إعادة كارت البنزين.. فخري الفقي يكشف عن الآلية الجديدة لدعم المحروقات    "12 قتيلا من الفصائل الموالية لإيران".. آخر إحداثيات هجوم دير الزور    عاجل| صهر «قاسم سليماني» في دائرة الضوء هاشم صفي الدين ومستقبل حزب الله بعد نصر الله (التفاصيل الكاملة)    بايدن يتلقى إفادة بشأن الشرق الأوسط ويراجع وضع القوات الأمريكية بالمنطقة    بعد اغتيال نصر الله.. كيف تكون تحركات يحيى السنوار في غزة؟    موعد مباراة ريال مدريد ضد أتلتيكو مدريد في الدوري الإسباني والقنوات الناقلة    لافروف يرفض الدعوات المنادية بوضع بداية جديدة للعلاقات الدولية    التصعيد مستمر.. غارة إسرائيلية على الشويفات قرب الضاحية الجنوبية لبيروت    الصحة اللبنانية: استشهاد 33 شخصًا وإصابة 195 بالغارات الإسرائيلية    وزير الخارجية: مصر حريصة على تعزيز التعاون مع الأمم المتحدة    عمرو أديب يشكك بركلة جزاء الأهلي ويقارنها بهدف منسي: الجول الحلال أهو    مدحت العدل: جوميز يظهر دائمًا في المباريات الكبيرة وتفوق على كولر    سحر مؤمن زكريا يصل إلي النائب العام.. القصة الكاملة من «تُرب البساتين» للأزهر    أول تعليق من محمد عواد على احتفالات رامي ربيعة وعمر كمال (فيديو)    حار نهارا.. حالة الطقس المتوقعة اليوم الأحد    "حط التليفون بالحمام".. ضبط عامل في إحدى الكافيهات بطنطا لتصويره السيدات    حكاية أخر الليل.. ماذا جرى مع "عبده الصعيدي" بعد عقيقة ابنته في كعابيش؟    صلح شيرين عبد الوهاب وشقيقها محمد.. والأخير يرد: انتى تاج راسى    بعد انخفاض عيار 21 بالمصنعية.. أسعار الذهب والسبائك اليوم بالصاغة (بداية التعاملات)    مصر توجه تحذيرا شديد اللهجة لإثيوبيا بسبب سد النهضة    نجم الزمالك السابق: هذا الشخص السبب في خسارة الأهلي بالسوبر    «غرور واستهتار».. تعليق ناري من نجم الأهلي السابق على الهزيمة أمام الزمالك    الصحة اللبنانية: سقوط 1030 شهيدًا و6358 إصابة في العدوان الإسرائيلي منذ 19 سبتمبر    راعي أبرشية صيدا للموارنة يطمئن على رعيته    نشرة التوك شو| أصداء اغتيال حسن نصر الله.. وعودة العمل بقانون أحكام البناء لعام 2008    الأوراق المطلوبة لتغيير محل الإقامة في بطاقة الرقم القومي.. احذر 5 غرامات في التأخير    انخفاض جماعي.. سعر الدولار الرسمي أمام الجنيه المصري اليوم الأحد 29 سبتمبر 2024    ورود وهتافات لزيزو وعمر جابر ومنسي فى استقبال لاعبى الزمالك بالمطار بعد حسم السوبر الأفريقي    القوى العاملة بالنواب: يوجد 700 حكم يخص ملف قانون الإيجار القديم    حدث في منتصف الليل| السيسي يؤكد دعم مصر الكامل للبنان.. والإسكان تبدأ حجز هذه الشقق ب 6 أكتوبر    أسعار الذهب اليوم في مصر بنهاية التعاملات    ضبط شاب لاتهامه بتصوير الفتيات داخل حمام كافيه بطنطا    التحويلات المرورية.. بيان مهم من الجيزة بشأن غلق الطريق الدائري    أسعار السيارات هل ستنخفض بالفترة المقبلة..الشعبة تعلن المفاجأة    وزير الخارجية يتفقد القطع الأثرية المصرية المستردة في القنصلية العامة بنيويورك    برج السرطان.. حظك اليوم الأحد 29 سبتمبر 2024: عبر عن مشاعرك بصدق    المنيا تحتفل باليوم العالمى للسياحة على كورنيش النيل.. صور    يوسف الشريف يبدأ تصوير فيلم ديربى الموت من داخل مباراة كأس السوبر.. صورة    «التنمية المحلية»: انطلاق الأسبوع التاسع من الخطة التدريبية الجديدة    "100 يوم صحة" تقدم أكثر من 91 مليون خدمة طبية خلال 58 يومًا    اتحاد العمال المصريين بإيطاليا يوقع اتفاقية مع الكونفدرالية الإيطالية لتأهيل الشباب المصري    تعرف على سعر السمك والكابوريا بالأسواق اليوم الأحد 29 سبتمبر 2027    «شمال سيناء الأزهرية» تدعو طلابها للمشاركة في مبادرة «تحدي علوم المستقبل» لتعزيز الابتكار التكنولوجي    وزير التعليم العالى يتابع أول يوم دراسي بالجامعات    «الداخلية» تطلق وحدات متنقلة لاستخراج جوازات السفر وشهادات التحركات    تعرف على برجك اليوم 2024/9/29.. تعرف على برجك اليوم 2024/9/29.. «الحمل»: لديك استعداد لسماع الرأى الآخر.. و«الدلو»: لا تركز في سلبيات الأمور المالية    «احترم نفسك أنت في حضرة نادي العظماء».. تعليق ناري من عمرو أديب بعد فوز الزمالك على الأهلي (فيديو)    المخرج هادي الباجوري: كثيرون في المجتمع لا يحبون فكرة المرأة القوية    سيدة فى دعوى خلع: «غشاش وفقد معايير الاحترام والتقاليد التى تربينا عليها»    ضبط 27 عنصرًا إجراميًا بحوزتهم مخدرات ب12 مليون جنيه    باحثة تحذر من تناول أدوية التنحيف    خبير يكشف عن السبب الحقيقي لانتشار تطبيقات المراهنات    كيف تصلي المرأة في الأماكن العامَّة؟.. 6 ضوابط شرعية يجب أن تعرفها    أحمد عمر هاشم: الأزهر حمل لواء الوسطية في مواجهة أصحاب المخالفات    وكيل صحة الإسماعيلية تتفقد القافلة الطبية الأولى لقرية النصر    دعاء لأهل لبنان.. «اللهم إنا نستودعك رجالها ونساءها وشبابها»    رئيس هيئة الدواء يكشف سر طوابير المواطنين أمام صيدليات الإسعاف    في اليوم العالمي للمُسنِّين.. الإفتاء: الإسلام وضعهم في مكانة خاصة وحثَّ على رعايتهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جنازة جديدة لعماد حمدي..وحيد الطويلة
نشر في الأهالي يوم 02 - 10 - 2021


رواية
وحيد الطويلة
الجزء السادس
21
أنت متهم بإقامة علاقة…
بل أنت متهم بإقامة أكثر من علاقة.
يمد ساقاً على آخرها، يسترخي، يفرد كل ذكرياته ليشاهدها دفعة واحدة.
تمر حياته كلها في شريط، شريط اللحظة، كأن روحه على وشك أن تغادره، فيرى حياته كلها معروضة أمامه كما يقولون.
تتوالى الصور، تتدافع واحدة في ذيل أخرى.
لا تريحه سوى صورة أمه، تلوح كخلفية أو في زاوية، لا يتبقى على الشاشة سوى الذكريات السيئة، تنتصب وتزيح غيرها، في وسطها ويمينها وشمالها، أعلاها وأسفلها صورة ناجح، يملأ الشاشة، يكاد شاربه يتدلى خارجها.
عليك أن تعترف لنفسك الآن أنه لم يكن له أدنى ذنب في خروجه على المعاش، حتى ولو أخفى عنك بعض ألاعيبه، حتى ولو لم يكن على الصراط المستقيم.
يا رجل في أي كتاب أو حتى بُلْغة قديمة يمكن أن تجد مرشداً تقياً!
تقدم ليخدمك حتى لو كان يخدم نفسه، وأنت تقدمت لتخدم الحكومة حتى لو كنت تمارس عملك، وهي من أعطتك الخازوق المتين، دسته لك في وضح النهار وباعتك، أمسكتك متلبساً بالبضاعة رغم أنها صاحبة البضاعة، على الأقل كان ناجح يعطيك الخازوق من خلف ظهرك، بل من خلف ظهره هو، مرعوباً أن تعرف، كان يفعل فعلته ويداري وجهك عنك وعن الشياطين ليمرق بها.
اسمع، الحكومة كان لها دائماً مزرعة مثل مزرعة السمك، ترمي فيه الزرّيعة وتصطاد عشوائياً ما تصطاد، لكنها الآن مثل المزارعين الجدد، تربي سمكاً خنثى وحيد الجنس، يؤكل فقط ولا ينجب.
فقعتك الحكومة الخابور رغم أنك ابنها حبيبها، ساعتها فقط اكتشفْتَ أنها عقيمة لا تنجب وحتى إن أنجبت فلا تعترف بغير أولاد الحرام، ليست حبيبة أحد ولا حتى حبيبة نفسها، وسكينها حاضرة وإن أخفتها، وراء ظهرها أو ظهرك.
يمُدُّ ساقه الأخرى كي يستطيع مواجهة الصور المتدافعة، وليعُد الخوازيق على مهل.
لا تلم ناجح إذاً، الكل يخبئ ولا تعرف له مخبأً، البنت التي أحببتها وأردت أن تعطيها عينيك خبأت أيضاً، حين تركتك في منطقة رمادية تضيء مرة وتغبش مرات، تفتح نافذة وتغلق باباً، تغني مرة ويصير وجهها كالجبل مرات، عقدت جبينها وهربت وأخفت عنك هربها.
أخفى عنك ناجح ما أخفى مع أنه كان بمقام حبيبتك ولم تستطع أن تتقبل الخسارة فيه.
أنت أيضاً خبأت حكايتك عن الجميع، خبأت ما لا يخطر ببال، حتى عن نفسك، لم تستطع أيضأ تقبل الخسارة في ثريا ولم تحك حكايتها لأحد.
في الحياة هناك ما نخبئه، ما يجب أن نخبئه، لا أحد يكشف المستور كله، مثل طائرة نفاثة تترك وراءها دخاناً أكثر بكثير من طول رحلتها.
احكها، تخلص منها، لن يلومك الآن أحد، قل لنفسك بشجاعة ثم للآخرين حكاية ثريا الخادمة اللطيفة التي سرقتك، عرّتك وتركتك في قلب الشارع بالسروال الداخلي فقط.
لم تستطع أن تنبس أو تفتح فمك حتى لعبقرينو، عضضت لسانك ولم تستطع أن تواجه حتى نفسك، أن تشطب من حياتك هذا العار.
لم يحدث هذا لضابط من قبلك.
لا، بل حدث مرة واحدة، رئيس مباحث في منطقة مهمة تحت الأضواء بها سفارات وسفراء، ملء السمع والبصر، لا تفلت منه قضية، لا يجلس على مكتبه من كثرة مريديه، يظل واقفاً دائماً يسلم أو يرحب، كأنه مرشح دائم للبرلمان، كأنه سيتزوج بنت الحكومة، يسكن في الطابق السفلي من فيلّته، ويؤجر الأعلى لوسيم أنيق شكله ابن ناس، تحرى عنه قبل أن يوافق، أخذ بطاقته وضاهى بصماته.
