الجدل في مصر طال كل مناحي الحياة ولم تعد هناك قضية تبتعد عن التوظيف السياسي .. ويزيد الطين بلة حين تكون المواقف والآراء ليست خاضعة للمصلحة العليا للوطن والناس وانما لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة والنيل من الخصوم والمتنافسين. وربما تكون الضجة المفتعلة التي أثارتها فتاوي تهنئة المسيحيين في أعيادهم هي آخر القضايا التي تم توظيفها سياسيا بطريقة تتنافي مع مصلحة مصر وبما يضر بالنسيج الاجتماعي والوطني. وبعيدا عن الرأي الديني والشرعي لأن ما يعنينا هنا مسألة التوظيف السياسي لهذه القضية وخاصة محاولة استغلال الدين واستخدامه لتمرير أهداف وحسابات سياسية ضد الخصوم السياسيين. والذي دفع المسألة وطرحها الي بؤرة الضوء التناقض الذي ظهر في مواقف بعض الشخصيات والتيارات السياسية التي لم تعي خطورة العبث بالورقة الطائفية وانعكاس استخدام الفتاوي في الصراع السياسي علي الدين نفسه. صحيح أن القضية قديمة وعقيمة لكن خطورتها تكمن أيضا في تعمد تضليل الناس من خلال اللعب علي العاطفة الدينية لديهم وخلط الأوراق والوصاية باسم الدين في موضوعات تخضع لإجتهادات البشر وتحريمها مرة وتحليلها أخري حسب المصلحة السياسية مما يدخل المجتمع في دوامة تستهلك طاقته وتبدد قدرته علي التقدم. في البداية حذر الدكتور أحمد محمود كريمة. أستاذ الشريعة الاسلامية بكلية الدراسات الاسلامية -جامعة الازهر. من الخلط بين العمل السياسي والإسلام والتجارة بالدين لتحقيق مكاسب حزبية أو سياسية. لأن استخدام الدين في التجاذبات السياسية يعيدنا إلي القرون الوسطي ويجرنا للعنف الفكري والمسلح والغلو والتشدد وهذا ما كان يقوم به باباوات الكنيسة في القرون الوسطي. واستغلال ورقة الدين حسب الأهواء يجرنا الي معارك طاحنة. والتاريخ يؤكد أن الخوارج استخدموا الشعارات الدينية لأغراض سياسية ضد الامام علي- كرم الله وجهه- حينما قالوا:¢ إن الحكم لله وليس لك يا علي ¢. وقال الدكتور كريمة :إن الفتاوي المسيسة تجافي الشرع وتناهض الأخلاق لأنها عبث بآيات الله تعالي. واتهم التيارات الاسلامية بأنها السبب في وجود هذه الظاهرة بمحاولتهم كسب الساحة من خلال المنابر والفضائيات التي تنشر المفاهيم المغلوطة والأفكار الخاطئة من غير الراسخين في العلم. وشدد الدكتور كريمة علي ضرورة مقاومة فكرة استغلال الشرع في السياسة وخدمة المصالح الحزبية وتصفية الحسبات بين السياسيين. لهذا فإنني اطالب بتقوية دور الأزهر وعدم تهميش العلماء الراسخين وتحريم الإفتاء في دين الله بغير علم وفضح كل من يتجرأ علي الشرع وانشاء قناة فضائية تعرض صحيح الإسلام بعيدة عن المذاهب الاعتقادية والفقهية وبعيدة عن الشأن السياسي مستقلة استقلالا تاما بشرط أن يقوم عليها علماء مخلصون لا يبغون شهرة ولا ثراء وأن يكونوا متبوعين لا تابعين. تأثيرات سلبية أكد الدكتور محمد أبو ليلة. الاستاذ بجامعة الازهر. أن الفتاوي المسيسة تكون خارجة عن الإجماع وتؤثر بشكل سلبي في وعي الناس وتزرع الريبة والغموض في المجتمعات لأنها تعتمد علي منهج منحرف وتستبيح بعض الأمور تحت غطاء الدينوقال الدكتور أبو ليلة : المشكلة أن هناك تيارات تتحدث باسم الاسلام وتتبني الفتاوي الهدامة التي يصدرها غالبا فقهاء التطرف وتحاول فرضها علي الناس بالقوة. بل وتستخدمها لتبرير شن حروب علي المخالفين باسم الإسلام وارتكاب أبشع الجرائم بحجة الدفاع عن العقيدة وتنفيذ أحكام الشرع والأحداث الإرهابية والتخريبية التي تقع في