إن من يقرأ التعديلات التي أجريت علي قانون تطوير الأزهر المعمور. ذلك القانون الذي عُرف إعلاميا باسم "قانون استقلال الأزهر" أو "قانون انتخاب شيخ الأزهر" يدرك في جلاء ووضوح. بعد النظر الفاحص والتأمل المستأني. أن واضعي هذا القانون قد أرادوا في صياغتهم له علي النحو الذي خرج به أن يجمعوا ما ومَن يريدون. وأن يمنعوا مَا ومَن لا يريدون. مستهدفين بذلك علي نحو مريب. أن تصبّ المصلحة في اتجاه شخص بعينه. كما كانت التعديلات الدستورية المشبوهة في العهد المباركي الملثات البائد تصبّ في اتجاه الغلام الغرّ جمال مبارك. بوصفه وليّ العهد الذي كانت تُهيّأ الأجواء كافّة لمبايعته خليفة لأبيه! فإذا واضعو قانون انتخاب شيخ الأزهر يتورّطون. من حيث يشعرون أو لا يشعرون. في التأصيل لطائفة من القبائح والمآثم التي يُجمِع شرفاء هذه الأمة وأطهارها علي مذمّتها واستقباحها شرعًا. وعقلاً. وعُرفًا. ولعلّ من أقبح هذه القبائح التي يؤصل لها هذا القانون في طياته. عن قصد أو غير قصد: العنصرية الشعوبية. والحقد والكراهية. والأرستقراطية الأكاديمية "الكهنوتية". وتوثين الذات. وإقصاء المذهبيات الأخري التي تحلّق في فَلَك الفضاء الرحيب لتراث هذه الأمة الروحي والشرعيّ. والذي يمتاز بثرائه وتنوّعه. وسعة تأويلاته وتفسيراته التي هي ميسم سماحة واستنارة. وعلامة وسطية تعادليّة تتلاقي مع الآخر فتجاوره. وتحاوره. ولا تنافره أو تنكره فتدابره. وذلك كله في إطار الملة الواحدة. والعقيدة المشتركة. فأما العنصرية الشعوبية فتتمثّل في اشتراط واضع القانون أن يكون المرشّح لمنصب شيخ الأزهر "من أبوين مصريين مسلمين. وألا يكون قد اكتسب جنسية أية دولة أخري. في أي وقت من الأوقات". يريد ذلك الواضع الصَّنَاع. من طرف خفيّ. وبضمير مستتري. أن يُقْصِيَ أمثال العلامة الدكتور يوسف القرضاوي. قاطعًا الطريق علي الشيخ حتي إن تنازل عن جنسيته القَطَرية المكتسبة في سبيل ترشّحه منعًا وتضييقًا بعبارة: "في أي وقتي من الأوقات" فليُتأمّل ذلك !. كما يريد بذلك ألا يتكرر ذلك النموذج الفذّ في تاريخ هذه المؤسسة للشيخ محمد الخضر حسين " 1876- 1958م" التونسيّ المولد. الجزائري الأصل. المصريّ الجنسية أخيرا. عليه رحمة الله!. مع أن الأزهر المعمور مؤسسة إسلامية. تعليمية. عالمية. حضارية. إنسانيةّ. وليست إقطاعية إقليمية تقوم علي الشعوبية والعنصرية بحرفيتهما الذميمة! وأما الحقد والكراهية فيتبديّان في اشتراط ذلك الواضع الصّنَاع "أن يكون المرشّح من خريجي إحدي الكليات الأزهرية المتخصصة في علوم أصول الدين والشريعة والدعوة الإسلامية واللغة العربية. وأن يكون قد تدرّج في تعليمه قبل الجامعي بالمعاهد الدينية الأزهرية" يريد بذلك. ومن الطرف الخفي ذاته. ومن الضمير المستتر نفسِه. إزاحة المفتي الدكتور علي جمعة من طريق شيخ الأزهر الحالي. وأن يزيح في الوقت ذاته أي أحد ربما تسوّل له نفسه الأمّارة بالمشيخة من الإخوان المسلمين أو من السلفيين. ومن لفّ لفّهم. أو اتّشح بعباءاتهم الخليجية أن يترشّح لمنصب شيخ الأزهر. مهما كانت الدرجات التي حصل عليها من غير الأزهر. أو من الأزهر. لكن بعد أن تجاوز مرحلة التعليم قبل الجامعيّ» لكيلا تتكرر حالة الشيخ علي جمعة في أية مرحلة لاحقة. لما هو واضح