في ذلك الوقت، كان مشغولاً بلص بارع، يسرق الشقق في منطقته، لا يكسر أبواباً، لا يترك أثراً واحداً، يقوم بالجريمة الكاملة، لا يستخدم مفتاحاً مصطنعاً، ابتكر طريقة بنت حرام، وان مان شو، يحمل في جيب بذلته الأنيقة كالوناً آخر للباب، يدفعه ببراعة مكان الكالون القديم ليسقط الأخير داخل الشقة، بمنتهى الحنان يفتح الباب بمفتاحه الجديد، يسرق على مهل دون بصمات، يسرق بأناقة ولا ينسى عند خروجه أن يعيد- بمنتهى الحنان أيضاً- الكالون القديم لمكانه، لا يعوقه حارس ولا بواب.
داخ الضباط، راقبوا التماثيل، رفعوا البصمات ولا من مجيب، كادوا يعتزلون، يسخر منهم، سرق شقة أحد الكبار بنعومة يُحسد عليها وترك له بطاقة شكر على وفرة الغنيمة.
هذا الوسيم الأنيق الذي يسكن في الطابق العلوي لفيلا رئيس المباحث هو من نهب كل هذه الشقق.
لطيف ومجامل، يفعل فعلته، يمر بأناقة وأدب على رئيس المباحث في مكتبه يشرب القهوة أو الشاي، متلصصاً على الجو العام، يقول بثقة: إن هذا اللص مهما بلغ ذكاؤه سيقع، ثم يضحك في سره من استنتاجات معاون المباحث.
مرة وحيدة في غمرة نشوته الفاحشة نسي الكالون الجديد في مكانه وأقفل الباب خلفه.
وكانت فضيحة.
لو كان الضابط من فصيلة الذئاب التي تخجل من نفسها حين يضحك عليها غريم، يتركها أمام خيال أو ناطور ويهرب، لطقّت بطنه في الحال حسرة وكسوفاً.
لم يتحمل الضابط أن يبيت اللص في عشه، أن يخزن المسروقات في بيته، أن يسرق ثم يشرب القهوة في مكتبه، لص ينام في حضنه بل للأسف ينام أعلاه وربما يمد يده من نافذته يتحسس مؤخرته ويعرف لون سرواله.
ورغم أنه نجا من أزمة قلبية لكنه عرف أنه سيعيش بلا وجه، بأنف أسفل فمه أو عند قدميه، فأخذها من قصيرها واستقال، استقال وباع الفيلّا.
كانت فضيحة وجرسة، لكنك أخفيت فضيحتك.
يحرك ساقاً بقلق واضح، مثل عصب ساخن حائر في ساق لا يعرف أين مكانه، لكن يحس بالوجع دائماً، انتبه أنه في المقهى فاستعاد هدوءه وطلب عناباً.
لم يوافق أن يُحضِر له ناجح أو حتى واحد من زملائه خادمة، يعيش وحيداً لا يقبل أن ينظف له عسكري شقته ولا أن يسخّر له أمناء المباحث من ينظف ويتلصص، يتحرك في مسافة محدودة، غرفته والحمام، بالكاد يسمح للبواب أن يحضر واحداً ينظفها أو واحدة في حضورهما معاً، كان حريصاً أن يبعد أياً كان عن مخدعه قبل أن يحضر عبقرينو خادمة تنظف اللوحات والكتب وتطبخ له حتى ولو لم يأكل.
جاءت خجلى بشبح ابتسامة أو بابتسامة متأخرة، راحت تقفز للأمام مع الأيام.
نظيفة، تبرق، بجمال خافت مختف ربما بسبب الشقاء ولقمة العيش، صبوحة بعينين غائرتين تستجديان عطفاً زادها جمالاً.
غريبة، تنتظره بالساعات حتى ولو لم يحضر، حتى ولو حثها مراراً على الانصراف.
لا تخرج قبل أن يأكل، تغطيه حين يندلق من التعب على أقرب كنبة، تنزع له الحذاء والجورب.
شَمَّتْ أن روحه متعلقة بأمه، عرفت أنها غائبة حاضرة ومقعدها فارغ، راحت تتسلل ببطء، تداوي له عين السمكة بعد أن سحبت ساقه ووضعتها على فخذها.
لم تسأله يوماً أجرها مهما تأخر أو نسي، لم تطلب خدمة لنفسها، تنط كل صباح قبل أن يخرج، يفتح لها الباب ويتركها ذاهباً للعمل، وحين بات ثلاث ليالٍ خارج البيت عسكرت على السلالم حتى هبط الليل، أعطاها مفتاحاً حتى لا توقظه، كانت من قبل تنتظره خارج الباب حتى يهم بالخروج.
كل شيء في مكانه، لا فتلة خارج إبرتها.
لم يحتفظ بصورة بطاقتها، سيأتي بها- بأي واحد- ولو كانت تختبئ وراء الشمس، كان مطمئناً أنها اختيار عبقرينو، لم يفكر في اختبارها رغم أن النساء كلهن يفعلن ذلك، يفتشن حقائب الخادمات وأحياناً يفتشهن ذاتياً قبل انصرافهن.
تتسرب إلى حياته نقطة نقطة، تضع قدميه في الماء والملح، تصر أن تدعكهما، تمنّع في البداية لكنه في النهاية استجاب.
تقشر له عين السمكة الجديدة، تسحب ساقه لفخذها، تكْحت وتدهن على مهل، الملابس في مكانها، الجوارب لم تعد تضيع، وحين يتأنق تقول: عريس بسم الله ما شاء الله، وحين تعثر على شعرة نسائية بين ثنايا المخدات، بابتسامة خاطفة تقول: حاسب على نفسك من الصلع، الشعر الغريب يضيع الرزق.
تودِّعه عند الباب.
خبأ حكايتها عن الجميع، خبأ أن ثلاثة هواتف ضاعت، تخيل أنها سقطت منه أثناء المطاردات الكثيرة، ربما نسيها في مقهى أو معرض والتقطها من التقطها، كان يخشى أن يفتح أحدهم هواتفه ليعرف أرقام الضباط، لذا كان يكتب اسم العائلة فقط أو يضع صفة ما.
اختفت الهواتف، ورغم أن عبقرينو جلس لها بالمرصاد، لكن لا أحد استخدم واحداً منها ليلقط مكانها بمجرد فتحها، لذا هدأت الحكاية ونامت:
فنان طبعاً، تنسى اسمك حين ترسم.
كان يعرف الخادمات جيداً، مرت عليه عشرات القضايا، يسرقن من يعملن عنده حتى لو عملن خمس سنوات، حتى لو صرن جزءًا من الأسرة، كل الضباط مقتنعون أن الخادمات خائنات، كان يقول دائماً: إلا واحدة.
كان يقول بحس الفنان لا حاسة الضابط.
لم يستطع أن يعطها من ملابس أمه التي يحتفظ بها، لكنه كان يعوّضها، يمنحها ما تشتري به، يراها صدفة تجلس على الأرض أمام خزانة المرحومة، تخرج ما بها، تغسلها، تعطيها للكواء وتعيدها مكانها من فترة لأخرى حتى لا تأكلها رائحة الغياب، كأن أمه ستدق الباب وترتاح عنده قليلاً، ثم ترتدي هذه الملابس وتخرج بها في المساء.
اصطادته من بوابة أمه، ذكرى الحاجة، ملابس الحاجة، عطرها وجمالها.
.. الملابس أيضاً تشعر بالغياب يا سعادة الباشا، تشتاق أصحابها، تشتاق رائحتهم وعرقهم.
وشبح أم ثانية يتحرك في البيت، أم صغيرة.
تدخل عليه بخفر حين يهم بالنوم ظهراً أو عصراً إن عاد، تُدخل رأسها فقط، بعد عدة مرات دخلت برأسها وصدرها، ثم دخلت كلها، تسأله بصوت خفيض، يسألها بصوت غائب من فرط التعب، تغطيه وتخرج على أطراف أصابعها، وحين أوجعه ظهره ذات مرة وحار بين الأدوية تقدمت بجسارة، تقدمت كشيطان أنثى، مسدت له عموده الفقري فقرة تلو فقرة، ثم- ياللهول- مست مؤخرته، مؤخرة ضابط المباحث.
قلت لك دخلت كلها.
كانت يدها دافئة طرية تضغط وتدور، تضغط ليخرج الألم، ورغم أن ارتفع بجسده قليلاً حتى تبعد يديها، إلا أن الشيطان حضر، لكنه لا يعانق امرأة متزوجة حتى لو دعته، حتى لو كانت خادمته السخية.
صارت سخية، بانت عليها النعمة من راحة البال والغداء في بيته، أصبحت حريصة على سخائها حين تخطر بجلبابها، تشده من وسطه للأمام وتتأنى، وقبل أن تخرج تلبس حذاءً بكعب عالٍ كي تتقلب في كل الاتجاهات.
بدأ الفار يلعب في قميصه، لكنه طرده.
إلى أن أتى محصل الكهرباء، كان يأكل سمكاً، أشار لها بعفوية إلى الجيب الأيسر لبنطاله، لتمد يدها وتسحب النقود، يتذكر الآن أن ابتسامة ممحونة تسللت لوجهها، تقدم رِجْلاً وتسحب أخرى، وربما ضحكة مرقوعة حبستها بذكاء، وقفت تنظر لأسفل جيب بنطاله، تضحك ضحكة نصفها هازئ نصفها خجل مقصود، نصفها متردد ونصفها يسعى.
مرت الحكاية كأنه لم يرها، لكنه صار حريصاً أن يعاملها نفس معاملته لناجح، يحضر أحداً معه ويصرفها بسرعة، وإن تعذر يخرج لها معاوية حتى لا يتورط ويخرج لها علياً.
قرر أن يتخلص منها، وبسرعة، لكنها سقطت من طولها وهي تضع الغداء.
حملها بنفسه إلى المستشفى، لم ينتظر سيارة الإسعاف، قال الطبيب إنها مصابة بأنيميا، تراجع عن قراره وأصبح حريصاً أن تأكل قبله من الطعام الذي تعده له، يسألها عن الأدوية ويتابع.
قالت إنها مرعوبة أن يتركها زوجها وأن حماتها تضغط على ابنها ليتزوج وينجب، تعاطف معها خاصة بعد أن أشهرت سلاح دموعها، قال لها: من اشترانا نشتريه ومن باعنا نبيعه.
كان يقول من خلف قلبه.
داخت مرة أخرى، خشي أن تسقط ثانية، قالت إنها أجرت حقناً مجهرياً من قبل وفشل، وتريد أن تحقن ثانية، حقن لها على حسابه الخاص، لم يعد عنده من يهتم به فاهتم بها.
اختفت كل الهواجس، ملأت الشفقة قلبه، تمددت ونامت.
فكر في لحظة مجنونة أن يرسمها، أجلسها أمامه ورسم نصف وجه إلى أن يكملها:
والباقي يا سعادة الباشا؟
عاد ليرسم نصف وجه خجل ونصفاً شريراً، لم تفهم، هو لم يفهم ولم يحاول:
هو أنا اتنين يا سعادة الباشا.
فكرفي وقت أن يجعلها موديلاً، لكنه بعد موقعة السمك والبنطال طرد الفكرة، خشي أن يتحرك السمك ويلعب في البحيرة.
لم يكن يعرف عدد اللوحات التي رسمها، تملأ جدران البيت، بعضها مكدس في غرفة أخرى، وهي تتفحصها باستغراب، تنقل لوحة من مكانها بحرص، مرة سألها عن لوحة يحبها قالت إنها استعاضت عنها بأخرى أجمل منها.
فرت منه ضحكة ابتلعها بسرعة، في اليوم الثاني أعادتها.
