إيمان سند لم أستطع البوح أنك آتٍ من القمر.. وأنك ستعود إليه وتتركني أنتظر.. أتطلع إلي رؤياك… أتمني أن تطل.. تراني.. تنزل إلي أرضي، كما نزلت من قبل… هل كان حلماً..؟!… أم كنت معي بالفعل؟.. كنا نتجول سوياً… ندخل المحال، نبتاع أي شئ، وكل شئ… أشياء صغيرة تعجبنا، لا نفكر في حاجتنا إليها، بقدر ما نفكر في جمالها الذاتي. تمتد يدي، ويدك في الوقت ذاته، تجذب نفس الشمعة من بين آلاف الشموع، أقول لك: هي شمعتنا، تهمس لي: بل أنت الشمعة التي أنارت طريقي… هل مازلت أنير طريقك؟ أم أنك ضللت الطريق، فلا تستطيع العودة إليَ.. نسير أمتاراً.. تمتد يدانا إلي شئ آخر جديد، ننطق نفس الكلمات سوياً، نشير إلي نفس الشجرة في الطريق، نقول معاً: "تبدو مختلفة"… نلمح من بعيد قطة بيضاء؛ ولكنها متسخة، وحزينة… نحكي معاً قصتها، نتخيلها : كانت في معركة من أجل حبها خرجت منها مهزومة، وباتت ليلها مسهدة… أسألك: – هل هي جريحة؟ تجيبني: _ أري قلبها ينزف….. لو رأيتني اليوم لوجدتني مثلها… يمر الوقت معك، لا أعرف هل هو ليل أم نهار… أو كيف تمر الساعات، فحديثنا لا ينقطع.. ولا يتوقف.. أحاول تذكر كلمة أريد أن أسر بها إليك، فلا تأتيني إلا بعد مغادرتك للمكان.. تمد يدك لتصافحني.. وبعدها، أحتار أيهما يدي لأسحبها. هل اعتصرك الشوق يوماً يا رجل القمر.. حتى أحسست بالحزن شبحاً جاسماً فوق صدرك، لا يبرحه… أشعر بذلك من يوم أن فارقتني، ومع ذلك فأنا أحب هذا الحزن، لأنه قرين بشوقي إليك. هل هاجمتك دموعك في كل المواقف علي السواء، حتى السارة منها؟….. لقد هاجمتني، حتى بت لا أستطيع لها تفسيراً، ولا أستطيع كبحها… إنها دموع غزيرة، مالحة، كل قطرة منها تناديك أن عُد إليَ… من يوم أن ابتعدت، وهي تسيل حتى أوشكت أن تصنع نهراً كنهر إيزيس… فإن وعدتني أن تبحر في نهري هذا يوماً فسأملأه لك، حتى وإن كان آخر ما تراه عيناي… ولكني أعرف أنك تخاف الماء… أعرف ذلك.. تتغزل فيه من بعيد عندما تنعكس عليه أضواء القمر، وتكتفي بذلك… كما تكتفي بأن تتغزل في… تقول: إنني أجمل النساء… ما عدت كذلك منذ أن تركتني… ولو كنت كذلك فلماذا تركتني؟… تقول إنك تسمع صوتي في منامك؟ … ألا يوقظك صوتي الآن؟ ويجعلك تترك هذا القمر إنه صخور، وأحجار، هو ليس مضيئاً مثلي… هو صامت أجوف، لقد ترك مدار الأرض، وانفصل عنها، ولم يعد هناك شئ يربطنا به، ألا تتركه وتعود إلي أرضي الرحبة الغنية، العطشى إلي لقياك؟ هل أحدثك عن الأطياف والأشباح التي أراها كل يوم؟