كثير من مجتمعاتنا يقف خلفها ويدعمها هذا النوع من الفتاوي. وأوضح أن مشكلة توظيف الفتاوي والدين في العمل السياسي لتحقيق أمور سياسية تحتاج إلي تحرك عاجل وجدي وتضافر جميع جهود أفراد المجتمع ومؤسساته وهيئاته لتحصينه من أخطار هذا الفكر المنحرف من خلال العمل علي زيادة الوعي واستثمار الوسائل الدعوية المختلفة خاصة الإعلامية في نشر وسطية الإسلام وحقائقه واجتهادات العلماء الثقات وأيضا بذل الجهد لإيجاد مرجعيات فقهية ذات صدقيه يعود إليها الناس في الإفتاء. وأشار الدكتور أبو ليلة الي انه يعتبر أن وجود مرجعيات جماعية للفتاوي يقضي علي التوظيف السياسي لها. ويجب اصدار الفتاوي من المجامع الفقهية أو المؤتمرات الفقهية الموسعة التي تضم النخب الدينية حيث يلتزم المفتون بالقرارات والفتاوي الصادرة منها أو علي الأقل في نطاق الفتاوي المباشرة وأيضا فرز وتمحيص الفتاوي المختلفة والمستحدثة التي تهم الناس. أخطر الآفات يري منصور الرفاعي عبيد. وكيل وزارة الاوقاف لشئون الدعوة سابقا. أن من أخطر الآفات التي أصابت المجتمعات الإسلامية تعمد بعض من ينتسبون إلي الدعوة نشر ما يصدرونه من اجتهادات وفتاوي عبر وسائل الإعلام المختلفة دون مراجعة أو تمحيص حتي لو كانت مجرد آراء فقهية شاذة أو تحتمل الجدل والاختلاف وتسبب بلبلة لدي المسلمين وأوضح أن التحديات وحماية المجتمعات تفرض مواجهة الاجتراء علي الإفتاء بغير علم والجمود علي الآراء الفقهية القديمة وعدم مراعاة منهج الوسطية وإتباع الأهواء وتبني فكر التشدد الذي يميل إلي تكفير المجتمعات ورفض محاولة تسييس الفتاوي لخدمة المواقف السياسية وصبغها بالادعاءات الشرعية وإلباسها عباءة الدين حتي لو كانت تتعارض مع ما تؤكد عليه الشريعة من قيم ومبادئ وأصول. ويضيف الشيخ منصور عبيد : إن الفتاوي المتضاربة التي تطلق لخدمة تيارات معينة وتروج لفكر متطرف يترتب عليها تداعيات وأخطار جسيمة تصيب الأمة في أعظم ما لديها وأهم ما يجب أن يسود فيها وهو الوحدة والتماسك والتالف حيث تجلب علي شعوبنا التمزق والتقاتل والتناحر باسم الدين. والله تعالي حذر من هذا وقال: ¢ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا علي الله الكذب إن الذين يفترون علي الله الكذب لا يفلحون¢ . والرسول - صلي الله عليه وسلم ? يقول: ¢ أجرؤكم علي الفتيا أجرؤكم علي النار¢. وواصل الشيخ منصور كلامه قائلا: البعض لا يلتفت عند الإفتاء إلي علم المقاصد الذي بذل الفقهاء والعلماء المسلمين مجهودات كبيرة لتأصيله والذي يعني بمراعاة أحوال الناس في الواقع الذي يعيشونه لأن الأحكام تدور مع مصالح الناس مع العلم أن الفارق كبير بين الفتوي التي يصدرها مجلس معتمد للفتوي في دولة إسلامية. وبين الرأي الفردي لعالم أيا كان علمه ومكانته فكثير من الفتاوي التي يصدرها بعض العلماء تؤدي إلي تعطيل حياة الناس وإحداث كوارث اجتماعية خطيرة خاصة لدي الشباب الذي المفعم بالحماسة الدينية لأن فتواهم تؤثر في واقع المجتمعات وتحدث الكثير من الحرج والدخول في مزايدات سياسية لا يحمد عواقبها. وأشار إلي خطورة التصريحات التي تصدر من بعض المرجعيات الدينية وتأخذ شكل الفتوي حيث تتلقفها وسائل الإعلام وتبثها دون تدقيق. وما يصدر عن هذه المرجعيات الدعوية إزاء قضايا ومشكلات سياسية هو مجرد إعلان لمواقف وآراء تخص هذه القضايا وليست أحكاما شرعية ملزمة فيحدث خلط بين الأمور الدينية والسياسية الأمر الذي يؤثر بالسلب علي صورة الإسلام والمسلمين في العالم.