يمد ساقاً، يسحب أخرى ويطلب شاياً.
الغريب أن قدمها تثاقلت عنه حين خرج للمعاش كما تثاقلت قدم ناجح.
في البنك أخبره الموظف إن النقود ليست كما قال، ناقصة، كانت مكافأة المعاش وعائد الصناديق التي اشترك فيها، استلمها وعاد للبيت إلى أن يضعها في حسابه في البنك الذي يتعامل معه، لكنه تلكأ لأيام قليلة.
وانقطعت أخبارها.
لم يقم بعدّ النقود لحظة استلامها، البنك قد يخطئ في ألف لكنه لا يخطئ في خمسين ألفاً.
حين دق الباب فتحت بابتسامة صفراء مترددة، بدت خائفة ثم ركبها الرعب، لكنها أخفت ما استطاعت، تمالكت نفسها، دفعها ودخل.
لم يدفع امرأة بقوة من قبل رغم كل القضايا التي بها نساء، لم يسأل نفسه أي سؤال، إن كان زوجها هنا أم لا؟، هل تحدث معركة، هل يتهم باقتحام منزلها؟
عبَرَتْ أمام عينيه صورة واحدة: ماذا لو كان قد واقَعَها يوماً؟ أو اشتكاها الآن وحبسها بتهمة سرقة النقود، يتخيل منظره وهو واقف أمام المحقق يقول له:
أنت متهم بإقامة علاقة.
لعبت معه كل الألعاب، الخادمة، المريضة التي تستحق الشفقة، المشتاقة للولد، الممحونة، الأم.
كان عبقرينو في نصف هدومه، يتصبب عرقاً.
لم يسألها شيئاً.
أتيت لزيارتك في وقت غير مناسب؟
حين صدمته لوحاته على الحائط أحس أن الوقت مناسب جداً، رأى لوحة النعل، نعل الفتى القتيل المتخم بلسعات الفحم، يتذكر أنه بكى بمرارة على هذا الفتى.
أشار لها بالصمت، أشار لعبقرينو أيضاً.
وجد قمصانه في الدولاب، وجد بدلتين، بنطلونات، لم يفكر بالأحذية لأن غيابها يتم اكتشافه سريعا، جواربه، وجد الكاسيت الذي كان يسمع فيه شرائطه، والدفاية التي نسيها، وجد الهواتف مغلقة كما هي، بأرقامها وصورها، صور أمه وأبيه وأخيه وحبيبته القديمة.
وسؤال يتيم حارق: لماذا!
.. لم أنجب، كنت خائفة من الزمن، أن يتركني زوجي ويتزوج عليَ.
لماذا؟
بعض الخادمات يسرقن، هذه لم تكن تريد أن تسرق، تريد فقط أن تستعير حياتك، أن تعيش عيشتك.
يسرق من يسرق ولن تنتهي السرقة، لكن هناك من يريد أن يسرق حياة الآخرين ليرتديها هو.
كاد يمضي من القرف، قرصته حاسته، عاد ليفتش، وجد دبلة زواج أمه، قطعاً من ذهبها رغم أنه أخفاها حتى عن عينيه، خمسون ألفاً في لفة واحدة وخمسون منفرطة في لفات أخرى.
كانت تسرقه باستمتاع، بتلذذ، تسرقه بنفس مشيتها وحديثها ويديها الرطبتين.
كانت تعير قمصانك وبلوفراتك لجيرانها في الشارع.
في الحارات الشعبية الكل يستعير من الكل في فرح أو حزن، وهي أصبحت مستودعاً للجميع.
لماذا؟
كنت أريد أن أؤمن مستقبلي.
تؤمن مستقبلها وأنت الذي لم تفكر يوماً أن تؤمن أكثر من الشهر الذي تأخذ فيه راتبك.
أنت استمتعت بحياتك في البوليس ولم تقبض شيئاً يذكر، وهي استمتعت بحياتها في بيت ضابط البوليس.
لم يستطع أن يمد يداً ليصفعها ولا أن يسبها، والبصقة التي كاد يطلقها في وجهها حبسها داخل فمه وأبقاها لنفسه.
يخرج.
يلحقه عبقرينو.
في هذه الليلة تحديداً لن يذهب عبقرينو إلى البار.
22
لن أحذرك هذه المرة أيها القارئ، الحظ السعيد يبتسم لك، الموال يحلَوّ، رغم أن هناك ميتاً وعزاء، دنيا التي تراها من بعيد داخل السرادق، تظهر كطيف وتغيب كسر، تجهز مشروبات ناجح فقط ومن حوله من ضيوفه الكبار، هي بطلة حكايتها وحدها وهي من حكتها، جاءت إلى المنطقة من الغيم، أسقطتها السماء فسكنت هنا، تخرج من الظهر وتعود في الليل إن عادت، لا أحد يعرف عنها شيئاً، على باب الله، في الأول كانت سافرة بجلباب طويل، في حالها، تقول إنها تعمل في معرض سيارات، تنظف وتكنس، وحين تنتهي تعمل في البوفيه تجهز الشاي والقهوة، لا يعرف أحد إن كانت ميسورة أم لا، لم تكن تعمل في معرض سيارات لكنها كانت تقف في الشارع للسيارات، يلقطها من يلقطها، تقضي وطرها وتطيل، لم يكن يعنيها الوقت الذي تقضيه تحت أحد، لكنها كانت تفاصل في النقود، لها تسعيرة محددة وأنت وشطارتك.
حظها من الجاذبية كان أكثر من رزق الجمال، بجسد شاب عفي يجعل الصياد يغض النظر عن الشكل من فخامة الوليمة، لماحة تفهمها وهي طائرة.
عندما فارت وصارت أنثى، احلوَّت في عين خالها فقطفها لنفسه، أخذها حتى أدمنت الحكاية صاغرة أو محبة، حين أحست بالحمل غادرت قريتها، صادفت بنات حلال مثلها خلصنها وبدأت طريق الكفاح من أجل لقمة العيش.
قلة الحيلة غلّابة والعمل بالحب ضرورة، راحت تأكل عيشاً بجسمها، وبعد أن استقرت أمورها راحت تأكله بجسدها، تسكن مع ثلاث بنات أخريات كلهن يعملن في معارض سيارات.
فجأة ارتدى الأربعة الحجاب، الصيادون يحتاجون بائعات حب محجبات لا يكتشفهن أحد في الطريق، حتى لا يلفتن النظر ويستطعن ممارسة عملهن بعيداً عن الأعين، كانت ظاهرة، اختفت بائعات الحب من الشوارع وحل محلهن بائعات بخمار أو إيشارب خفيف.
ثم حدث التحول الأكبر، وشاركت التكنولوجيا بنصيب كبير في الحب، ظهرت الهواتف المحمولة، حملنها لأسابيع قليلة حتى يعرف الزبائن أرقامهن، ثم اختفت البنات مرة واحدة من الشارع، كن يساهمن أحياناً في كشف غموض جريمة، تبخرن من الطرق وسقطن في هواتف الصيادين.
من يعرفها يحن إليها، تصنع جواً وتترك سيرة طيبة، شعارها أن تريح الزبون لا أن تخطفه على السريع، لذا لا ينساها أحبتها مهما تنقلوا بين أفخاذ أخرى.
تعمل بمزاج، كأنها تتزوج كل واحد على حدة في وقته، كأنها مفتقدة للزواج أو للبيت فتطيل فيه، تجلس في مقهى بين طلعة وأخرى تأكل وتشرب قهوتها وتمازح العاملين، بنت طيبة تجري على ذراعها.
تترك الزبون على حريته، معاشرتها مغوية بكسر المحاذير، في لحظة اكتشفت أنها حامل في الشهر الرابع ربما الخامس، لم تكن تعر الأمر اهتماماً، سابقة خالها والتخلص من آثاره جعلها تعتقد أن الموضوع سهل ويمكن مداواته بسهولة، في البداية حاولت تخمين من وضع بذرته فيها، لكن العداد لم يتوقف عند واحد بعينه، وحتى لو توقف ماذا ستفعل؟
سترها من سترها، خبأتها صاحباتها وتكفل واحد كانت تعجبه بمصاريف ولادتها، للأمانة قامت صديقاتها بواجب كبير.
معها طفل، عادت للسيارات مرة أخرى، لا تفهمني خطأ وتعتقد أنها عادت للشارع، بالعكس، حنت عليها قوادة رفيعة من النوع الممتاز، تخدم عندها في البيت، تعاين البنات وتضع لهن الماركة المناسبة، حولت البنات لسيارات، حين يتصل زبون يسأل عن البنت، عفواً السيارة تقول المرسيدس سافرت في مشوار بعيد وقد تعود غداً، لدينا شيفروليه على الزيرو مؤقتاً.
من يحتاج واحدة بمؤخرة كبيرة يطلب سيارة هاتشباك.
وقعت القوادة، كادت دنيا تروح في الرجلين، استعملوها كشاهد ملك، سمعت ورأت لكنها تنظف فقط وتدهن العجلات ولا علاقة لها بسباق السيارات.
في لحظة سألها الضابط وهي تحمل طفلها: ابن من هذا؟
ردت ببراءة وخوف:
ابن الشعب يا سعادة الباشا.
لا تعرف كيف صاحبت الزعفراني، ربما في مترو الأنفاق حيث يعمل، ركبا معاً في آخر وردية، تحتاج لمن يحمل همها وهو حمال هموم من يومه، كان طفل العجز، أنجبه أبواه بالصدفة بعد أن فقدا كل الأمل بل ونسيا الموضوع، ماتا وهو صغير، الخال حاضر في حكايتهما معاً، ربما يكون هذا هو السبب في معرفتهما، شكيا الهموم ولعنا سيرة الأخوال، وسخرا معاً من مقولة "الخال والد"، نهبه خاله لكن إرثه كان كبيراً بما يكفي لأن يرفض الزواج من ابنته، خطب عشرين واحدة، كان الآخرون يصورون له أنهن طامعات في ميراثه، وقع في فخ الأفلام البورنو وعاش حياته، يتفرج على فيلم ثم يستمني وينام، لم يعد في حاجة لرفيقة، عنده مائة رفيقة على الشاشة يكدن ينادينه: مدد يا زعفراني.
مشكلته الوحيدة كيف يدخل إلى الفيلم.
أوقعته جارة لهم طمعاً في نقوده، لكنه فشل، بطلته في مكان آخر، في صندوق ملون، في شريط سي دي، وانتشر الهمس عن عنته، وخيبته، ثقلت رجله عن القرية، وأجر شقة صغيرة كانت من سعده، قريبة من بيت دنيا وصاحباتها، راح يتخيل كيف يدعوهن معاً ليمثلن فيلماً خارج الشاشة، لكنه خاف من فضيحة أخرى.
هي تحتاج رجلاً ولو كان يكبرها لتربِّي الولد، وهو يحتاج من يخرجه من الشاشة.
تلعب عليه كزوج بعد أن اعتزلت جرَّاء واقعة الماركات، وهو خائف يدخن الحشيش
لينسى، يشاهد الأفلام لينسى، يسهر في قهوة ناجح يفكر فيها، هل يقدم على الخطوة أم لا؟ أخذ قرش حشيش معه للعمل ليساعده على اتخاذ القرار الصحيح، شرب حتى طار من على الأرض ثم وضع سي دي من أفخر سيديهاته داخل الجهاز الذي يحدد ميعاد وصول القطار والتعليمات، وهاص الركاب، كانوا يضحكون وهو يضحك.
استقال، باع باقي الأرض وتزوجها.