من حساسية أبناء المؤسسة ممن يعدّونهم دخلاء. وهم بذلك حِراصى علي صفاء الجنس الأزهري. ونقاء عرقيته!! وأما الأرستقراطية الأكاديمية "الكهنوتية" فتتجلّي في اشتراط ذلك الواضع الصّنَاع أن يكون من يُختار لعضوية هيئة كبار العلماء "هيئة الأربعين" الذين لن يخرج من سيترشّح لمنصب المشيخة عنهم بأي حال من الأحوال "حائزا علي درجة العالمية: الدكتوراه وأن يكون قد بلغ درجة الأستاذية في العلوم الشرعية أو اللغوية" ثم يكرر الشرط السابق: شرط "الأزهرية المحضة" في مرحلة ما قبل الجامعة فيقول: "وأن يكون قد تدرّج في المعاهد الأزهرية وكليات جامعة الأزهر". وإني لأكاد أري ذلك الواضع الصّناع وقد علت وجهه صفرة الكسوف وهو يفكر - فيما بينه وبين نفسه- في أن يضيف قيد أن يكون المرشح خريجا لأحد معاهد الدلتا أو الصعيد. ثم صرفته عن ذلك أثارة من كسوف!!! ثم تمادي ذلك الواضع افتئاتا وإعناتًا وعضلاً. في هذا السياق وأرجو الله أن يمهله ليتوب. قبل أن يدمدم عليه بذنبه. وذلك عندما اشترط علي المتقدم لعضوية هيئة كبار العلماء "هيئة الأربعين" أن يقدم بحثين مبتكرين في تخصصه تجيزهما لجنة متخصصة تُشكّل لهذا الغرض من بين هيئة كبار العلماء بقرار من شيخ الأزهر . والرجل قبل الترشُّح هو أصلا أستاذ. لكنهم سيرقُّونه مرّة أخري. وهم ليسوا أعلي منه قدرا. بل هم علي نفس درجته. ولا مزية لهم في هذا الباب إلا أنهم قد سبقوا إلي عضوية هذه الهيئة!! أستحلفكم برب السماوات والأرضين. ملك يوم الدين: هل البطلان والتهافت شيء غير هذا؟!! وإني لأرجو أن تعيد النظر قارئي العزيز. في ظل هذا السياق المشتجر المشتبه من الصياغة في كلمتي "بحثين مبتكرين" ولتذهب نفسك كل مذهب في تأمل معايير الابتكار والإبداع المطلوب لنيل إعجاب اللجنة "لجنة خواصّ الخواصّ" المشكلة بقرار مخصوص لهذا الغرض المخصوص!! وغير خفيّ للمتأمل أن في هذه الشروط إقصاء متعمدا للآخر من غير الأكاديميين من داخل المؤسسة الأزهرية أو من خارجها» لكيلا يتسلل إلي كرسيّ المشيخة. في غفلة من الزمن. أمثال الشيخ جاد الحق. أو الشيخ محمد الغزالي. أو الشيخ الشعراوي. عليهم جميعًا رحمة الله. ممن لم يحملوا درجات الدكتوراه. ولا حصلوا علي الأستاذية. ولكيلا يفكّر في خوض المنافسة علي الترشح لهذا المنصب أزهريون آخرون من أمثال الشيخ محمد حسّان. والشيخ الزغبي. وغيرهم من كبار الدعاة في زمننا هذا. الذين حاصرهم واضع هذا القانون الصناع بهذا الشرط. من ناحية. وبشرط السنّ من ناحية أخري. سادّا عليهم كل منفذ. وقاطعًا عليهم كل طريق. مع أن سنّ الأربعين هي سنّ النضج والاكتمال. وسنّ بلوغ الأشُدّ. وذهاب طيش الشباب وروعونته. وهي سن تكليف الرسل والأنبياء وابتعاثهم بنص كتاب الله جلّ وتقدّس: "ولمّا بلغ أشدّه وآتيناه حكمًا وعلمًا" يوسف "22" وقوله جلّ وعزّ: "حتي إذا بلغ أشدَّه وبلغ أربعين سنَةً..." الأحقاف: 15 والله أعلم حيث يجعل رسالته. والمعروف المتواتر أيضا أن كثيرا من الراسخين في العلم من نوابغ هذه الأمة وملهميها قد عاشوا. وتألقوا. وسطعت شموس علمهم وفقههم وهم دون الستين من أعمارهم. وأجلي مثال علي ذلك وأجلّه الإمام الشافعي رضوان الله عليه!! وليلحظ في هذا السياق كذلك أن ذلك الواضع الصناع لم يفته أن هنالك من الأزهريين