهم ضحوا في سبيله، فيهم قساة ومنهم من أدى وظيفته بأمانة، ومنهم من يريد أن يحقق القصص البوليسية التي قرأها في الواقع، أكثرهم صياحاً هؤلاء الذين دخلوا الكلية بمجموع خمسين بالمائة.
هؤلاء حياتهم وراءهم، وأنت حياتك أمامك.
امسك ريشتك، هي سلاحك وريشتك، اصنع حياتك أنت.
اصنع حياتك بيدك وإن لم تستطع فأنت أحببت وحاولت، وعلى الأقل اصنع جنازتك.
اصنعها بالألوان.
28
دعك من البدايات وخلّكَ في النهايات.
تأخر عبقرينو، كل دقيقة تقريباً يتطلع إلى باب المقهى من مقعده، يرى الشارع وقد أصبح معقولاً، السيارات تعبر بانسيابية، يفكر أن يقوم ليرى المعرض التشكيلي على بعد مبنيين من المقهى، قرأ عنه بالأمس، كان عازماً أن يذهب اليوم مبكراً لولا عزاء ابن ناجح، عموماً سيظل مفتوحاً حتى الحادية عشرة، مازال هناك وقت.
أخيراً وصل، يصعد مع عبقرينو في الطريق إلى بيته، الأخير يقود كالعادة، بالضبط كأنهما في مأمورية، لكن لا شيء يشغل بالهما، أخذا قرارهما، صامتان مسترخيان.
يشعر أنه مسطول كأنه شرب خمسين حجراً، يقول لنفسه، يكفي أنك ضغطت على دواسة البنزين أكثر مما ضغطت على الفرامل، كنت فاصلة وسطراً وصفحة وكتابا، ولم تكن أبداً نقطة.
الآن جاء دور النقطة.
كنت علامة استفهام، ولم تكن علامة تعجب إلا في بداياتك، لم تقل نعم أبداً إلا في بداياتك حين قبلت أن تدخل البوليس، لم تقلها سوى مرة واحدة، بعدها صرت تقول لا وألف لا.
الآن جاء وقت اللاء الحقيقية التي تخصك وحدك، تعثرت لكنك لم تسقط، بحت بما في قلبك ولم تخف إلا مرة واحدة، ظُلمتَ لكنك لم تتغير، قلبك كما هو، سألت وحصلت على الإجابات إلا قليلا، وقعت وانكسرت لكنك الآن تسير نحو النهاية التي اخترتها لنفسك.
كان النشيد القومي للبوليس: لا تفتح سوستة بنطلونك، لا تفتح يدك، لا تفتح فمك، لكنك فتحت سوستة البنطلون قليلاً، فتحت فمك ودفعت الثمن، لكنك لم تفتح يدك لأحد، عشت نزيها تصرف على من حولك، تشتري العشاء لك ولكل المأمورية، قلبك دائماً كان للناس، الآن جاء دور أن تفتح فمك عن آخره.
أنا شارب سيجارة بني،
حاسس إن دماغي بتاكلني،
قاعد في الحارة بسقّط، والغسيل عمال ينقط،
والشارع اللي ورايا قدامي، والكلام على طرف لساني.
الناس تتذكر البدايات والنهايات.
تتذكر الآن في نهاية سنوات الكلية، قبل التخرج بأسابيع، كان الطلبة الذين أصبحوا ضباطاً يرسمون على السبورة في المدرج ضابطاً على كتفه نجمة، نجمة التخرج، يشيرون بسهم نحوها، كتبوا تحتها " دي بس يا رب واحنا أي خدمة".
كانت الجملة المعلقة في كل مكان والتي تغيظك: إما إفلات وإما انضباط ولا وسط بينهما.
كنت تشعر بالحصار من "جملة"، الآن يمكنك أن تنفلت حتى آخر الطرف، تلعب أمام لوحاتك، بجِد تختاره ولا يفرض عليك.
الآن يجب أن تنسى البدايات. النهاية مشرعة أمامك، كلها ألوان لوحات ومعارض.
انظر إلى نفسك في المرآة، ستجد واحداً آخر، إن وجدت اعوجاجاً فهو في المرآة وليس فيك، حتى وإن كان فالاعوجاج طبيعي جداً بل مناسب لحالتك، لم تكن أبداً خطاً مستقيماً ولا صورة مهزوزة، الاهتزاز كان بفعل الماء، حين يسكن سترى صورتك واضحة.