23
إذا كنت تعتقد أن لاعبي كرة القدم هم من يعتزلون فقط فأنت لست معنا على الخط، تعيش في دنيا أخرى، وإذا كنت تعتقد أن "قنبل" هو من سيعتزل فأنت مغيب، قنبل لن يعود الآن قبل أن يقضي على دولة المخدرات كلها، حتى لو شرب لوحده كل أطنان الحشيش، يقول هذا بلسانه لكنه بقلب ساخط يرشد عن الآخرين، يتمنى في قرارة نفسه أن يظل الحشيش موجوداً وإلا انتفت الحاجة إليه وألغيت البطولة نفسها.
شحته ليس مثل قنبل ، وضع قانونه منذ البداية، لا يقدم معلومة تحبس أحداً، يكتفي بأن يُحبَس هو.
وحتى هذه يفكر بجدية في اعتزالها، المسألة ليست سهلة، لمن سيترك حيطان السجون؟ من الذي يهون على الآخرين حبسهم، من سيعانق السجانين حين دخوله!
تأخرت يا شحته، وحشتنا.
حتى الدنيا ليست سالكة يا شحته وطيعة على طول الخط مع أنك تعطيها أكثر مما تطلب، تحبس نفسك كي تضحك هي، وما شبعت!
لذا يجب أن تلاعبها أنت وتعتزل فجأة لتفاجئها هي، واحد فقط يفاجئها ويلعب لعبتها، والمفاجآت واردة.
هناك من تبول في رأسه في أحد مشاوير الحبس الشريفة، عرض عليه أن يبيع إحدى خصيتيه بمائة وعشرين ألف دولار، يضعها في البنك ويصرف من ريعها طوال عمره، ورغم أنه بوغت، إلا أن الفرار صعب، صحيح أن السجن تعود عليه ولم تعد هناك حبسة تبل القلب، لذا بدأ يفكر بعمق.
الحبس في الأول كان عملاُ، مع الوقت صار داءً ورغبة قاتلة، ومن يهرب من دائه بسهولة؟
يفكر، خصية واحدة سوف تقيه شر السؤال، كبر مع الأيام ولم ينتبه، خصية تعوضه عن كفاح العمر بعد أن صار بيع الكلي موضة قديمة وخطرة، وهو كهل بالكاد تعمل كليتاه بالعافية، ولا يمكن التفريط في واحدة، تضررتا كثيراً من النوم على إسفلت السجون، ونهشهما البرد دون غطاء في ليالٍ طويلة، دون حشوة تمنع تسلله، ونومه في غرفة أصدقائه السجانين لم يحدث إلا في الأواخر بعدما عدم جسمه.
الآن يتحسس خصيتيه خشية أن يكون البرد وعدم الاستعمال قد أكلهما، العضو الذي لا يُستعمل يضمر ويضعف.
الذي لا يعرفه أحد ولم يخطر ببال شحته نفسه أن الأقدار لها وجه رحيم أحياناً حتى مع المرشدين الصغار، شبكت سنارته فجأة مع آيات التي أنهكها التعب من الذين يزورونها بالقوة، يغطون عليها كذئاب جارحة، ولم تسمع كلمة شكر، كل ما أخذته العلامات التي سببت اعوجاجاً في ملامحها، كما أنهكها أيضاً غيابهم مرة واحدة بعدما نالها العطش، وجدت عند شحته ما لم تجده عند أحد، وجدت من يربت على كتفها، من ينظر إلى وجهها الجديد بسعادة، من يحضنها عندما يأتي وعندما يخرج.
صارت سعيدة، يتهيأ لها أحياناً أن تقدم له مُوسىً حنوناً وتقول: اِجرح أي مكان تحب، أنت تستحق كل الأمواس وكل الضربات.
لم يبخل عليها بضرباته، لم يبخل على نفسه، تقابلا كل واحد بعطشه، والتقى العطشان، كلاهما يعوض ما فاته من رغباته وأحلامه.
وكما حدث للرئيس السادات حين أتته فكرة زيارة إسرائيل وهو في طائرة في قلب السماء، اتخذ شحته قرار الاعتزال وهو في حضنها.
ربما كان شحته أول مرشد يعلن اعتزاله دون سبب خارجي، ولا حاجة به لمباراة اعتزال وسط الجماهير، يعتزل في سرير آيات وحضنها وخلفه آهات الجماهير التي زأرت في وجهها، كأنه يغيظ الجميع أنه أخذها بالمحبة، حتى لو أخذها بالحاجة، بقلة الحيلة، الأشجار التي لم تنبت خارج بيتها من كثرة دهس الزوار ودعكهم، تنبت الآن في غرفة نومها وفي غرفة قلبها.
وإن ذبل فيها شيء فأنت أحييته، وإن مات فيها شيء فقلبك تابوته.
أعلن اعتزاله، صحيح لم تكن عنده سلطة تذكر لكنه أحدث مشكلة كبيرة، من صنعه لم يفكر على الإطلاق بلاعب احتياطي يملأ فراغه.
حين حكى لها الحكاية، وأنه يريد أن يبيع واحدة، ارتجفت في البداية، ثم ردته بقوة:
عثرت عليك في كومة القش، بل في كومة الثعابين.
تذكرت أسلحة أنوثتها، مازحته: لنكن كما نحن، أنت حبسة وأنا حبسة.
قايضته على حلمه بأن تُحبس مرة بعد مرة بدلاً منه، ثم قايضته على أن تحبس هي في كل المرات، شرط أن ينتظرها.
هو لا يعرف أنها لم تعد تريد شيئاً من الدنيا سوى واحد ينتظرها، بعد أن كان الواقفون على باب سريرها كطابور الميكروباص في الميدان القريب.
هي تنتظر ابنها، ولا تستطيع أن تتحمل انتظار اثنين.
يسرح، يغيب طويلاً ويمسك بخصيتيه معاً، ثم يمسك خصية واحدة، يفكر أن يبيع اليسرى، الشمال دائماً مسكونة بالشياطين، وهي تستحثه إن كان مصمماً على البيع أن يبيع اليمنى الطيبة، ويترك اليسرى بشياطينها، وتضحك.
تحاول أن تُخرجه من الموضوع بذكاء حتى لا يصمم عليه، تعرف أنه يريد أن يعوض كل أيامه الفائتة، تقترب، تضربه بغنج على كتفه:
حاسب، بالراحة، أنت تلعب كثيراً في البضاعة..
ترقع ضحكة:
أنت تلعب بالملايين.
24
ألا تعتقد أنك ذاهب لفخ ما؟
أنت لست في لحظة عادية، وعليك أن تفكر أن ناجحَ بالطبع في لحظة غير عادية، كل أفعاله ستكون مبررة، لديه كل الأعذار.
هل أنت في الوقت المناسب؟
اختيار اللحظة المناسبة والتوقيت هما من أنجياك دائماً، لا تستطيع أن تحدد ردة فعله، قد ينتقم منك وعلى ملعبه وسط جمهوره، والنتيجة محسومة سلفاً.
ستذهب إلى النار برجليك، ولن يستطيع أحد أن يجد لك مبرراً واحداً أو يختلق لك عذرا، بل ستتطاير الأقوال عن علاقتك به، وأقل جملة: أنك كنت تتربح منه أو تستغله، الأسوأ يا مولانا الضابط أن يقال إنه كان يستغلك.
سيعمل خيال الجميع على اختلاق قصص وحكايات سيصدقونها هم قبل الآخرين: كنت تتاجر معه في الحشيش أو تأخذ نصيبك بسبب حمايته، ستتحول من ضابط مجنون بصفحة نظيفة إلى مجرم، سيكون المجرمون أفضل منك، لعبوا على المكشوف، لكنك خرَّبت أساس اللعبة، لعبت من تحت الطاولة وشوهت المداميك.
أنت ذاهب إلى فخ.
قد يأكلونك هناك، ولن تستطيع أن تحتمي في كونك ابن الحكومة، أنت الآن لست ابنها ولا صلة قرابة بينكما، أنت بالكاد ابن سابق، ابن بالتبني على أفضل تقدير، في حالتك تحديداً ابن من زواج سابق، أبوك تزوج من أخرى طردتك من البيت عند أول فرصة.
وسؤال وحيد: إلى أين أنت ذاهب؟
يهرش رقبته: لقد رأيت بعينيَّ ما يجعلني الآن أغير وجهة سيارتي دون تفكير، أعود إلى البيت لأرسم أو أذهب إلى أي مقهى.
اسمع، أنت تعرف جيداً أن ناجح عاقل، يحسب حساب كل شيء بهدوء، ولن يجرؤ شيطانه أن يتقدم منك أو يرتكب أية حماقة معك، يعرف قدرك، بينكما مسافة مملوءة بالرهبة والخشية رغم أنك قربته وأجلسته على حجرك، لكنه كان يقول لك في لحظة دعابة:
كل واحدة من عينيك لها لون يا باشا.
فهمتها، عين بها محبة وأخرى بها مسافة.
قلت لنفسك ساعتها: كان يجب أن يكون أنفي هكذا مندفعاً مقوساً من أعلاه كي يفصل العينين عن بعضهما.
بينكما تاريخ، تاريخ أكبر من كل الخبز والملح، مائة قضية كان معك، بل كان في ظهرك ويعرفك عز المعرفة، لعل هذا ما يخيفك الآن، ظهرك عارٍ، وهو ملك اللعب على الحبال، يملك مائة حبل، يملك شياطين الشياطين الذين يحاوطونه الآن، يبكون بدلاً منه، يدخنون الحشيش نيابة عنه، ويبلعون الأقراص ليرتفعوا للأعالي ويرفعوه معهم، سيفعلون بك الأفاعيل، سينط عليك واحد من مكان لا تعرفه وهو يقول: لا نجوتَ إن نجا، كل واحد منهم سيأخذ قطعة منك يعلقها في ميدالية تذكارية، سيلتقطون صوراً مع جثتك، يحوم حولك واحد كأنه يرمي النقود على جسد راقصة.
لا تعتقد أنهم تحت سحائب الدخان غافلون، أقل واحد منهم لا يطير من مقعده قبل أن يشرب خمسين حجراً من الحشيش الفاخر، هذه الليلة ليس بها حشيش مغشوش، المغشوش لا يصلح لإيصال الرحمة إلى روح المرحوم، الحشيش المغشوش يصلح فقط للرعاع، هم رعاع أيضاً، هم سبب اشتعال المشاكل في أي مكان، يزايدون ولا يفهمون، وحتى إن فهموا لا يعرفون كيف يديرون الدفة، ابن ناجح عاد إليه مقتولاً، وقد يعتقدون في هذه اللحظة المجنونة برؤوسهم الموتورة أن رأسك مجرد قربان صغير لمعلمهم، قربان قد يبرد ناره مؤقتاً قبل الوصول للحقيقة ومعرفة الفاعل الأصلي.
أنت لست الفاعل لكنك في نظرهم الحكومة كلها، حتى لو صرت على المعاش، مازالت آثار من قدمك على الأرض، بل على النفوس، لم تطيرها الرياح ولم يطوها النسيان.
ستصير المسألة رأساً برأس، والرؤوس هنا سواء.
مش باقي مني غير شوية دم،
متلونين بالهم، مقدرش أسقي في مواجعهم.
هذا ليس مربط الناقة، الخوف كل الخوف أن يعتقدوا أنك قادم للانتقام من خروجك على المعاش بسبب ناجح، وقد يبادرونك قبل أن تبادرهم، أما كان عليك أن تخبر أحداً من معاوني ناجح أنك قادم، كان هذا سيفتح لك طريقاً ويخفف من الأوهام التي تكاد تأكل رأسك.
