إن الأزمات والنكبات السياسية والاقتصادية والتعليمية والصحية تهون أمام أزمة واحدة يحلو للبعض أن يسميها باسم ¢ الأزمة الطائفية ¢. هذه الأزمة التي لا يؤججها إلا التصريحات الاستفزازية من قبل بعض المنتسبين والمنسوبين للدين في الجانبين . والتي انتشرت بصورة لافتة في مصر مؤخرا. الأمر الذي دعاني إلي ضرورة الاستدلال بالكتاب والسنة "وهما يمثلان صحيح الإسلام وصريحه" حتي نضع هؤلاء بتشددهم وجها لوجه أمام الشريعة الإسلامية برحابتها . أبدأ أولا بسرد الأدلة علي مشروعية تهنئة المسيحيين بأعيادهم وهي كثيرة منها : قوله تعالي: "وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةي فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ للَّهَ كَانَ عَلَي كُلِّ شَيْءي حَسِيباً " النساء 86 . ووجه الدلالة أنه إذا كان الأخوة المسيحيون يهنئوننا في أعيادنا فحقهم علينا بنص القرآن أن نهنئهم بأحسن من تهنئتهم لنا . بمعني أنهم إذا هاتفونا فقط ذهبنا نحن إليهم . وإذا جاءوا إلينا بدون هدية ذهبنا نحن لهم بهدية . أو علي الأقل رد التحية كما جاءت منهم . والآية عامة تشمل المسلم وغير المسلم . كما أن الأمر فيها صريح . وهو يفيد الوجوب كما قرر الأصوليون. وأيضا قوله تعالي :"وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً " البقرة 83 . فكلمة الناس عامة تشمل المسلم وغير المسلم . والقول الحسن له صور كثيرة أبرزها التهنئة . ومن ثم فالآية عامة وصريحة في مشروعية تهنئة المسيحيين بأعيادهم . كذلك قوله تعالي: "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ " الممتحنة 8 . فهؤلاء لم يقاتلونا في الدين ولم يخرجونا من ديارنا بل هم شركاء لنا في الوطن . وحقهم بنص القرآن أن نبرهم ونقسط إليهم . والسؤال : أليس من البر الذي هو جماع الخير تهنئتهم بأعيادهم وأفراحهم ومواساتهم في آلامهم وأحزانهم . وقوله تعالي : "وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلّى لَّكُمْ " المائدة 5 . فالإسلام يدعو إلي التعايش بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب المسالمين الملتزمين بقواعد الدولة وقوانينها . ولهذا أباح الله طعام أهل الكتاب لنا وطعامنا لهم . فإذا كان مباحا لنا تبادل الإطعام والبر بكل صوره وأشكاله فهل يعقل أن يبيح لنا الدين كل هذا ويحرم مجرد التهنئة؟! كذلك قوله تعالي : " وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَاني "المائدة 5 . فالإسلام أباح للمسلم أن يتزوج الكتابية . وأمره بحسن المعاشرة فقال "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ " النساء 19 . والسؤال : هل يعقل أن يبيح الدين كلا من الزواج والطعام والقيام والنوم والإنجاب منها ويحرم مجرد التهنئة؟! كذلك أقاربها الذين هم أصهار الإنسان . يشاركهم العمل مثلا ويتناوب علي زيارتهم وبرهم فإذا جاء عيدهم هجرهم . والإسلام أباح للمسلم أن يوصي بثلث ماله لغير المسلم . والسؤال : هل يبيح للإنسان أن يعطيه من ماله ولا يبيح له أن يهنئه بعيده؟! ثانيا : حجة المنكرين المخالفين: تكمن في قولهم أن مجرد التهنئة إقرار بشرعية أعياده التي تخالف صريح دينك . ويجاب علي ذلك بأمرين . أولهما: أن التهنئة ليست إقرار بأمر يخالف عقيدتي فنحن نؤمن بقول الله تعالي " وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ " بل هي من باب الترابط الإجتماعي . وثانيهما: إذا كنتم تقولون أن مجرد التهنئة إقرار بأمر يفضي إلي الكفر . فما قولكم بما حدث بين النبي ووفد نصاري نجران حين جاء وقت صلاتهم فصلوا في المسجد النبوي تجاه المشرق بإقرار من النبي الكريم صلي الله عليه وسلم الذي قال : " دعوهم " . هل صلاتهم في مسجد النبي وبإقرار النبي وعلي مرأي ومسمع من النبي إقرار بشرعية ما يقولون في صلاتهم؟! ثم ما قولكم في هذا الحديث الشريف :عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْري -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةى. فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم . قُلْتُ: إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ. وَهِيَ رَاغِبَةى أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ : " نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ". هل قول النبي لأسماء: صلي أمك مع كفرها إقرار بصحة كفرها؟! إذا لا علاقة البتة بين التهنئة والإقرار بشئ يخالف العقيدة. وبناء علي ما سبق فأري أن التهنئة تدور بين أمرين هما الوجوب والاستحباب .هذا قليل . وتعلمنا أن المنصف يكتفي بالقليل . والمتنطع لا ينفعه الكثير!