كثيرين ممن تنطبق عليهم هذه الشروط. ولكن معظمهم من المتقاعدين الذين بلغوا من العمر مبلغًا كبيرا. وتواروا عن الأنظار بفعل التقدم في السن. وزهد كثير منهم في الظهور عبر وسائل الإعلام. فإذا واضع القانون يغلّق الأبواب في وجوه هؤلاء تغليقا غير رفيق» وذلك باشتراطه أن يتقاعد شيخ الأزهر في سن الثمانين. فإذا هذه الفئة من الأزهريين -بهذا الشرط- يتقاعدون قبل أن يفكروا في الترشّح. تأمّل مدي الفطنة واليقظة ? في غير طلب الحق - في وضع القوانين الجامعة المانعة!! وأما قبيحة توثين الشخوص. وإقصاء الآخر مذهبيّا فتتبدي شوهاء عوراء في الصلاحيات المطلقة الممنوحة لشيخ الأزهر. "مع كامل احترامنا وتقديرنا لفضيلة الأستاذ الدكتور أحمد الطيب الذي يشغل المنصب حاليا" فقد أعطاه صائغ القانون. وبكل أريحيّة وسخاء. بما لا يملك أصلاً. الحقّ في أن يختار ناخبيه بنفسه. ولنفسه. من أبناء المؤسسة الأزهرية الأكاديمية. ليكونوا أعضاء هيئة كبار العلماء. ومنه وحده تتكوّن لجنة الاختيار. وهو المختار والمختار له. فهو يصطفي من يشاء. لما يشاء. وكيفما شاء. ملقيًا علي من اجتباهم محبّةً منه. وليصنعوا علي عينه. أفَتُراهم يخرجون عن طاعته ويختارون غيره؟! وهو الشيخ يُوَلّي ولا يُخْلَع. ويَسأل ولا يُسأل. ولا تسحب منه الثقة. ولا تُحدّ رئاسته بحدود زمنية علي مدار عشرين حِجة. ويا حبّذَا لو أتمهنّ ثلاثين أو أربعين فضلا من عنده! وإني لأحسب أن واضع القانون يريد أن يمحو ذاكرة الأمة. مبتدئًا من اللحظة الراهنة. مؤسسًا علي ما هو كائن. فشيخ الأزهر الحالي هو الشيخ الذي لا شيخ دونه. وبه سيبدأ التاريخ الأزهريّ الجديد. وعن إرادته -وحده- وعلي يديه ستتشكّل ملامح هيئة كبار العلماء وقسماتها وسياساتها وأهدافها ومقاصدها. وربّنا يعطينا وإياكم طول الأجل حتي نري شيخ أزهر منتخبًا بإذن الله تعالي! والمذاهب التي ينبغي أن يتمذهب بها أي مرشّح لعضوية هيئة كبار العلماء -بنص هذا القانون- أربعة فحسب. وما دون ذلك من مذاهب أهل الفقه والاجتهاد في القديم والحديث في مختلف أمصار ديار الإسلام. ممن لا ينعقد إجماع للأمة في مسألة من المسائل خالفوا فيها بغيرهم. كل هؤلاء غير معتبرين عند الأزهري الحديث في الجمهورية الثانية. جمهورية ما بعد الثورة. وهيئة كبار العلماء "هيئة الأربعين" -بحسب نصوص القانون الجديد- هي المرجعية الأخيرة التي لا مرجعية بعدها في العالم الإسلامي التي يُلجَأ إليها في "البتِّ" القطعيّ الجازم في أية مسألة خلافية. وكأنهم بذلك قد صاروا ناطقين رسميين باسم السماء. أنبوّةً ووحْيًا بعد المصطفي عليه الصلاة والسلام ؟! ثم إذا قرأت ما يُراد لهذه الهيئة من الأهداف والغايات. وما يناط بها من الوظائف والمهمات فلا تكاد تجد شيئا ذا كبير بال. غير أنها مختصة ¢ بانتخاب شيخ الأزهر. وترشيح المفتي. وعبارة "ترشيح المفتي" فيها شَوْب من رَيْب. فمن الذي سيحسم أمر هذا الترشيح؟ أرئيس الجمهورية؟ أم شيخ الأزهر؟ أم هو الانتخاب؟!. في نهاية كلمتي أرفع صوتي إلي برلمان ثورة مصرنا المجيدة. أن يعيدوا النظر في هذا القانون. وقد جرّحته عيون الشكوك والريب. وتناهشته الشبهات من كل جانب. وإلا فكلكم شركاء في الإثم. متواطئون في إهالة التراب علي هذه الجريمة التشريعية النكراء.