المصيبة أن يعتقد أحد أنك قادم بالشماتة، لا يا رجل، هذا احتمال بعيد، لكن كل شيء وارد على أية حال.
المفاجأة قد تلجمهم، ما لا يتوقعونه سوف يصيب أسلحتهم بالصدأ، هالة المباحث سوف تغطي سحابات الحشيش، أراهن أنهم سوف يوقفون الشغل كله، سيتلو قارئ القرآن سريعاً، ثم يقوم ناجحُ بنفسه ليوصلك إلى سيارتك، لتعود الحياة إلى العزاء بعد أن صار عزاءً فعلاً.
ما يطمئنك قليلاً أن معظمهم وربما كلهم ينظرون لك كمسجل خطر حقيقي، وهذه رتبة لم يصل إليها داخلهم أيّ ضابط آخر، موقنون أنك تعرف عنهم أكثر مما تعرف أيديهم.
حين رأوك مرة مع ناجح سارحاً حالما تعض شفتك، تمسح عينيك أو تهرش شعرك ظنوا أنك كنت تفكك خيوط قضية، لم يعرفوا أنك ربما كنت تفكر في لوحة تتكون في مشيمة رأسك أو تفكر في حبيبتك.
أنت الآن تفكر كضابط مباحث حقيقي، تفند كل الاحتمالات وتحسب العواقب، وتفكر بخيالك كفنان، تضع الإنسانية موضعها والعيش والملح والمجرمين في مكانهم.
مش باقي مني غير شوية دم، متلوثين بالهم،
مش باقي مني لحم في كتافي.
نعم، لم يبق لهذا الرجل شيء بعد غياب ابنه، وكل ماضيه لن يسند ظهر رجل فقد ضناه ووريثه، نعم، نعم، سيستقبلك بكل الفرح والتقدير، سيعتبر عزاءك شلال ماء بارد على جرحه الواسع يبيض به وجهه أمام شياطينه حتى ينزاحوا عن دماغه ويحلوا عنها ليفكر جيداً، ذهابك قد يكون الخيط الذي ينتظره ويتشبث به.
هو الآن قد عاد طفلاً يحتاج من يهدهده، كان ينتظر أن يعيش ابنه طويلاً يداوي عجزه ويحتفي بمآثره، يحفظ له سمعته التي بناها ببنادقه وأمواسه وشراميطه، بمراوغاته الذكية، بقراراته الحكيمة، النذلة في أحيان كثيرة.
ناجح الذي لم يتركك يوماً إلا حين تحضر نذالته، قضية ابنه هي قضيته الأولى والأخيرة، قلبه مفطور لكن عقله يعمل، ذهابك إليه سيسند ظهره أمام الجميع، سيفهمون حضورك على أنه إشارة من الحكومة أنها تقف في صفهم وسيحصلون على حقهم، مع أنهم موقنون أنهم سيحصلون عليه رغم أنف الحكومة نفسها.
مخطئ من يتخيل أن المسجلين لا يحبون الحكومة، هم يعرفون نظرية المقص جيداً، إذا ما انفتح وجرح رؤوساً ستعود أطرافه لتتجاور، ولو بمسافة، كلاهما يحتاج الآخر مع أن كل طرف ينظر في طرف آخر.
ناجح اللعوب الذي اختلفت معه على بعض القضايا، كنت تقول بيضة وهو يقول حجراً، كنت تعرف وتغض الطرف، ضابط المباحث الناجح يعرف متى يجب أن يغمض عينيه ويترك لمرشده بعض الفخر، يعرف كيف يترك له داراً مفتوحة وأبواباً متسعة للفخر.
ناجح اللعوب الذي يفكر أحياناً بقلب قواد، يغير طريقه ويراوغ حسب غيته: الزراعي في المنتصف يا باشا متاح ومرغوب والصحراوي في الخلفية دائماً.
أخفى عنك لشهور مكان البنت شهد، لم تنسها له، لكنك مررتها من بين قدميك كحارس متواطئ.
شهد النشالة اللطيفة التي تحك الزبون في موضع عفته، تنشل محفظته وتترك له شهقة خصيتيه، شهد التي لم يستطع ميمو النشال أن يلعب عليها:
نكتب كتابنا عند الحكومة.
.. يا بنت، أنا الحكومة.
اشترى لها دبلة وإسورة من مال حرام، لم تقبل أن تكون شبكتها من أموال النشل: لا بد أن يكونا حلالاً ومختومين بختم الحكومة أيضاً، حاولت أن تشده، يعلنان اعتزالهما ويبدآن مشروعاً.
وعدها، أخذ قلبها بعد أن نقش اسمه على دبلتها واسمها على دبلته، أخذها كلها، بعدها تراخت في محاولات شَدِّه إلى التوبة، المسجل مثل العاشق يندفع بقوة عاطفته نحو جريمته، نحو دنياه التي يرى نفسه فيها بطلاً.
عاشق بالنهار ينشل من الناس ما عشقوه، وعاشق بالليل بين فخذَي شهد.
طال المطال، الكيف ينشل النقود التي نشلها، وهي على نار، في لحظة ربما لم تكن تقصدها بالضبط:
إما أن تتزوجني أو تفرَّجني عرض أكتافك.
رمى الدبلة في وجهها ونزع منها الإسورة والدبلة.
تنسى المرأة أي مشهد إن أرادت، تتجاوز بعقلها عن الخيانة، لكنها لا تنسى لأحد أن يهين أنوثتها، أن يمسح الأرض بها، حتى ولو كانت نشالة.
غيرت هيئتها، لبست حجاباً ثم بدلته بالنقاب، تبعته في كل مكان كمخبر بأجر، نشلت منه ما نشله من الناس، يعود في آخر اليوم مفلساً، وحين شبعت وبقي من الانتقام حرقة بسيطة في القلب، أوقعته داخل محطة السكة الحديد، وشت به عند من سرقه، أكل علقة لم يأكلها حرامي في مولد، ومحطة السكك الحديدية أكبر مولد.
قررت أن تعود لحياتها الهانئة، تنشل وتعيش، نسيت ميمو لكنها لم تنس مشهد قذفها بدبلتها في وجهها.
تخرج إلى الشوارع، لا تتاجر بجسدها كله، فقط بأدوات التسخين، توقف الراغبين، تلقط المتزوجين، تستطيع أن تميزهم عن العزاب:
في السيارة فقط، أنا لا أذهب للبيوت.
استغلت عدَّتها، فمها ولسانها ويديها وبعض الهمس وبعض الفحيح، تأخذ المعلوم، لكنه ليس غايتها ولا يبرد نارها، ما يبردها أن تحصل على دبلته تذكاراً، وإن رفض تصيح فيخشى الفضيحة خاصة إذا كان متزوجاً.
أحياناً تلقطها حين تغمض الفريسة عينيها أثناء الشغل.
كان "ناجح" يعرف، أخفى مكانها عني لشهور، وعندما ضبطتها بأحد الشوارع متلبّسَة، كانت تضع حول عنقها سلسة بها عشرون دبلة كتذكار أبدي على نجاح الانتقام.
لم يجرؤ أحد أن يتقدم ليشكوها، تقدم ناجح وأخذها قبل أن نحرر لها محضراً، وبقلب امرأة ملتاعة على ابنتها، امرأة تزرع الورد في تربة مالحة كان يقول:
اتركها من أجلي، اتركها، إنها مجروحة يا سعادة الباشا.
25
أربع لوحات ورَقْصَة
أناقة تَعْبُرُ الشارع.
"ضابط مجنون".
سمعتَها تخرق أذنيك، لكنك تجاهلتَ الحكاية كلها، كأنها ليست عنك، نعم، يجب ألا تطارد الوشاية، دعها تأكل بعضها، هكذا فَكَّرت.
أنت لم تحكِ الحكاية لأحد، حكاها العسكري ابن الهرمة الذي كان يقود السيارة وأنت رئيسللدورية، تمرُّ في الشوارع، تتفقَّدُ أمناء الشرطة الذين يقضون ساعات عملهم في حراسة الكنائس بمنطقة الزمالك.
كنتَ تقترب من كنيسة المرعشلي، اسمها على اسم الشارع: "المرعشلي باشا"، لوسألت أي ضابط أو أمين قضى عشرين عاماً في القسم لن يعرفه، لم يسألوا ولا أخبرهم أحد.
شاهدتَ امرأة قد تبدو عجوزاً من بعيد، بملابس زاهية، أنيقة، آثار جمال ما تزال تحوم حول الوجه، روح مبتهجة تسير على قدمين بجانب الرصيف، النساء اللواتي يتمتعن بروح ملوَّنَة متمردة تحب الحياة، تأبى جنيَّات الجمال أن تفارق وجوههن مهما أوغل بهن العمر.
لوَّحَتْ لك فترجَّلْت، ما طلبَتْه كان بسيطاً جداً، فقط أن تَعْبُرَ بها إلى الرصيف الآخر.
عرفتَها، لا تتذكَّر لماذا لم تخبرها،تأبَّطْتَ ذراعها فانهمرَتْ دلالاً، عبَرْتَ بها، ورُحْتَ تغني بعفوية: "يا وابور قل لي رايح على فين".
تتذكَّر أنها قَرَصَتْك في ذراعك، ضغَطَتْ عليها.
كحبيبين عَبَرْتُما، صارت أخفّ، كأنها غادَرَتْ عجزها، وسنوات عمرها.
كانت أمك التي تمقُتُ أباك تقول دائمًا إن الكلام الحلو والغزل اللطيف يُطيل عُمْر المرأة، يمنحها عُمْرَيْن.
"ما كل هذه الأناقة؟"، قلتَ لها وأنتما في منتصف الشارع.
"إن شالله انت"، قالت وضحكَتْ.
تتباطأ حبيبتك العجوز، تقول: "أنت أنيق الشكل والروح".
"هل أنتِ مدعوَّة للعشاء عند السفير؟"
"لا، أنا ذاهبة لمن هي أهم من أي سفير، دولة بحالها، سأتعشَّىَ عند وردة الجزائرية، سفيرة الغناء العربي".
"وردة" ليستْ مُفضَّلَة عندك كثيراً، كما أنك كنتَ متأثراً بكلام "محمد عبد الوهاب" عنها حين قال: "صحتها كويسة".
أنت من فريق "فيروز"، أرضَعَتْها لك أمك منذ كنتَ صغيراً، رغم محاولات أبيك العنيفة أن يُبعدك عن الغناء: "استمع إلى الأغاني الوطنية، فهي التي تلهب قلب الشعب والضباط وتُحفز الأمة على قتال المجرمين، استمع إلى عبد الوهاب وأم كلثوم، وفُضَّك من المرقوع عمرو دياب والممحون تامر حسني، وفيروز هذه لم تُغَن لمصر سوى أغنية يتيمة بالعربي".
لا تستطيع أن تخالف روحك، أنت تُحب "وردة" خفيفاً، لكنها ليست المُفَضَّلة عندك، أنت من العُشَّاق الذين قضوا عمرهم خلف "فيروز"، وهي تصلي على المسرح، ومن الصعب عليهم، مستحيل، أن يكونوا لغيرها، يصعب عليهم أن يركبوا خلف أحد، حتى خلف "أم كلثوم".
كما أنك حين استمعَتَ إلى "بليغ حمدي" وهو يقوم بتحفيظ "وردة" الأغاني، قطعْتَ حبل السُرَّة معها، هو يُغني من طبقة حنون، يربتُ بأصابعه على كتف حبيبته، يخاصرها، يلفُّ ذراعه حول وسطها، ويدور، وهي تهدِر غالبًا في معظم الكوبليهات، كأن الحب معركة حربية، يُغني "بليغ" لرقَّة الحياة وشجنها، وهي تنتصر في معركة فاصلة ضد الاستعمار.