عليك أن تعترف أنك كرهت البوليس لكنك أحببت المباحث، قربتك من الناس، من الواقع الذي بدا أكثر جنوناً من خيالك، كنت تنام قلقاً حتى تصل لنتيجة، ثم تنام راضياً فيما بعد، أمسكت بالقاتل وإن أوجعك القتيل.
هذه هي الحياة إذاً.
المباحث كانت بالنسبة لك غواية وكيف، ومن وقع أسير الكيف لا بد أن يأخذ جرعته.
ضابط المباحث الحقيقي مدمن كالمدمنين تماماً، حل القضايا بالنسبة له أفيونة.
الفارق أنه في لحظة الاعتزال لا يشعر بدوخة ولا يهرش جسده، وقُفّتك مملوءة أسراراً تكفي بقية العمر.
تحمد ربك لأن عبقرينو اعتزل عن قناعة، ولم يعرض عليك تكوين شركة خاصة للأمن والحراسة.
كان يعمل بقلب هوايته لا محترفاً، أراد أن يكون ضابطاً ونجح ولو بشكل آخر، وناجح كان يريد أن يكون ضابطاً، وأنت تريد الطيران، كل واحد يريد أن يأخذ مقعد الآخر.
يخرب بيتك يا كيف ويخرب بيت معرفتك.
صحيح دمك خفيف بس يا ريتني ما عرفتك،
في الأول كنت تمام بتدوس على الأحزان
دلوقتي أنا هربان من نفسي والأيام.
يصعد مع عبقرينو إلى شقته، يغيب في الداخل قليلاً ثم يعود، يعرف الحائط، ينزع منه لوحة النعل، القضية الأولى التي شاركه فيها عبقرينو، يقدمها له.
يقدم له الأجندة التي كان يدون فيها ملاحظاته أثناء العمل، عبقرينو أولى بها، هي دنياه التي أحبها واستمتع بها، أعطاه فردة الشبشب من قبل:
خذها، واحدة عندك وواحدة عندي.
يتعانقان، يدعوه للبار، أول مرة سيفعلها معه.
سأحضر غداً، الليلة مشغول، لديَ مشوار خفيف، وقد ألحق بك متأخراً.
سيذهب حتى ولو لم يشرب، يستمع للغناء، الغناء يهيج نقطة الرسم في الدماغ، وقد يرى رقصاً وبشراً آخرين، ثم يعود منتشياً لحامل لوحاته، للوحة بيضاء، لن يضيره أن يقول له أي واحد ساعتها:
أنت متهم بإقامة علاقة.
29
في سيارتي بميدان "طلعت حرب"، الإشارة حمراء، و"ناجح" إشارته تضئ وتُطفئ في زاوية من رأسي، أُغلِق عينيَّ، فأراه في السرادق، وحيداً، حزيناً، رغم أن الجميع حوله، الجميع إلا أنا، أرى نظراتِه تتساءلُ عني، كلٌ منا رفيق رحلة خاصة داخل حياة الآخر، أعرف أنه سيفكر بأن شيئاً قوياً مَنَعني عن الحضور، أو ربما يقول لنفسه إنني سآتي إليه في وقت متأخر، أراه الآن من داخل سيارتي، وهو هناك في سرادقه، يُمَرِّر عينيه على جميع الموجودين، وأسمعه يقول لنفسه، وربما لي أيضًا: "كل هؤلاء قتلوا ابني".
وعَدْتُ عبقرينو بسهرة للصباح، عندي مشوار صغير وسألحق به، السيارة تتحرك ببطء، تقاطعات طرق، زحام طبيعي في هذه المنطقة سرعان ما ينفك، اتخذتُ الجانب الأيمن لسهولة المرور منه، المارة يتدفقون من مكتبة مدبولي ومن محل الورد المجاور ومحل التحف الذي يليه، ليلة نجف كما يقول العامة، تقع عيناي في عيني فتاة تحمل باقة ورد، أبتسم من قلبي، الفتاة ترد الابتسامة كأنها تعرفني.
أجمل ما في قصص الحب تلك اللحظات الأولى غير المُتعمَّدَة، العفوية دون حساب، والتي قد لا تصادف صاحبتها ولا تصادفك، نسمة طرية في جو الحياة الحار، يفكر أن يزيد الجرعة والقلب صياد، والقلب عشّاق.
