ذكرت كتب الأدب أن رجلا في غرناطة بالأندلس كان يهوي الفتوي وما سئل عن شيء إلا تصدر له وأفتي فيه بعلم أو بغير علم في اللغة والتاريخ أو في الفقه أو في علم الرجال أو حتي في الطب والفلك. فارتاب أصحابه يوما في شأنه فعمدوا إلي اختياره وكشف حقيقته فجمعوا كلمة مؤلف لا نظير له في لغة العرب وهي كلمة "الخنفشار" فقالوا يا شيخ حدثنا عن الخنفشار. فأطرق الشيخ وتربع علي أريكته ثم قال: الخنفشار نبات ينبت في الصحراء إذا أكلته الإبل درت اللبن وقد قال فيه الشاعر.. قد تخللت مسلك الروح مني كما تخلل الحليب الخنفشارا ولم يكتف بذلك بل قال وقد حدثنا فلان عن فلان عن فلان أن النبي - صلي الله عليه وسلم - قال وهمَّ بوضع حديث في فضل الخنفشار الذي لا أصل له في لغة العرب وهنا افتضح أمره وعرف خبره فقالوا لقد كذبت علي العرب وتريد أن تكذب علي رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وقاطعوا حديثه. ما أكثر الخنفشاريين في هذا الزمان بعد أن تصدر أنصاف المتعلمين الفتوي فظهرت قلة البضاعة وسوء البضاعة وتطرق هؤلاء للفتوي في كبري المسائل التي تتعلق بالتجريم والتحريم والتكفير والتنفير. فبات المجتمع علي خطر عظيم جراء تساهل الدولة مع هؤلاء الأقزام فهم خارجون علي الشريعة والقانون وليسوا بأقل خطرا من اللصوص. وقاطعي الطريق والمفسدين في الأرض وهكذا حكم عليهم ربيعة الرأي شيخ الإمام مالك لما دخل عليه رجل وجد ربيعة يبكي فقال: "أنزلت بك نازلة؟ قال لا ولكن نزل بالإسلام أمر عظيم واستفتي من ليس أهلا للفتوي والله لهو أحق بالحبس من السارق". لقد عظم القرآن من أمر الفتوي وشدد علي خطورتها بغير علم وبل جعلها قرينة الفواحش والشرك قال تعالي "قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما يظن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطان وأن تقولوا علي الله ما لا تعلمون" ولخطورة الفتوي كان الصحابة يحجمون عنها ويفرون منها قال البراء "لقد رأيت ثلثمائة من أصحاب بدر ما من أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتيا". وقال عبدالرحمن بن أبي ليلي التابعي الجليل "أدركت عشرين ومائة من أصحاب النبي - صلي الله عليه وسلم - يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلي هذا. وهذا إني هذا حتي ترجع إلي الأول". فأين محبي الظهور وهواة الفتوي وتجار الفضائيات من هذا المشهد ألم يسمعوا "أجرؤكم علي الفتيا أجرؤكم علي النار". أما قرأوا عن مالك إمام دار الهجرة أنه قال "ما أفتيت حتي شهد لي سبعون أني أهل لذلك". وقد سئل يوما عن أربعين مسألة فأجاب عن ثمانية منها وقال عن الباقي لا أدري. فقال له السائل الإمام مالك لا يدري؟!! فقال مالك للرجل.. إذهب إلي الناس وقل لهم مالك لا يعلم شيئا. هذا مالك إمام ذا الهجرة الذي قال عنه الشافعي "إذا ذكر العلماء فمالك النجم". وقال عنه القائل: ومالك حيث أفتي في مدينته..فلست أرض بفتوي غير فتواه حتي صار المثل السائر "لا يفتي ومالك في المدينة". فما مقدار علم الخنفشاري وشعبولا أمام علم مالك الذي أحجم عن الفتوي؟؟!! إن هؤلاء من أدعياء العلم وأنصاف المتعلمين ومحبي الظهور ذكروننا بالرجل الذي بال في بئر زمزم في عده الخليفة المأمون فلما رفع إليه الخبر سأله الخليفة فقال الرجل: كنت مغمورا فأردت أن أعرف بين الناس ولو باللعنة. إن شعبولا والخنفشاريين ينطبق عليهم قول القائل: وقال الجاهلون له فقيه فصعد حاجبيه له وتاها وأطرق للمسائل أي بأني ولا يدري لعمرك ما طحاها لقد تغيرت الأحوال وبدلت المجالس فما الناس بالناس ولا الرجال بالرجال وانطبق علينا قول القائم القديم: لما بدلت المجالس أوجها غير الذين عهدت من علمائها أنشدت بيتا سائرا متقدما والعين قد شرقت بجاري مائها أما الخيام فإنها لخيامهم وأري رجال الحي غير رجالها فما علم هؤلاء بفقه الموازنات والمآلات والمقاصد والأولويات. إن الفتوي توقيع عن رب العالمين فويل لمن أساء التوقيع عن الله رب العالمين. فأنقذوا السفينة حتي لا يغرقها الخنفشاريون.