"خذني حتى الأسانسير كي أتمتع بصحبتك".
صعدْتَ بها سلالم البناية، ضغطْتَ زِرّ الأسانسير، ثم ربّتَّ على كتفيها، فغمرَتْكَ بحضن طويل.
حين عُدْتَ للسيارة، كان وجهك يضحك، عينا العسكري في عينيك، ينظر مثل ثعلب، البيه الظابط باس واحدة في الشارع وحضنها!
"هند رستم يا بني آدم".
لم تستطع أن تقاوم، فانفلَتَتْ ضحكَتُك.
العسكري ابن الهرمة أطلقَ الصافرة، خبَّرَ الجميع أن "هند رستم" قبَّلَتْكَ في خدِّك: "حضَنَتْه بقوة وشدَّتْه من يده ودَعَتْه للصعود معها إلى شقتها".
وراحت الحكاية تَكبُر.
توقَّعْتَ أن يتغيَّر اسمك من فجنون إلى حبيب أو مجنون هند رستم.
والسيد المأمور الطيِّب العصبي يشيح في وجهك أمام الضباط: "سأفتح قسماً للحب والفنانين في القسم، سأخلع لباسي بسببك في ميدان التحرير"، ثم من خلفهم يقول: "أنت أفضل واحد عندي، لولا لطشة الفن التي ستذهب بك في ستين داهية".
كنتَ تضحك ولا تعبأ بالشائعات ولا تطاردها، مثلما علَّمَتْكَ أمك، والأيام.
تتذكَّر الآن أنك كنت تحاول إغاظة حبيبتك، التي تسأل بفضول لا يتناسب مع شحنة البرود التي تحقن بها علاقتكما.
تسأل بإلحاح عن قُبلة امرأة في عمر أمها: "ماذا فعلْتَ بعد أن قبَّلَتْك؟ قُلْ الحقيقة".
"لا شيء صدِّقيني، لم أغسل وجهي لمدة اسبوع، وأحتفل كل عام بالذكرى السنوية للقُبلة الحارة".
هدية ليليَّة.
"أريد أن أُحَرِّر محضراً".
قبل أن أنطق أكملت برشاقة: كأنها في محل لبيع العطور: انت الظابط بتاع المحاضر؟
بشحمه ولحمه.
منتصف الليل تقريباً، أو بعده بقليل، قسم الشرطة خالٍ تقريباً، إلا من أمناء الشرطة والعساكر، وأنت الضابط الوحيد بين جدرانه، رئيساً لقسم التحقيقات.
جلسْتَ إلى مكتبك، غرفة بلا أبواب، مفتوحة على باب القسم من ناحية، وعلى الأمناء في النوبتجية من ناحية أخرى.
تتذكر أنك كنت وسيماً أنيقاً، برتبة ملازم أول في فوهة العقد الثالث من عمرك، تنادي بلطف على عامل البوفيه، فيجيبك: "القهوة على النار يا سعادة الباشا".
فتحْتُ قُفْل الدُّرْج، لكل ضابط درج تقريباً، أحياناً لا تكفي الأدراج، فيصير الدرج بالأقدمية، ويرثُ الأقدم دُرْجَ الضابط الذي نُقِلَ لمكان آخر، دُرْجي عامر بالكتب، التي أمنّي نفسي بقراءتها إنْ كانت ليلة هادئة.
رُحْتَ تُقَلَّب في ملف على سطح المكتب، يحوي قضايا اليوم، التي ما زالت مفتوحة، لم يتم الانتهاء منها بعد، والتعليمات المهمة، تتفحَّص دفتر القضايا لتعرف ما حدث طوال اليوم، وصوت الأمين الأقدم الذي يعمل معك يضرب سقف الغرفة ويعود إليك: "مساء الروقان يا سعادة الباشا".
تبتسم، تكاد تضحك، تكتمها، يريدون أن يطيحوا بهيبتك ويتقافزوا فوق كتفك، تعرف أنهم يُسمُّونك الضابط الرايق، وتعرف أنهم من خلفك يتندَّرون: "البيه الفنان"، وتعرف أيضاً أن سعادة المأمور خفيف الظِلّ، حين يتحدث عنك يقول: "لا أستطيع أن أُغمض عيني ليلاً إلا عندما يكون عبده الرايق" في القسم.
اسمك ليس عبده بالطبع، لكنها دعابة المُحِب البك المأمور، ودعابة المأمور مستجابة بإذن الله.
وتبتسم.
تجدها أمامك ومعها رجل، القلق يكاد ينبح من وجهيهما، تدعوهما للجلوس وابتسامتكَ ما زالت على وجهك، لحظتها تأتي قهوتك فتعرض عليهما:
"عندنا شاي وقهوة فقط".
"شكراً".
"شاي القسم له طعم خاص ونكهة لا تُنسى، إنه يغلي في الحلَّة منذ الصباح".
بتردُّد: "شكراً جزيلاً".
تنقُر بأصابعك على سطح المكتب كلحن يصاحب كلامك: "قد لا تتكرَّر هذه الفرصة مرة ثانية في العمر".
يضحكان، ملامح القلق تبتعد.
يبادر الرجل الذي معها: "الصديقة لها شكوى".
تلمس أسفل عينك اليمنى بطرف سبابتك، وتقول: "عيني".
قالت: "كنتُ في سهرة، في فندق أوديون مع مجموعة أصدقاء، روف الفندق بالتحديد، على مقربة منا يجلس شاعر معروف، يسخر بصوت عالٍ من المطرب علي الحجار ويشتمه، قال إنه أضاع موهبته في السهر والشرب مع أولاد الليل، وأن ملامحه حين يغني تشبه ملامح أفراد جوقة المطرب سلامة حجازي في أول القرن، وإنه غبي ترك المطربين الجرابيع يقفزون فوقه ويسيطرون على الساحة، أمطروا آذاننا بالأوساخ، انتصروا عليه وعلينا، ضايَقني الكلام فقلتُ بصوت يصل إلى طاولته، إنه فنان من حقه أن يسهر، الغناء بالليل، والكتابة بالليل، وشياطين الفن والحب لا تفتح عينيها إلا بعد منتصف الليل، ولا تطير لمهماتها إلا في قلب قلبه، حتى أغنيته اسمها في قلب الليل، فصرخ فيَّ وقال اخرسي، أنت لا تفهمين شيئاً، صفعني ردُّه، فقلت له تركنا لك الفهم يا كبير، لا تنس أن عبد الحليم حافظ عاش عمره يسهر الليل وينام النهار كله، ردَّ الشاعر، عبد الحليم كان ذكيًا، قلت، ربما الحجار ليس ذكياً بمعايير السوق التي اختلَفَتْ، وربما جاء في غير زمنه، وهو أفضل الأصوات في الخمسين عاماً الأخيرة، ردّ بحدة بل أسوأها".
توقفَتْ لحظة وقالت كأنما تتعرَّف إلى رأيي فيما قالته: "هذا ليس حواراً كما ترى، بل مناطحة"، هزَزْتُ رأسي موافقاً، لم أشأ أن أُقاطع سردها للقصة، فأكملَتْ: "قلتُ له، حرام عليك، هذا ليس كلاماً في الفن، صرخ وقال، هل أنتِ من ستعلمينني الفن، اخرسي، كان يتكلم كطاووس، كأنه صوت السلطان لا يريد صوتاً غيره، وهَبَّ من مكانه واتجه إلىّ".
صمَتَتْ، تحاول التقاط أنفاسها، حاولْتُ أن أُخفِّف عنها وأنا أقول: "كملي شاي الحكومة، يروَّق الدم".
التقطت نفساً، وضعت ساقاً ملفوفة فوق أخرى مصبوبة بأناقة، بجورب رمادي فاتح ملتصق باللحم، الذي اخترعه يعرف بجمال خبيث أنه يوقد دفئاً غريباً، كأن بخاراً ساخناً يتمشى على الساقين أو ينضح منهما، يمنحهما جمالاً أحلى من خيالك، تنتظر المرأة هبوب الشتاء لترتديه، أحياناً تتقلب به على سريرها دون ملابس، تلبسه لتوقد به شهية الرجال.
حين انتبهَتْ لعينيك أنزلت ساقها، أنزلتها في حضرة الضابط.
"خذي راحتك"، قلتَ لها.
ابتسمَتْ، صمَتَتْ للحظات كأنما تستجمع قواها قبل أن تقول بنبرة منكسرة: "قام من مقعده فجأة وصفعني على وجهي".
لا تعرف ماذا تقول لامرأة في هذه اللحظة، وهذا الوَضْع، حتى لو كان مَنْ صفَعَها حبيبها.
تتذكَّر ساعتها أنك أحسَسْتَ بالصفعة أيضاً، ظلَلْتَ صامتاً لفترة أطول مما يجب، أنت تُحدِّق بها، وبالرجل الذي يرافقها، ثم غمغمتَ أخيراً: "يا خبر اسود".
قالت: "جئتُ لأحَرِّر محضرًا بالواقعة، ولديَّ شهود".
في مثل هذه المواقف يحتاج الشاكي لمن يقف معه، لمن يربت على ألمه، يقول له: "أنت على حق"، أو على الأقل: "سأُحَرِّر لك محضراً وستأخذ لك النيابة حقك"، أو أن تقول له بصوت غير محايد: "ماذا جرى للناس!"
سحَبْتَ ورقة وقلمًا: "ما اسمك يا هانم؟"
حين نطقَتْ وجمْتَ، ثم أطلْتَ النظر إليها كأنك ضِعْتَ في حلم، وهي ارتبكَتْ، لا يمكنها أن تتوقَّع ما إذا كنتَ ستقول كلاماً طيباً أم سيئاً.
مدَدْتَ يدك في دُرجك اليتيم، أخرَجْتَ بعصبية كتاباً ثم آخر، ورُحْتَ تجذب واحداً انحشر بالداخل.
أخرَجْتَ لها ديوانها: "السلطان يرجم امرأة حبلى بالبحر"، رُحْتَ تُلَوِّح به كطفل مسرور، ثم تُقَرِّبُه من وجهها.
بدهشة مَنْ حصد كل جوائز العالم، ونال أكثر مما يتمنَّى، راحت تتكلم وتتكلم، تضحك وتدمع، كأنها نسيت تماماً الصفعة والسلطان.
لا تتذكَّر، هل أكملْتُ المَحْضَر أم لا.
حين وقفْتَ لتودعهما، كانت عيناها تلمعان، تتكلم أكثر، وحين مشيتَ خلفهما في الصالة المؤدية إلى الباب الخارجي، لوَتْ عنقها بخفَّة، حرَّكَتْ أصابع يدها اليسرى بوداع عاطفي، ثم انسَلَّتْ من رفيقها، وقالت بصوت هامس لا يسمعه: "لو لم نكن في قسم الشرطة لاحتضنْتُك".
ما أعرفه أنى رُحْتُ أُقَلِّب في صفحات الديوان طوال الليل.
وما لا تعرفه أنك تركْتَ الدُّرْج مفتوحاً.
بورتريه للرقَّة.
على عَجَل استدعاك المأمور، بنبرة حازمة قال: "انتظر في مكتبك ليلاً، لا تغادره مهما حدث، ستخرج في مأمورية مع الجماعة".
