نواصل حديثنا عن مذهب الخلف فنقول :إنهم اضطروا أمام الشبهات التي أثيرت في أيامهم من المجسّمة والمشبّهة الذين يقولون إننا لا نعقل معني اليد إلا بما نشاهده من الجوارح في المخلوقات وإذن فالله عندهم له جسم مثلنا وله جوارح كجوارحنا. وهؤلاء قد ضلوا وكفروا- كما سبق بيانه لأن الله صرح بأنه ليس كمثله شيء- اضطر الخلف إزاء هذه الظروف أن يلجأوا إلي استعمال العرب لهذه الجوارح في الأساليب الفصيحة فوجدوا أن اللغة تعبر عن الكل بالجزء الأهم. ويشيع فيها استعمال المجاز. وبما أن القرآن والسنة قد حفلا بأساليب المجاز- في غير مجال الذات- مثل وصف القرآن الجدار بأن له إرادة في قوله تعالي: "فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ" "الكهف:77". ومثل وصف النبي صلي الله عليه وسلم للمعطي بأن يده هي العليا في مثل قوله: "الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرى مِنَ الْيَدِ السّفْلَيَ" صحيح البخاري- كتاب الزكاة- باب لا صدقة إلا عن ظهر غني. صحيح مسلم - كتاب الزكاة- باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلي. مسند الإمام أحمد- مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب. معجم الطبراني- باب الحاء- عروة بن الزبير عن حكيم بن حزام بن خويلد. سنن أبي داود- كتاب الزكاة- باب في الاستعفاف. سنن النسائي- باب أيتهما اليد العليا؟ اليد السفلي. فلا مانع أن ينسحب المجاز علي مجال الذات والصفات الخبرية فإذا قال الله: "وَيَبْقَي وَجْهُ رَبِّكَ" "الرحمن:27" فالمعني تبقي ذات ربك» إذ لا يعقل أن يبقي الوجه وحده حملاً علي القاعدة البلاغية في التعبير عن الكل بالجزء. وإذا قال الله "الرَّحْمَنُ عَلَي الْعَرْشِ اسْتَوَي" "طه:5". فالمعني أنه استولي وهيمن. إذ لا يعقل أنه قعد علي العرش. فالقعود صفة الحوادث والمخلوقات وهكذا سار الخلف إلي هذا النمط في فهم الآيات المتشابهات. ووجهوا الآية التي سبق ذكرها في ضرورة التفويض بأن الواو التي بين لفظ الجلالة والراسخين في العلم للعطف لا للاستئناف. أي أن الله يعلم تأويل المتشابهات وأن الراسخين في العلم يعلمون ذلك أيضًا من حيث إن هذا القرآن قد نزل بلسان عربي مبين. يعقله العالمون والراسخون وانبني ذلك علي أن معني التأويل في الآية هو التفسير والبيان لا ما يؤول إليه أمر القرآن.وجه الاتفاق بين السلف والخلف: بمزيد من التأمل نري ويري الشيخ السبكي أن علماء الأمة جميعًا سلفها وخلفها قد اتفقوا علي صرف اللفظ عن معناه الحسي» إيمانًا بأنه ليس كمثله شيء. غاية ما في الأمر أن السلف يفوض المعني لله. والخلف يحمل المعني علي المجاز الوارد في الأساليب الفصيحة وأن الجميع ينزهون الله عن صفات الحوادث ويثبتون له كل كمال يليق بذاته. وينفون عنه كل نقص. علي أن الإمام السبكي قد اختار مذهب السلف لأنه أسلم وأحوط كما ذهب إلي ذلك المحققون المتأخرون من أمثال الإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم» لأن قاعدة المجاز في اللغة تقتضي معرفة الحقيقة قبل أن ننتقل إلي المعني المجازي. كما إذا وصفت إنسانًا بأنه أسد فلابد من معرفة حقيقة الأسد وتميزه بالشجاعة قبل أن تنتقل من هذا الوصف للأسد لتضعه علي الإنسان. ثم إنها مجازفة حين نحدد المعني المقصود من هذه الألفاظ إذ قد يكون لها معني أوسع أو معني مغاير. ومع اختياره لمذهب السلف لم يحكم علي الخلف. بالابتداع أو بالفسق أو بالكفر حيث إنهم ينزهون الله عن صفات الحوادث كالسلف تماما.