أقوم بإنزال زجاج الباب الأيمن وأقول بصوت عالٍ أتمنى أن تسمعه الفتاة: الورد للورد.
عيناي تتابعانها بحنان، تدخل إلى اليمين، أول عطفة، ألحق بها، أراها في الطريق إلى الأتيليه، معرض الفنون التشكيلية، أتابعها، كأنها لوحة خرجت من المعرض لتدلني عليه، وعلى نفسها قبل أي شيء.
يمرج يديه بفرحة، المستقبل لوح بوردة، اللفتات السحرية تعيدنا أطفالاً، يعرفه جيداً، يتملص بسيارته سريعاً، يترك مفاتيح سيارته لسايس الجراج المواجه للأتيليه، يدخل إلى المعرض، يلقي نظرة عامة، لا يتفرج على اللوحات بل يبحث عن اللوحة التي ابتسمت له في الشارع."كأني أعرفك"، قلتُ لها.
قالت دون تردد: "حين رأيتك أخبرني حدسي أنك قادم للمعرض، لا تسألني كيف ولا لماذا؟ منظرك فنان، ربما شعرك الطويل المنكوش بلطف، تضحك: لم أقصد أنه بشع لكنه يكاد يطير مثل شعور الفنانين".
وتضحك: "حتى ملابسك، الصديري الملون أعلى سويت شيرت، ماركة مسجلة".
أضحك وأقول: "إنها علامة، لن أفعلها ثانية حتى لا يمسكوني في المباحث".
"ربما كنت تسكن جنبنا من قبل".
"سأسكن بجانبكم من الآن".
نضحك، الدنيا حلوة، وسنها الأمامية المشطوفة من أسفل كأنها توسع فتحة للبهجة.
ندور معاً، نتفرج على اللوحات، تسبقني، أتوقف للفرجة مع أنى أريد أن ألحق بها.
ابتسمَتْ، قالت لي: "دعنا نذهب للقهوة التي تقع في الممر الموازي، قهوة فنانين وجرابيع من النوع الفاخر، هل تعرفها؟ والحساب عندي".
قلتُ وعيناي ترقصان: "يا بختي، دقيقتان فقط أمر ثانية على لوحة أعجبتني، الليلة الأخيرة في المعرض وسينقلون اللوحات في الصباح، هناك معرض جديد مساء غد".
غاب، اختبأ بعيداً عن عينيها، كأنه استكثر الفرحة على نفسه، اختبأ حتى حان وقت إغلاق المعرض، تعبت الفتاة من النظر، كأنها رأت جنياً وسيماً واختفى: "حركات فنانين"، ظلت واقفة حتى أوجعتها قدماها، في الأخير انصرفت.
كما قابَلَتْه صدفة اختفى صدفة.
حضر الفنانون في الصباح، لملموا لوحاتهم وانصرفوا.
بقيت لوحة واحدة على الحائط العريض، لم يتسلمها صاحبها، لا بأس، سيعرفونه من التوقيع أسفلها أو في جانبها.
فتشوا، دققوا النظر..
كانت لوحة بدون توقيع.
30
انتبه معي أيها القارئ، هذا الضابط ربما كان يضحك علينا، أو أن خياله هو الذي رسم هذه الحكاية؟
خذ مني الكلام الصحيح، أنا الراوي، أنا من يعرف، وإذا كنتُ قد تركت هذا الضابط يتكلم طويلاً، فالسبب أنني أردت أن أعرف خبيئته.
صدقني، وأنت حر طبعاً، ربما لم يحدث كل ما سبق، وربما حدث.
تظن الآن بالطبع أن الرحلة انتهت!
لا، لم تنته، لا تصدق الضابط على طول الخط، ضابط طري، هو حائر، مشوش بعض الشيء، وعذره معه حسب ظني، صحيح ضحك علينا، وربما كان يتوهم كل ما سبق، سوف تتأكد من ذلك في نهاية المشهد.. أو لا تتأكد.
وصل إلى السرادق، ركن سيارته، مشى بقدمَيْن متثاقلتَيْن، حام حوله يستطلع المشهد دون أن يقترب من الباب، ولولا أن اثنين من الحراسة رأياه، وراقبا تحركاته ما عاد إلى السرادق، ورغم أنه اتجه إلى الباب مباشرة، فقد ظلّا يلاحقانه وشعر بأعينهما مغروزة في ظهره.