قبل أن تخرج من مكتبه أضاف بنبرة أقرب إلى التحذير: "ستذهب في مأمورية مع واحد من الجماعة، لا علاقة لك بما يفعله، سيرتدى ملابس مدنية، وأنت بزيِّك الرسمي، لا تسأله عن شيء، لا تتحدث، أنت معه صورة فقط، صورة".
لا تكره شيئاً قَدْر هذه المهمات الرمادية، ليس فقط لطبيعتها، بل لغموضها، لا تعرف بالضبط إلى أين ستذهب، ولا لماذا؟ والضابط الذي تصحبه، أو على وجه الدقَّة تمشي خلفه، يَسحبكَ خلفه، يتيه عليك بأنه يعرف أكثر منك، يقول لك من طرف واضح أنك جاهل، لستَ سوى تابع، تابع بملابس الضابط الرسمية وسلاحه، بالعربي مجرد حارس لسيادته، ما مِنْ مرة خرجْتَ في مأمورية كهذه إلا وتأكدْتَ أنك تفهم أكثر من النطع الذي تُلازمه ألف مرة.
كُرْهكَ لهذه الوظيفة يزداد كل يوم، ولكن إلى متى تعيش هذا الكره الذي يكاد يأكلك وحدك، تكره فقط دون أن تفعل شيئاً.
تُكلِّم نفسك، الكره لا يليق بك يا مولانا، لكنك تمقُتْ أكثر ما تمقُت أن تكون تابعًا، دخولك لهذه الوظيفة وانسياقك رغماً عن أنفك جعلك تكره فكرة التابع، صارت ردود فعلك عنيفة على غير عادتك وتكوينك، كأنك تردُّ على انجرارك ككلب أعمى وراء رغبات أبيك، والأمَرّ على رغبات محيطك ولمعة عيونهم، يحبون الضابط أكثر من الفنان، يُقدسون الضابط ويهزأون بالفن كله، حتى لو تَسمَّروا ساعات أمامه.
تتذكَّر الحكاية التي حكَتْها لك بنت أحببتَها ذات يوم، قالت لصاحبتها إنها تحب رسَّاماً.
"ماهي وظيفته؟"
"رسَّام".
"ماذا يعمل؟"
"رسَّام".
"قولي لي طبيب ويرسم، مهندس ويرسم، مهندس أولاً ثم يرسم عليكِ براحته، هل سيقدَّم لك الغداء ألواناً، أم سيطبخ الريشة؟"
ضابط ويرسم.
ليس هناك ضابط يرسم، إلا إذا كان يرسم على النسوان.
انتظرْتَ طويلاً لتعرف ذلك الذي ستَتبَعه، بعد منتصف الليل بثلاث ساعات جاء.
قلت: "الوقت متأخر!"
"لا علاقة لك يا حضرة الضابط، أنت معنا للتأمين فقط"، قالها بنبرة ناشفة جداً، ثم باستخفاف بدا مقصوداً: "إنه فنان مثل سيادتك، يسهر الليالي ليصطاد النجوم"، وبضحكة نصف هازئة: "ونحن سنصطاده وأنت معنا، ثم إن الفجر ما زال بعيداً، ونحن لسنا زوَّار الفجر يابو قلب حنيِّن".
"البداية كُحلي".
"البيت ليس بعيداً".
حاوَلَ بلؤم أن يدفعكَ لتدقّ جرس البيت، فتكون أنت، بملابس البوليس، أول ما يراه مَنْ يفتح الباب، وتحدث له الصدمة.
تتذكَّر أنك ضغطْتَ الجرس وانتحيتَ بذكاء جانب الباب حين اقتربَ صوت الأقدام، ليكون زميلك بملابسه المدنية، بمواجهة مَنْ يفتح الباب، ثم دخلْتَ خلفه ووجهه يفور بالغضب.
الفنان أمامك، بجسد نحيل، سامق كنخلة من لحم ودم، تخلَّصَ من كل أدران الرغبة إلا رغبته بالفن، بمحبة البشر والحياة، ابتسمْتَ له فرمَقَكَ بعينين باهتتين كأنه فوجئ بالابتسامة.
والضابط يفشخ الأدراج، يعبث بالأوراق، بين ورقة وأخرى ينظر ناحيتك بطرف عين حادة، مغتاظة، يريدكَ أن تكون خلفه، على مقربة، لتكتمل وصلة الرعب، وعلى مَبْعدَة في الوقت نفسه كي لا تقرأ ولا تعرف.
أنت تعرف مشكلة هذا النوع من الضباط، ضباط الجماعة، موقنون أنهم يعرفون أكثر من الضباط العاديين بأزمنة ضوئية، يعتبرونهم جَهَلَة، وأنت موقن أنهم هم الجهلة، لديهم أحكام جاهزة على كل شيء.
بانت الحكاية حين سألَه زميلك: "لماذا تقول لك ابنتك، الله أبهىَ، لماذا لم تعلمها الله أكبر؟"
ثم التفَتَ إليك، وبصوت هازئ قال: "البيه الفنان بهائي.. يعني..
(كان سيقول كافراً، لكنه توقَّع أنى فهمتُ ما يقصد).
تتذكَّر أنكَ تركتَه وابتعدْتَ، رُحْتَ تتأمَّل العود المُعَلَّق على الحائط وسط اللوحات، أُمك كانت تتابع أسبوعياً رسمَتَه الشهيرة في الصفحة الأخيرة من جريدة الأخبار، عرَّفَتْكَ على رسوم فنانين عالميين، لكنكَ كنتَ تتوقف دائمًا عند رسوم هذا الفنان، التي تأخذ روحك برفق.
أنت الآن تقف في قلب بيته.
قلتُ: رأيتُ معظم هذه اللوحات من قبل.
لم يرُدّ، كان صامتًا، لم يبدُ أنه كان متفاجئًا بالزيارة، يقف بالقرب من زميلك، ولا يتحرك من مكانه.
"هذه اللوحة نُشرَتْ في الأخبار، وهذه، وهذه.."، قلتُ.
تحركَ الفنان باتجاهك.
"وهذه في كتاب للأطفال".
تقدَّمَكَ، غمزَتْ السنارة، راح يسوقك داخل البيت، المتحف، وأنت تتحدث عن كل لوحة تقريباً، يرسم وجوها أسوانية أو نوبية مرتاحة، روحها طويلة، ومراكب كثيرة تجري في النيل في اتجاه مفتوح، إلى براح لا نهائي.
تتحدث معه عن البورتريهات، أكثرها لنساء، كان مشهوراً بها، تقول: "هذه كان حظها كبيراً، رسمْتَها أكثر من مرة".
يبتسم كصفحة النيل التي يرسمها.
"وهذا البورتريه.."
"هل يعجبك؟"
"لقد اصطاد روح حبيبتي، الحبيبات يتشابهن في لحظة"
والضابط ينادى عليك بصوت ينفجر منه الغيظ: "لا تتجاوز حدود المأمورية".
وأنت صِرْتَ في دنيا أخرى، حتى عندما نادى على الفنان تلكأ هو الآخر، لم يذهب إلا بعد نداءين ثم عاد إليك، وقال: "يمكنك أن تأخذ هذا البورتريه، أو اسمع، هات حبيبتك وتعال، سأرسمها".
"لا، سآتي وحدي لأرسمك أنا، ثم ترسمني".
لم يسألكَ إنْ كنتَ ترسُم أم لا.
قال: "اِسمع، أنا أرسم مَنْ أُحبهم فقط، اِخلع هذا الزيّ في المرة القادمة".
والضابط لملمَ الأوراق التي اصطاد بهاءها، كل ما فيها أن الفنان بهائي، سبقكَ إلى الباب دون أن يناديك، يبرطم: "ضباط آخر زمن".
تتمشَّى مع الفنان إلى الباب وأنت تُردِّد: "أمانة عليك يا نهار ياللي اسمك بكرا، تشيل الغِلّ من النفوس العكرة".
لم يتخيَّل أنك تحفظ الأبيات القليلة التي كتَبَها، حفظتَها وأنت صغير منشورة مع الرسوم.
وبصوت هادئ مطمئن كأن الضابط لم يزُرْه، صوت ندىّ كأنه صوت الطفل الذي كنتَه، أكمل: "وتخلَّص قلوب الناس من أي نيَّة أو فكرة".
رُحْتُما تقولان معاً: "تخلِّيها تحسد أو تخلِّيها تِكره".
بعد أسبوع:
"أنتَ متهم.. لم تكن مُنضبطاً أثناء المأمورية".
لا، لا، ليس هذا ما حدث، أنا أهذي كالعادة، صواميل مخي انفرطت.
عندما قلتُ له أنى سآتي في وقت آخر لأرسمه ويرسمني، قال لي: "اِخلع الكاب والجاكيت واجلس هنا".
سحبَ الحامل، وضَعَ لوحة بيضاء وراح يرسمني، ينظر ويستغرق.
حين لملمَ الضابط أوراقه نادى علىّ، لم أُجِبه، قفز أمامي وقال بسخرية: "اسم الله عليكم، فنانين مع بعض"، ثم أكملَ بحُرقة: "هيا، انتهت المأمورية".
بهدوء قلت له: "طريق السلامة، اذهب أنت، سأنتظر حتى تكتمل الصورة".
أبو شامة وعلامة.
أنت تتذكَّر ذلك الرجل، ليس عجوزاً، ملامح وجهه اختارت عمراً معيناً وتوقفت عنده، يمكن أن تقول رجل كبير في السن، تلمحه واقفًا على الرصيف ينتظر هدأة السيارات ليَعْبُر، وأنت واقف تؤدي عملك في ميدان التحرير، تحاول أن تجعل المشاة يمرُّون من خطوط المشاة، وأن تتوقف السيارات من تلقاء نفسها عند ظهور الإشارة الحمراء، معك عشرة أمناء وخمسة وخمسون جنديًا، لكنكم لا تستطيعون ضبط حالة المرور، ولا أن تعلموا المشاة.
تترك الكاب الميري، لا تطيقه، تَعبُر للجهة الأخرى، توسع من خطوتك حتى تمسك يده، تشبكها وتَعْبُر به، تتمشَّى معه حتى يدخل مقهاه المعتاد كل يوم، تفعل هذا سِت مرات في الأسبوع، يغيبُ يوماً واحداً فقط.
يُفْلِتُ يدكَ بلطف بالغ، قلت لك ليس عجوزاً، ولا يريد أن يلعب دور الأب.
في انتظاره دائماً رهط من الناس، تتابعه ببصرك حتى ينتهي من تحيَّتِهم، ثم يصعد السلالم وحده إلى الدور العلوي، تتابعه نظراتهم حتى يكاد يختفي.
في تلك اللحظة يتطلَّعون إلى لباسك الميري، يُسدِّدون إليك نظرة غريبة، نصف نظرة على الأرجح، يُطلقونها ويسحبونها، لا تعرف إنْ كانت نظرة ازدراء أم تجاهل.
لحظتها، لحظتها تحديداً، يقف فجأة وينظر تجاهك، يشير بيد ممتنة وابتسامة واسعة تجد صداها على وجوههم، كأنهم يستكثرونها عليك، فتنسحب.
من شَعرهم الهائش، ملابسهم العتيقة، ونظاراتهم بموديلاتها القديمة، تُخَمِّن أنهم كُتَّاب يجلسون في انتظار مقابلته.
هذه المرة قبل أن يدخل المقهى وتعود، تُلوِّح لك حبيبتك على مسافة، فتُلوِّح لها.
"مَنْ هذه؟ صديقتك؟"، يسألك.
"نعم صديقتي، أحاول أن أحفر لها مجرىً للحب تسبح فيه، أن أوسع لها بابًا لتدخل".
