نصل إلي الخلاصة في حديثنا عن النسخ في الشرائع السابقة. فنقول وبالله التوفيق: عُلم من هذه الأمثلة الثلاثة الأخيرة - أعني من الثامن إلي العاشر- أن نسخ أحكام الإنجيل واقع بالفعل فضلا عن الإمكان. حيث نسخ عيسي "بعض حكمه بحكمه الآخر. ونسخ الحواريون بعض أحكامه بأحكامهم. ونسخ بولس بعض أحكام الحواريين. بل بعض قول عيسي" بأحكامه وقوله. وظهر لك أن ما نقل عن المسيح "في الآية الخامسة والثلاثين من الباب الرابع والعشرين من إنجيل متي. والآية الثالثة والثلاثين من الباب الحادي والعشرين من إنجيل لوقا. ليس المراد به أن قولا من أقوالي وحكما من أحكامي لا ينسخ وألا يلزم تكذيب إنجيلهم. بل المراد بقوله كلامي هو الكلام المعهود الذي أخبر عن الحادثات التي تقع بعده. وهي مذكورة قبل هذا القول في الإنجيلين. فالإضافة في قوله: كلامي للعهد لا للاستغراق. وحمل مفسروهم أيضا هذا القول علي ما قلت في تفسير دوالي ورجرد مينت في ذيل شرح عبارة إنجيل متي هكذا: "قال القسيس بيروس: مراده أنه تقع الأمور التي أخبرت بها يقينا. وقال دين استاين هوب: إن السماء والأرض وإن كانتا غير قابلتين للتبديل بالنسبة إلي الأشياء الأخر لكنهما ليستا بمحكمتين مثل إحكام إخباري بالأمور التي أخبرت بها. فتلك كلها تزول وإخباري بالأمور التي أخبرت بها لا تزول. بل القول الذي قلته الآن لا يتجاوز شيء عن مطلبه" فالاستدلال بهذا القول ضعيف جدا. والقول المذكور هكذا: "السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا تزول". وإذا عرفت أمثلة القسمين ما بقي لك شك من وقوع النسخ بكلا قسميه في الشريعة الموسوية والعيسوية. وظهر أن ما يدعيه أهل الكتاب من امتناع النسخ باطل لا ريب فيه. فكيف لا وإن المصالح قد تختلف باختلاف الزمان والمكان والمكلفين. فبعض الأحكام يكون مقدورا للمكلفين في بعض الأوقات ولا يكون مقدورا في بعض آخر. ويكون البعض مناسبا لبعض المكلفين دون بعض. ألا تري أن المسيح قال مخاطبا للحواريين: "إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم لا تستطيعون الآن أن تحتملوا. وأما متي جاء ذلك. روح الحق فهو يرشدكم إلي جميع الحق" كما هو مصرح به في الباب السادس عشر من إنجيل يوحنا. وقال للأبرص الذي شفاه: "لا تخبر عن هذا الحال أحدا عما كان". كما هو مصرح به في الباب الثامن من إنجيل لوقا. وأمر اللذين فتح أعينهما: "لا تخبرا أحدا عن هذا الحال". كما هو مصرح به في الباب التاسع من إنجيل متي. وقال لأبوي الصبية التي أحياها: "لا تخبرا أحدا عما كان". كما هو مصرح به في الباب الثامن من إنجيل لوقا. وأمر الذي أخرج الشياطين منه بأن "ارجع إلي بيتك وأخبر بما صنع الله بك". كما هو مصرح به في الباب المذكور. وقد علمت في المثال السادس والثامن من أمثلة القسم الأول. وفي المثال الرابع من أمثلة القسم الثاني ما يناسب هذا المقام. وكذلك ما أُمر بنو إسرائيل بالجهاد علي الكفار ماداموا في مصر وأُمروا بعد ما خرجوا. وختاماً أقول لجهلاء الفضائيات: ليس بعد الحق إلا الضلال. وللحديث بقية.