يجد قارئ القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة أن فيهما بعض النصوص التي يشعر ظاهرها بإثبات الجهة أو الجسمية أو الصورة أو الجوارح لله سبحانه وتعالي. وهذه النصوص تعد من المتشابه الذي استأثر الله تعالي بعلمه, ويجب علي المسلم في مثل هذه النصوص ألا يفكر في معانيها ولوازمها, كما يجب عليه في نفس الوقت أن يفوض علمها لله تعالي; وقد ذم الله تعالي من يتبع المتشابه من النصوص; حيث قال تعالي:] هوالذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أمالكتاب وأخر متشابهات فأماالذين فيقلوبهم زيغ فيتبعون ماتشابه منه ابتغاءالفتنة وابتغاء تأويله ومايعلم تأويلهإ لاالله والراسخون في العلم يقولون آمنابه كل من عند ربنا ومايذكر إلا أولوالألباب],آل عمران:7] ولم يترك الله تعالي المسلم هكذا بل بين له السبيل الواضح الذي ينبغي عليه أن يتبعه إذا مر علي مثل هذه المواطن; حيث أمره بأن يلجأ إليه, ولا يفكر فيها حيث قال تعالي بعد الآية السابقة:]ربنا لاتزغ قلوبنابعدإذهديتناوهب لنامن لدنك رحمة إنك أنت الوهاب], آل عمران:8]. والتفكر في هذه الأمور يعد من التفكر في ذات الله تعالي, والذي وعد النبي صلي الله عليه وسلم فاعله بالهلاك في قوله:تفكروافيخلق الله, ولاتفكروافي الله فتهلكوا, رواه أبو الشيخ الأصبهاني في العظمة]. والأدلة السابقة وغيرها تؤكد منهج السلف الثابت المستقر في التعامل مع مثل هذه النصوص, وهو منقول عنهم من علماء الأمة علي مر العصور جيلا بعد جيل.ومنهج السلف ومن بعدهم من المحققين من العلماء في تلقي النصوص التي يوهم ظاهرها تشبيه الخالق بالخلق أن تؤول, بمعني: أن تحمل علي خلاف الظاهر, أو تفوض, أي: يفوض المراد من النص الموهم إليه تعالي, ويجب مع التأويل أو التفويض قصد التنزيه لله تعالي عما لا يليق به. ولنضرب مثالا في بيان هذا المنهج حتي يتضح الكلام, فهم يقولون في نحو قوله تعالي:] يدالله فوق أيديهم],سورة الفتح:10]: المراد منها أن قدرته وقوته فوقهم ومحيطة بهم,وليس المراد منها الجارحة, والتأويل هنا ليس بمستغرب; فأنت كمخلوق إذا استحال أن تعرف نفسك بكيفية أو مكان, فكيف يليق بعبوديتك أن تصف الله تعالي ب أين أو كيف, وهو مقدس عن ذلك؟! فالله عز وجل منزه عن الكيفية والكمية والأينية; لأن من لا مثل له لا يمكن أن يقال فيه: كيف هو؟ ومن لا عدد له لا يقال فيه: كم هو؟... ومن لا أول له لا يقال له: ممن كان؟... ومن لا مكان له لا يقال فيه: أين كان؟ وليخاطب المسلم عقله ويتدبر في كلام الله تعالي; فإنما أمرنا بالتفكر والتأمل والتدبر في آياته; فإن فعل ذلك فسيجد أن مذهب أهل السنة والجماعة من الأشاعرة والماتريديةالناقلين والمدافعين عن منهج السلف علي مر القرون والعصور- الذي ذكرناه آنفا هو الحق, ويرحم الله الإمام الغزالي حيث يقول: من أخذ علمه من العبارات والألفاظ ضل ضلالا بعيدا, ومن رجع إلي العقل استقام أمره, وصلح دينه, ومن أشكل عليه أمر فعليه الرجوع إلي أهله; ليستبين له الحق. إن معرفة حقيقة الله تعالي والوقوف علي كنهه هو من أول المحالات, فإنه ليس بين خلقه وبينه أي مشابهة ولا مناسبة, قال تعالي:] ليس كمثله شيءوهوالسميع البصير],الشوري:11], فكيف يمكن أن تحيط به العقول, وهي لا تحيط إلا بما شاركها في شيء مما هو حادث مثلها. فهو تعالي بكل شيء محيط, ولا يحيطون به علما. وإنما غاية ما نعلم منه تعالي وجوده وتنزيهه عن صفات المخلوقات, فإنه سبحانه تجب مخالفته تعالي للحوادث; لأنه لو ماثلها في شيء لكان حادثا مثلها وهو محال عليه تعالي. وما يجب علي المسلم في ذلك إلا أن يعمل عقله ولسانه فيما ينفعه; فيعمل عقله في التفكر في آلاء الله تعالي وأفعاله, ويشغل لسانه بذكر الله تعالي لما يري في كل وقت وحين من آيات باهرات,ومن إبداعه سبحانه في الأرض والسموات مما يدل علي أن الله تعالي خالقأحد فرد صمد لا تحيط به الظنون ولا تحويه الفهوم.فاللهم ارزقنا حسن النظر فيما يرضيك عنا, ووفقنا لما تحبه في التعامل مع ذاتك وصفاتك بما يحققنا بالفهم الصحيح الموروث عن أشياخنا. المزيد من مقالات د. علي جمعة