"تدخل فيه أم تُدفَن فيه".
ويضحك، يقهقه.
تعرف الناس من أصواتهم، ملامحهم، وملابسهم، أما هذا الرجل فتعرفه من قهقهته.
"سيان يا أستاذ، المهم أن تقع في الشبكة".
تقول بعد تردُّد: "أقول لها أحبك، وهي لا ترُد، تُغيِّر الموضوع، لكنها لا تبتعد عنى".
يجذبني بلطف، يُقرِّب فمه من أذني: "المرأة تحب الرجل الذي يقع بصعوبة في الشبكة، افتح لها الباب، واتركها تدخل أو لا تدخل".
"قرأتُ معظم كتبك، كأنني وصلْتُ لهذا الرأي تقريبًا، لكن قلبي يغلبني".
يُعدِّل من وضع نظارته: "المرأة تعرف الصيَّاد، تختاره، صدِّقني، تختار صيَّادها، وتنصب الشبكة بنفسها، لكنها حين تَسقط تحب أن ترى في عينيك أنك من أسقطتَها، اسمع، حبَّها ولا تشغل بالك بفهمها".
أتوقف في مواجهته وأَحجبها عنه بظهري.
يسألني: لماذا تعطيها ظهرك؟"
"أحيانًا أُغالب قلبي وأفعل، كي تدور وتدور تبحث عن وجهي، تعبتُ وحدي من النظر إلى وجهها، سمعتُ أنك مرشح لجائزة نوبل".
ضحكته تشقُّ الميدان، تكاد توقف السيارات.
"أنا بالكاد مرشح لجائزة نوفل، اسمع، هل تحب عملك؟"
"لا، لكنني أفعله بمتعة تُعوِّض المحبة الغشوم".
"أنت فنان، افعل هذا معها، حتى إذا اختفت يوماً لا تنكسر روحك".
"طريقها نصف مغلق يا أستاذ".
"إنْ كان مُغلقاً افتحه، وإنْ كان مفتوحاً املأه".
كل يوم في نفس الميعاد، يأتي ببدلة سفاري في الصيف، تحتها قميص مع قبعة في الشتاء مُتأبطاً صحيفة، لم يتغيَّر يوماً ولم تنقُص ضحكته، يصعد إلى الدور الثاني، ينادي على النادل، يطلب منه بعد أن يأخذ القهوة أن يصعد واحد من الجالسين، أو اثنان بالاسم.
تريد أن تُخبره كل يوم بما فعَلْت، لكنك تسحب جملتك، هذه المرة انفلَتَ لسانك، قلت: "رسَمْتُ لك صورة يا أستاذ".
يصمت طويلاً، ينظر إليك بتمعُّن:
"بمَن تأثَّرْت؟"
"تأثرتُ بك".
"أنا روائي".
"أنت أفضل ضابط بوليس وأفضل رسَّام.. أستاذ، تفهم الناس، تحكي من أعماقهم عن أعماقهم..".
قهقهتُه قطعَتْ جملتي وفرقعَتْ في الميدان.
"طيِّب، أين هي؟"
مازالت، لم تكتمل بعد.
"من أيّ صورة لي رسمْتَها؟"
"من خيالي، من روحك بروحي، لم أعد أحتاج صوراً، ينقصها شيء واحد فقط".
"لا تُضفه، الفن جميل وهو ناقص".
"كدْتُ أقول إنني قرأتُ له حواراً يقول فيه نفس المعنى، الفن يكتمل بنقصانه".
سرَحْتُ منه، انتبهنا معاً إلى أنني أُحدِّق طويلاً في وجهه.
"قل لي، ماذا ينقصها؟"
"تنقُصُها الشامة يا أستاذ، وأنا أفكر أن أُغَيِّر موضعها في وجهك؟"
رقْصَة الأصبع الصغير.
"بإصبعي الصغير في رجلي الشمال، أستطيع أن أُرسلكَ وراء الشمس".
الغضب الذي انفجر من ملامحها، والوعيد الذي احتشد في نبرة صوتها لم يُنقِص من حلاوتها، خاصة حين أكملتْ ورفعَتْ ذراعها في الهواء فشخللتْ أساورها.
ورغم أنكَ فوجئتَ برَدّ الفعل العنيف إلا أنك ابتسمتَ كأنها قالت لك: "أنت وسيم".
كمين ليلى، بعد منتصف الليل بأربع ساعات تقريباً، عند مُفترق طرق يؤدي إلى المنطقة الحساسة، منطقة سفارة أميركا، وسفارة بريطانيا التي تواجهها تقريباً.
أنت ضابط حديث العهد بالخدمة، بالكاد سنتين، على حافة الإرهاق، واقف على قدميك منذ ساعات، تطرد النوم الذي يهاجم جفونك، تطارده بقوة كأنك تطرد كلباً أجرب حتى لا يفكر في الاقتراب منك مرة أخرى، معك في قلب الليلة ضابط مباحث حديث أيضاً، يختفي في سيارة على مقربة من الكمين ليرتاح بعد يوم عمل طويل، ربتَ على كتفك قبل أن يغمض عينيه: "البركة فيك، الليلة ليلتك والسهرة سهرتك".
قبل أن تُسارِع بالردّ قال وهو يتثاءب: "لا أحد مستيقظ في هذه المدينة الآن غير البوليس والكلاب".
واستدار.
"والراقصات أيضاً".
معك في الكمين بضعة جنود أغلب من الغُلب، أكلَتْ الأيام عليهم وتقيأتْ، وبضعة أمناء، تُدقِّق في رخص السيارات، والسيارات نفسها كيفما اتفق، كل واحد وحدْسه، وكل أمين شرطة ومزاجه.
والسيارات تمُرُّ، أنت تُفسح للعائدين من أعمالهم مُنهَكين، والذين سهروا الليل وصعدوا فيه، حين تقوم بإيقاف سيارة، فأنت لا تتوقف عند أشياء صغيرة يناكف بها بعض الضباط أصحاب السيارات لاستعراض سلطتهم وإثبات وجودهم على قفا عباد الله.
كنت تعرف أن لك اسماً حركياً كما لمعظم الضباط، عادة توارثوها منذ كانوا طلبة في الكلية، حين كانوا يطلقون على الضباط أسماء حركية، لا أحد يعرف اسمه، يعرفه الآخرون فقط.
قلتَ لها: الرُّخَصْ من فضلِك".
نظرَتْ إليك نظرة لائمة باستهجان وقلّبَت شفتيها، كأنها تستنكر أنك تجرأتَ وطلبتَ منها.
"ألا تعرفني؟"
"نعم أعرفك".
أكملَتْ نظرتها اللائمة، هذه المرة باستعلاء واضح، راحت تُفتش في حقيبة يدها عن أوراقها، وتُقلِّب الشماسات أعلى الزجاج، فيما كنتَ تختلس بعينيك ما يظهر حول ربع الفستان الأزرق الذي تكاد ترتديه.
تعرف جيداً أنها الساعة التي يعود فيها المطربون بعد أن أنهوا فقراتهم، والراقصات أيضاً وتعرف أن هناك نوعاً من الضباط عنده هوى أن يستوقفهم، أو يستوقفهن، حتى يُقال عنه فقط أنه استوقف المطرب الفلاني أو الراقصة الشهيرة، تعرف أن هناك نوعاً آخر يهوى الراقصات بالتحديد، ربما ليطمئن على أحوال الرقص والراقصات في البلاد، أياً كانت درجة أولى أو راقصة درجة عاشرة، هناك حالة من اللبونة والميوعة الطازجة الساخنة، بحركة ملامح وجوههن وطرقعة الكلام على ألسنتهن وألفاظهن التي تُذيب الحديد، ولا تعرف من أين يخترعنه بالضبط.
تتذكَّر جيداً أنك تفحصْتَ الرُّخَص، وهي تمُدُّ يدها باستعجال خارج الزجاج لالتقاطها، وأنها بوغِتَتْ ونظرَتْ بسخرية مُرَّة حين قلت لها: "افتحي الشنطة من فضلك".
وأنها بصوت مرقوع: قالت "والشنطة أيضاً!"، وأكمَلَتْ وهي تضغط الزِرّ: "ألا تعرف أنني.."
وأنت تركتَها وابتعدْت، سمعتَها تهذي، تكاد تصرخ، والأمناء تَحلَّقوا حولك، لا من أجل صياحها بالطبع، بل للُفُرجة على جسدها، فزَجَرْتَ أنت الجميع لأول مرة: "كل واحد يرجع مكانه"، فقط انتقيتَ واحداً يقف معك حتى لا تتهوَّر هي وتقول إن شيئاً اختفى، وحين انتهيتَ من تفتيش الشنطة الخلفية وأقفلتَها غمزْتَ للأمين أن يعود لمكانه، كانت قد ترجَّلَتْ من سيارتها، وبانت شنطتها الخلفية بقوة أيضاً أسفل نهاية الربع فستان المبجل، الذي راق لك لونه وموديله، بالنقاط البيضاء التي تلمع كالنجوم في قاعه، كدتَ تقول لها إنَّ هذا التصميم ليس من صُنْع عامل أو آلة، ولابد أن فناناً تشكيلياً قد صمَّمه، وأخذ ألوانه من جناح فراشة.
ولولا أن الموقف لا يحتمل لقلتَ لها إن الوشاح الخفيف الذي يتألق فوق الرقبة، ويدور ليقسم الكتف نصفين هو عمل فنان أيضاً، وربما أخذوا لونه من لون وردة مثلِك.
كنت ستقول لولا أنك تتوقَّع رداً قوياً بسبب غضبها الواضح: "نعم يا روح أمك"، أو تقول بقرف: "طول الليل تعبانة، شوف حَدّ غيري تشتغله".
اقتربتْ منك بغضب زادها جمالاً، وبعصبية واضحة: "أول مرة تِحصَل لي في مصر، أن يفتش أحد سيارتي".
المشهد أمامك كأنك تراه الآن: تُقدِّم لها الرُّخَص بأدب وبحزم، واقفة تعطيك جانبها، لا تواجهك، تُعبِّر عن اشمئزازها بطريقتها، فتقول لها: "اتفضلي حضرتك، الحمد لله أنها وقفت لحد هنا.
تتذكَّر أنها ابتلعتْ بسرعة ضحكة ماجنة ونظرَتْ لعينيك، ثم عادت تقلب فستانها كأنها تراه لأول مرة: "هل أعجبك الفستان؟"
"وصاحبته".
وأنها اقتربتْ أكثر، أصبحَتْ بمواجهتك تماماً، وبصوت لا يسمعه سواكما: "هل تعرف أنني فعلاً يمكن أن أرسلك وراء الشمس، أو أنقلك للصعيد قبل أن تصحو من النوم".
وأنك ابتسمتَ، وكِدتَ تؤجِّل ردَّك لولا أنك لمحتَ ضابط المباحث يخرج من سيارته بعينين متعطشتين، ورغبة أن يُحقِّق الموضوع بنفسه.
"وبإصبع قدمي الصغير في رجلي الشمال.. عملتها من قبل".
قلتُ لها: "ما رأيك أن نُغيِّر الموضوع هذه المرة، وتنقليني بإصبع قدمك الصغير في الرجل اليمين إلى المباحث"؟
كنتُ أمزح، دمي محقون بشياطين أخرى.
ابتسمَتْ، وغمرتْكَ بنظرة حانية هذه المرة، نظرة مندهشة، تجاهَلَتْ ضابط المباحث القادم وهو يفرك عينيه.
وانطلَقَتْ.
بعد أسبوع واحد، وجدْتَ نفسك ضابطاً في المباحث.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.