أخيراً دخل بقدمه اليمنى، لم تعد هناك ضرورة للهواجس، ولا لتوقع أي شيء، فليحدث ما يحدث.
المشهد في عز فورته، رغم اقتراب منتصف الليل، هؤلاء هم ملوك الليل، لا يحسبون حساباً للوقت إلا في جرائمهم.
الصورة كاملة ولا تذهب بعيداً، عضلات أم خنوفه بارزة، ذراعاها مشمرتان كالعادة، الروسي أخذته عفوة وهذا أفضل، والمزيف مضطجع كله برقبة مشدودة تكاد عروقها تنفجر.
يأكلون ويشربون كأنهم على مائدة معاوية، كأنهم في استراحة بين حربين.
يدخل، يُقلِّب عينيه، لا أحد انتبه له، يتخطى كرسياً فارغاً، لا يجلس، يتحسس ظهره، ربما ينقضُّون عليه من الخلف، لكن لا أحد يتابعه، ربما شكله مختلف بعض الشيء، جاكيت رمادي على قميص وبنطلون جينز، دون ربطة عنق، يفرغ أصابعه في شعره مرات كأنه يطرد القلق.
في منتصف السرادق يتقدم منه أحد أعوان ناجح، فيعتقد أنه سيأخذه إلى مقعد شاغر، لكنه يتخطاه في الطريق إلى ناجح، ناجح الذي بدا مضطجعاً أكثر، وهادئاً عن بداية الليلة، جالس على الكرسي الكبير المميز برأس أسد كأنه شيخ قبيلة من قبائل أفريقيا، أو في فيلم وثائقي عن الغرائب والعجائب، لا ينقصه سوى أن يقف وراءه اثنان بمقشات من الريش يهشان عنه الحزن والذباب، يجددان له الهواء رغم أنه لا يعرف غير هذا الهواء الأزرق.
يقف ناجح، فتتوقف العقارب وتتحرك التماسيح، يقفز من يقفز، لكنه بإشارة واحدة أعادهم لأماكنهم وإن ظلت عيونهم تحاوطه، ينزل عن كرسيه، يتقدم خطوة للضيف، يقف كعمود، كأن الموت والميت لأحد غيره، والضابط يقترب.
حين صار على بعد خطوتين فتح ناجح ذراعيه واحتضنه ثم ابتعد بسرعة.
.. البقية في حياتك.
مقدر ومكتوب.
ورغم أن ناجح نظر حوله عسى أن يجد لفجنون كرسياً فارغاً، أو يترك أحد مقعده، إلا أن أحداً لم يتحرك، الذين يجلسون في صفه هم عتاولة المسجلين وكبار تجار الصنف، ولو أزيح واحد منهم عن مقعده لصارت عيبة وحكاية.
وهو كأنه في لحظة سحرية لا تأتي إلا للموهوبين والملاعين، يدرك جيداً أن هؤلاء هم الباقون وغيرهم إلى زوال، يدرك أنه زعيم لأنه زعيم لهؤلاء، ولو كان الضابط كبيراً في زمن ما فالزمن فات، وناجح هو الكبير الآن، صحيح أنه محل اختبار الآن لكن اللحظة لحظته، واللحظة القادمة ملكه هو، هو وحده، يرمق الضابط بعيين ثابتتين، ضابط على المعاش، كل ما يمكن أن يفعله أن يستعيد ماضيه في صمت، على وجهه حسرة، مثل امرأة كانت تعيسة مع زوجها لكنها عاشت من أجل أطفالها.
يذهب فجنون إلى كرسي شاغر في صف ثالث، ويعود ناجح إلى مقعده، يعود صلباً مثل البارحة، على وجهه علامات تحدٍ وارتياح، جاءته الحكومة بثوب باهت، وهو كطاووس في مقعده، نعم يجب أن يكون هكذا ولو لم يكن هذا هو المقام، يجب أن يخرج كل من عزّاه وهو
على يقين أن الموت كان دور انفلونزا ومَرّ، مَنْ مات مات، والحياة تسير، يجب أن تمضي على الوتيرة ذاتها، مات الفرع لكن الشجرة قوية بخير، والجذع مازال ينتصب حياة وقوة، مازال شامخاً.
وفجنون وحيد في مقعده، لم يتعرف عليه أحد، لم ينظر واحد في وجهه كأنه رآه من قبل، حتى الذين يعرفونه عز المعرفة كأنهم لم يصادفوه يوماً، رغم أنه يعرف ربع السرادق بالاسم.
