من أشد المواقف علي الإنسان . وأظهرها في التعبير عن جوانب شخصيته . وحقيقة نفسه. موقفه من عدوه الذي يتربص به. ويعمل علي الفتك به بل وحرمانه من حق الحياة متي وجد لذلك سبيلاً. وفيها يظهر معدن الإنسان وجوهره ومن هنا يكون الإنسان أكثر حنقاً علي عدوه وأكبر غيظاً وكمداً منه. فلا يتردد في أن يصب جام غضبه عليه وأن ينزل به عقابه ويحسب أن في ذلك شفاء غيظة. وزوال همه وشفاء صدره. وهو امتحان عسير لكل نفس تبلغ بها النفوس الكبيرة آفاق العلا وتنحط بها النفوس الوضيعة إلي مهاوي الظلم والطغيان وقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم رحمة للعاملين في شخصه ومسلكه. وقد جسد القرآن شخصيته بتقرير هذه الحقيقة "وما أرسلناك إلا رحمة العالمين" الأنبياء "107" فهو رحمة مع القريب والبعيد. ومع الصديق والعدو. ومع نفسه ومع غيره وتفصح حياته كلها عن دستور الرحمة والرأفة في معاملته لأعدائه. فقد كان إنساناً جمع خصال المكارم كلها . مع أشد الناس عداوة له. استبانت أخلاقه الرفيعة في مواقف عديدة: لعل أظهرها لما دانت له صناديد الشرك في مكة. وتمكن من رقابهم وأموالهم وتعلق بكلمة منه مصيرهم. وبقاؤهم في الوجود علي كلمة يتفوه بها صلي الله عليه وسلم فتوجه إليهم بهمته العالية. وبأخلاق النبوة:"ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا خيراً. أخ كريم. وابن أخ كريم. فقال: لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فأنتم الطلقاء" . فهذه المقولة في مقامه وقدرته وتملكه لناصية من ناصبوه العداء كل العداء. وتآمروا علي التخلص منه بكل سبيل في السر والعلن . لا يقدر عليها إلا صاحب الرسالة. وسليل النبوة ومن استجمع الإنسانية في نفسه. وامتلأت الرحمة في قلبه في موقف يقتضي الثأر . ويبرر الانتقام لكن حسبه فقهه قوله تعالي "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" فصلت "34" ولم يكن هذا الموقف النبوي موقفا عارضاً في حياته. وإنما كان مركوزا في طبيعته ومن دلائل نبوته ومعلماً علي شخصيته إذ يروي أنه لما واجه الأذي والعنف من أهل الطائف . وضاقت به السبل وأجهضوا الأمل الذي كان يراوده في هدايتهم وتعويضه عن تربص قريش به وإنزال الأذي بأتباعه وإصرارهم علي اجتثاث دعوته ومطاردته وتضييق الحصار عليه فلم يجد من أهل الطائف إلا كل صد وعنف وإضرار به. وردوا عليه رداً منكراً وفاجأه بما لم يكن يتوقع من الغلظة وسمج القول. ثم أغروا به سفاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به وجعلوا يرمونه بالحجارة حتي أدموه فلما جاءه الملك يطلب منه أن ينتقم الرب منهم لقاء ما فعلوه به. وجزاء صنيعهم به فكان رده الصفح والعفو وطلب الهداية لهم ولذريتهم . دليل ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها. أنه لما ناداه ملك الجبال وسلم عليه . وقال له: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك. وأنا ملك الجبال. وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت إن شئت إن أطبق عليهم الأخشبين "اسم جبلين" فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم "بل أرجو إن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً" . وهو برهان علي أن الرحمة كانت إحدي سجاياه . وأن الرحمة لديه فاقت ملكة العدل فيه. حتي مع أكثر الناس عداوة له.