… إنهم أشخاص يعبرونني… يأتون إلي عالمي… يتحدثون إليً… ولكني أقسم لك… لا أتبين ملامحهم… هل تصدقني إن قلت لك أني لا أعرفهم جميعاً.. كلهم يعيشون في عالم حقيقي، لا أثر للوهم فيه، ولكني أنا لست بينهم.. أنا أعيش معك، في عالمك أنت.. حين ترحل تأخذ روحي معك، فلا يتبقي مني سوي جسد واهن، يشغل حيزاً مكانياً، ولكنه أبداً لا يَري، ولا يَسمع، ولا يشعر بهم… فيتحولون إلي أشباح وظيفتها الوحيدة هي تذكيري بك… فأستحثك أن تعود إليَ من جديد، لأن عودتك هي عودة للروح. كل الأشياء بلا معني من دونك… أرجوك عد لتعد للأشياء معانيها… فمعك يصبح الكون بديعاً.. رشيقاً، تزدهر ثماره، وتتفتح زهوره كل ساعة، بل كل ثانية… معك أري شعاع الشمس في المساء، وضوء القمر في الصباح، أري الأشجار تنافس النخل في الطول… أري حزني يتبدد… أسمع ضحكاتي تتوالي، وكأني إنسانة جديدة، طفلة وُلدت علي يديك أنت فقط، فلمن تترك مولودك؟… بل أنت طفلي الصغير، وأنا أمك… أشتاق إليك… وأحس بلوعة فراقك، وكأنهم انتزعوك لتوهم من أحشائي… فأحشائي تئن من الفراغ، والألم… هل تعلم أني أتشمم في الجو رائحتك… تظل أنفي تبحث عن عبيرك في كل الأشياء، وعندما تيأس… تستكين، وتستسلم، وتعود إليَ منكسرة.. حزينة.. ألا يمكنك أن تترك بعض عبيرك علي الأرض قبل الرحيل؟!… أو قبس من ضياك لينير ليالي المعتمة من دونك… فأنا لا أحب القمر.. ولا أنتظر ضياءه، بل ضياءك أنت فقط، الذي يشع من عينيك الساحرتين… حين تتركني وترحل أفقد هويتي، فأنت بيتي، وملاذي… من دونك ليس لي عنوان.. بدونك أنا هائمة.. أتلمس وجهك في كل الوجوه، وملامحك في كل الكائنات، وصوتك العذب الشجي في صوت النسيم، وخرير المياه، وتغريد البلابل… أسمع صوتك يناديني: يا مليكتي… فلمن تترك مملكتك، وشعبك الطائع، المحب، الأسير لديك؟… أنا لا أريد عرشاً، أو تاجاً، أو ملكاً، أريدك أنت فقط… تشع حرارة في ليالي الباردة، وتملأ أيامي بصخبك الطفولي اللذيذ… حين أصحو من نومي أجدك تشغل كل تفكيري، وأجدني في غاية الشوق إليك… فأستحضرك رغماً عنك، أستشيرك في كل أموري… أسألك وتجيبني.. أقص عليك كل حكاياتي التي تعرفها، والتي لا تعرفها… أحكي لك عن أشخاص ما رأيتهم قط، وأسألك عنهم… أسمعك وأنت تردد: الحل هو القمقم.. ليس لكِ حل سواه… سأضعكِ في هذا القمقم الجميل فلا يراكِ أحد سواى… أنا لا أطيق أن ينظر إليكِ غيري…ألا تغار عليَ اليوم يا رجل القمر؟… أم أنك تراقبني من كوكبك ؟… وأنت واثق أني لا أهتم بسواك، ولا أري غيرك… ولا يلفني وجود إلا وجودك… فوجودك يعم المكان بالضياء، والبهجة، وجودك يملؤني بالسلام… يشعرني بالأمان وبالرضي… يجعلني أحس أني مازلت أحيا، وأشكر ربي علي نعمة الحياة… هل تذكر لهونا في المطر كالأطفال؟… ومشينا لساعات طويلة نبحث عن نكهة أيس كريم مختلفة؟…. ودائماً ما تسأل عن أنواع عجيبة منها، فتلاقي استنكاراً… فأفسر لهم: هو آتٍ من بلادٍ حارةٍ بعيدة… لذا يحب كل الأنواع الغريبة… ولا أستطيع البوح بأنك آتٍ من القمر، وأنك ستعود إليه، وتتركني أنتظر.