فضلاً اقرءوا هذه القصة من تاريخ مصر الشعبي والتي حكاها عمنا عبدالرحمن الجبرتي المؤرخ المصري الشهير. في تاريخه الشهير أيضاً "تاريخ الجبرتي". والقصة وقعت عام 1173ه.. وذكرنا بها بعد زمن طويل أخونا الشيخ عبدالسلام البسيوني في كتابه "طرائف وظرائف". وهي تلخص ان دجالاً من الدجاجلة - أو الدجالين - حتي لا يعاتبنا أهل اللغة علي صحة هذا الجمع - وهو كبير خدام المشهد النفيسي - نسبة للسيدة نفيسة رحمها الله. ورضي عن آبائها الكرام البررة - واسمه الشيخ عبداللطيف اقتني معزة وأسبغ عليها من الهالات الشيء الكثير حتي ان العامة كانوا يتباركون بها وكانت "الست المعزة" حديث الناس في كل شوارع وحارات مصر واعتبروها "مبروكة" لانها تخص السيدة نفيسة ونسج صاحبها حولها الأساطير وأنها لا تأكل إلا الفستق واللوز وأسبغ علي العنز كرامات السيدة. وصدق الناس كل ذلك حتي أصبحت المعزة صورة مصغرة من عجل السامري في عصر موسي تكاد تعبد من دون الله تعالي: ونقلاً عن الجبرتي حرفياً: "فإن الشيخ عبداللطيف قال لهم ان العنز لا تشرب إلا ماء الورد والسكر المكرر ونحو ذلك. فأتوه بأصناف ذلك قناطير مقنطرة وعمل النساء للعنز القلائد الذهبية والأطواق والحلي وافتتنوا بها وشاع خبرها وسط الأمراء وأكابر النساء وأرسلن علي قدر مقامهن من النذور والهدايا وذهبن لزيارتها ومشاهدتها وازدحمن عليها. فأرسل الأمير عبدالرحمن كتخدا إلي الشيخ عبداللطيف والتمس منه حضوره إليه بتلك العنز ليتبرك بها هووحريمه وكان عبدالرحمن يكره البدع وخرافات الصوفية وأراد ان يبين للناس كذب هؤلاء الدجالين.. فركب الشيخ عبداللطيف بغلته والعنز في حجره ومعه طبول وزمور وبيارق ومشايخ وحوله الجم الغفير من الناس ودخل بيت الأمير عبدالرحمن علي تلك الصورة وصعد بها إلي مجلسه وعنده الكثير من الأمراء والأعيان فأمر بإدخالها إلي الحريم ليتبركن بها وقد أوصي الأمير طباخه بأن يذبح العنز ويطبخها وبالفعل ذبحت وطبخت وقدم طعام الغداء للحاضرين ومن ضمنه العنز وأكلوا منها وأكل عبداللطيف والأمير يقول له كل يا شيخ عبداللطيف من هذا الرميس السمين فيأكل منها ويقول والله انه طيب ومستو ونفيس وهو لا يعلم انه عنزه وهم يتغامزون ويضحكون.. فلما فرغوا من الأكل وشربوا القهوة وطلب الشيخ عبداللطيف عنزه قال له الأمير انها هي التي كانت بين يديك في الصحن وأكلتها فبهت عبداللطيف. فبكته الأمير ووبخه وأمره بالانصراف وأمره بوضع جلد العنز علي عمامته ويذهب بها كما جاء بجمعيته وبين يديه الطبول والزمامير والمشايخ. لتكون له فضيحة وكشفاً لأباطيله وخرافاته التي أخذ بها أموال الناس بالباطل". ربما كانت هذه القصة التي مر عليها الآن أكثر من ألف سنة نموذجاً علي ان الدجالين استفادوا من حالة "اللاوعي" التي يمر بها الشعب المصري آنذاك. وتعلقهم بالخرافة وحجب عقولهم عن الحقيقة الماثلة. وإصباغهم صبغة "القداسة" علي بعض الشخصيات لاسيما أصحاب المقامات الشهيرة واعتبار كل ما يقال عنهم صدق لا تكذيب له وحق لا مراء فيه. غير ان القصة تتكرر بمشهد آخر قد تختفي فيه المعزة ولا يختفي فيه مروجو الدجل والخرافة فهم موجودون بوجود الناس لاسيما بسطاؤهم والبسطاء كانوا ولا يزالون في كل عصر ومصر.. وهم يخترقون عنزا مثل عنز الشيخ عبداللطيف أو عجلاً كعجل السامري. ليكون رمزاً للبطال ليدحضوا به الحق ويطمسوا به شمسه الساطعة. وقديماً قال بنو إسرائيل لكليم الله موسي لما مروا علي قوم يعكفون علي أصنام لهم. ولم تجف أقدامهم بعد من ماء البحر الذي جعله الله طريقاً يبساً لهم وأهلك فرعون وقومه أمام أعينهم: "يا موسي اجعل لنا إلها كما لهم آلهة".جملتهم غير المتوقعة من قوم رأوا آية الله وقدرته علي الخلق رؤيا العين. تطيش بصواب موسي. فقال عليه السلام لهم مقولته التي حكاها القرآن الكريم: "إنكم قوم تجهلون" وأعقب بقوله مبكتاً لهم ومنتقصاً من عبادة البشر للحجر: "إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون". والحادثة تكررت بمشهد آخر مختلف بعض الشيء علي عهد الرسول الأكرم صلي الله عليه وسلم حين خرج الصحابة مع رسول الله صلي الله عليه وسلم قبل حنين. قال الراوي: فمررنا بسدرة "أي شجرة". فقلت: يا نبي الله اجعل لنا هذه "ذات أنواط". كما للكفار ذات أنواط. وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة. ويعكفون حولها. فقال النبي صلي الله عليه وسلم: "الله أكبر. هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسي" "اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون" ثم عقب صلي الله عليه وسلم بقوله: "إنكم تركبون سنن من قبلكم".. وفيه نهي شديد علي التقليد الأعمي للغير المخطيء والسير علي خطي كل دجال يلبس الحق باطلاً والباطل حقاً ويزين للناس كفره ودجله في صورة الحق الصراح. غير أن قوة السلطان الواعي الفاهم لأمور الدين. قادرة علي ان تزع بقدرة الله ما لا يزعه القرآن الكريم والحديث النبوي الصحيح. وهما عماد الدين الصحيح. كما فعل القائد الحكيم والبناء العظيم لأهم آثار مصر عبدالرحمن كتخدا. حين جعل الشيخ عبداللطيف الدجال يشرب المقلب المحترم ويجعل "جرسته بجلاجل". جزاء ما فعله في العامة والبسطاء ودجل عليهم ولبس عليهم دينهم. مستغلاً حب الناس لآل بيت النبوة. وإكرامهم لهم أحياء وأمواتاً.. وهذا ما يعطينا ترجمة واضحة لقوة نفوذ السلطان الحاكم العادل. وهذا ما عناه رسول الله صلي الله عليه وسلم في قوله: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". ** ونة لغوية: كلمة الدجاجلة جمع دجال. وهي تجمع علي دجالين باعتبارها جمع مذكر سالم وجمعها علي "دجاجلة" علي التكسير وهو جمع سماعي. صحيحة لغوياً. كما سمعت هكذا. وحجتنا في ذلك ان إمام اللغة والتحقيق الشيخ محمود محمد شاكر - رحمه الله - كتبها منذ هذه العقود الطويلة 1953م.