هؤلاء أناس لا ينظرون خلفهم ولا يعنيهم ماضيهم إلا إذا كان يصب في غدهم، حتى ناجح، قابله بالشكر لكنه لم يكن حميمياً، كفُّ عزاء وجملتين مجاملة والسلام، كأنه شجرة بانجو تسقط منها أوراقها فتطرح أوراقاً جديدة أشد بأساً وأقوى رائحة.
لم يتكلم معه أحد، اللهم إلا العابرون بين الصفوف بجمل الشكر المعتادة، غير الموجهة له بالتحديد، كأنه دخل عزاءً بالخطأ واضطر للجلوس خوفاً من الإحراج.
استمع للربع الأخير ثم نهض، العتاولة حول ناجح يربتون عليه بصوت خفيض، صوته هو الأعلى.
يأخذ دوره، بالكاد يصل إليه، يمد يداً من بعيد:
.. شد حيلك.
شكر الله سعيك.
يودعه كأنه يودع هذا العالم برمته، عالم لا يموت ولو مات منه واحد كبير.
في اتجاه باب السرادق يمضي، وحيداً، يسرع نحو سيارته بقدمين غير مترددتين، كأنه يخشى أن يقول له أحد:
أنت متهم بإقامة علاقة.
بقيت جملة لم أسمعها من الضابط جيداً، ربما كان يهمس لنفسه ويقول: إلى أين أنا ذاهب؟
ربما يعرف الآن جيداً إلى أين هو ذاهب.
المقاهي التي كتبت فيها الرواية:
مقهى سلطنة بالرحاب: مقهى جميل لولا أن أسعاره مرتفعة جداً، لكن ما يخفف الألم أن المنطقة مرتفعة عن باقي المناطق مما يجعل الكتابة في الصيف ممكنة، صاحبها الحاج خيري ابن بلد بمعنى الكلمة، ويسقط عني نصف أسعار طلبات أصدقائي خاصة إذا كانوا من جنسية غير مصرية.
مقهى سلطنة2 بالتجمع: المعادل الموضوعي للمقهى الأولى.. تحمي من برد القاهرة وتجعل مناخ الكتابة حاراً.
بالمناسبة: الحاج هشام أبو العمران هو شريك الحاج خيري في المقهى الموجود بالرحاب، ولا أعلم حتى الآن من هو شريك الحاج خيري في مقهى سلطنة2.
مقهى الفردوس- الإسكندرية:
شيشة سيئة وشاي طيب.
مقهى عجيبة، الإسكندرية:
لا نجلس في الداخل إلا في حالة البرد الشديد، مشروبات فاخرة، والشيخ العفاسي يرتل طوال اليوم كأنه قدر، مما دفعني لأن أترك المراجعة، وأقوم بتشغيل حفلات الشيخ مصطفى إسماعيل، والتي اكتشفوا معها سماءً أخرى لم يعرفوها، كانوا ينتظرونني كل صباح لأختار وأشرح وأعلق وأصيح داخل المقهى: يا بن الإيه، تأخرت المراجعة بعض الشيء لكننا حظينا بالكرسي الجلد والنفحات الطيبة.
مقهى الرحباية.
مقهى المغربي:
مازالت مكانتنا به عالية رغم أننا لا نغشاه إلا قليلاً، يقولون إنني أحد المؤسسين العظام للمقهى، ولست في حاجة بالطبع لأذكر أنني أحظى بمعاملة تفضيلية.
مقهى أندلسية:
المقهى الرئيسي للمراجعة، لم يعد أحد يقول: جاء الدكتور وحيد. تغير الأمر: هات شاي الدكتور… الحذف ضروري في اللغة والحياة.
عناوين الرواية:
يمكن لك عزيزي القارئ إذا أعجبتك الرواية أن تطلب نسخة بالعنوان الذي أحببته، وذلك بعد مرور عام على صدور الطبعة الأولى:
جمال طبيعي.
عشاء خفيف للأم تريزا.
نظرية الشبورة.
أرانب السباق.
فتحة دخول وخروج.
جرح نافذ.
قانون محاميمو" مات محاميمو أثناء كتابة الرواية، الأرجح قتله واحد من المسجلين، والحكاية ما زالت غامضة حتى الآن"
المعدن والمغناطيس.
صخرة ليلى مراد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.