نجحت وثائق موقع ويكيليكس في جذب أنظار العالم وتسليط الضوء علي خفايا وأسرار الدبلوماسية الأمريكية والسياسات الغربية. وغدا جوليان اسانج مؤسس الموقع الرجل الأشهر في العالم من خلال تسريب نحو 250 ألف رسالة سرية في صورة برقيات ووثائق تم اختيارها بعناية فائقة. أرسلتها البعثات الدبلوماسية الأمريكية حول العالم وتضمنت معلومات خطيرة حول أهم وأبرز القضايا العالمية. وبالرغم من ان التسريبات السياسية من الأعراف القديمة التي تشكل جزءا لا يتجزأ من الحياة السياسية وتعقيداتها وتلقي عليها الجاذبية والمتعة. إلا أنها في المقابل من أكثرها إثارة للشكوك والخلاف حول حقيقة وأبعاد المعارك والملفات السياسية. حيث تستخدم كبالونات اختبار سواء فيما يتعلق بالسياسيين الذين يديرون دفة الأمور بهدف جس النبض وتحسس المواقف أو من هم في الظل لتفادي كسر قواعد اللعبة ولمنع الخروج عن مقتضيات الهامش المسموح به من قوانينها. ومن المعلوم ان التسريبات قد تكون حول معلومات سياسة قيمة يتم تداولها والتعامل معها بتساهل لافت دون الوقوف كثيرا للتدقيق في مصادرها وفق قانون جواز إخفاء المصدر للمؤسسات الإعلامية. أو أن نكون أمام تسريبات ذات طابع استخباراتي تحوي معلومات مستقاة من ملفات الأجهزة الأمنية لا يجوز بحال وتحت أي ظرف التهاون في ضمانات سريتها. والواقع ان هذه النقطة وإن كانت مهمة ومحورية إلا أن تداعيات الأحداث وسرعة تفاعلها تدفعنا لتجاوز الجدل الدائر بخصوص نوعية هذه التسريبات وحقيقة مصادرها. وتجعلنا نصرف نظرنا لتأمل الأهداف الكامنة من وراء تسريبها وبهذا الحجم غير المسبوق خاصة وأن توقيتها يحمل دلالات مهمة جدا فيما يتعلق بالعديد من الأطراف الدولية وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة نفسها والتي تذهب التحليلات إلي أن أبرز الأغراض الرئيسية لهذه التسريبات هو تشويه سمعة أوباما وسياساته الخارجية وإحراج ادارته بهدف إضعاف نفوذ الرئيس في الكونجرس وذلك لتمرير عملية بناء المستوطنات الجديدة في فلسطين. والتغاضي عن سياسات الترحيل القسري لأبناء الشعب الفلسطيني عن أراضيه والتي يعارضها أوباما. وإشغاله عن الضغط علي إسرائيل لحثها علي التقدم في المفاوضات التي تعهد بانجاحها. علي حين انتهت تحليلات أخري إلي القول بأن هذه التسريبات مبرمجة ومدروسة بعناية فائقة. والهدف الحقيقي من وراء نشرها ابتزاز الحكومات والدول وحرق القيادات أمام شعوبها. فهي لا تعدو في التحليل الأخير سوي حلقة من حلقات مسلسل الابتزاز الدولي الذي تجيده الولاياتالمتحدةالأمريكية. ويكفي للتدليل علي صحة هذا التحليل التدقيق في نوعية المعلومات السرية والدول والقيادات التي تستهدفها. والنظر في كيفية تعامل الحكومات مع تداعيات هذه الوثائق ومحاولاتها لكبح جماح الاهتمام الإعلامي بها. الثابت إذن انه لا يمكن انكار ان الوثائق تضمنت معلومات تغطي قضايا سياسية تحمل قدرا من الحساسية حول الانتشار النووي والإرهاب والعراق وأفغانستانوإيران وحوت أيضاً آراء بعض الدبلوماسيين الأمريكيين في عدد من زعماء دول العالم خاصة في العالم العربي والإسلامي تحديدا. والأهم من ذلك انها فعليا لم تسبب ضررا يذكر لأمريكا التي علي ما يبدو وإذا سلمنا ببراءتها من الوقوف وراء هذه التسريبات أو الضلوع في حبائلها قد عملت علي الأقل علي إدارة الأزمة ونجحت في توجيهها بما يقلل من خسائرها ويعظم العوائد والمكاسب الناجمة عن تداعياتها المتوقعة. فما يجدر التأكيد عليه هو ان التسريبات وما فيها من معلومات ومواقف وإن كانت أمر واقع لا يمكن تجاهله علي أكثر من مستوي. إلا انها فيما يتعلق بالشأن العربي والإسلامي يمكن القطع بأنها انتقائية وتثير الكثير من علامة الاستفهام. وبعيدا عن تهويمات نظرية المؤامرة فمضمون الوثائق كاشف عن التأثير التحريضي الذي يسعي لبثه وتكريسه في العلاقات بين الدول العربية والإسلامية بهدف تفجيرها وإزكاء التناقضات بينها وسكب المزيد من الزيت علي نيزان الأزمات الملتهبة فيها وإشعالها بالخصومات السياسية التي تستفيد منها قوي الهيمنة. ويكفي هنا الإشارة إلي الاتهامات الموجهة لتركيا بضلوعها بتزويد الإرهابيين في العراق بالأسلحة لافساد استقراره. والادعاءات التي توجه لباكستان بتورطها في احتلال أفغانستان وإيواء التنظيمات الإرهابية وقيادتها الهاربة والضالعة في عمليات إرهابية في بعض الدول العربية. وأيضاً ما نسبته الوثائق لزعماء عرب حثهم الولاياتالمتحدة علي مهاجمة إيران والقضاء علي برنامجها النووي. ومحاولاتها المتكررة لخلق تصور عن وجود اتفاق بين مصر والسلطة الفلسطينية وإسرائيل لشن الحرب علي غزة والمعروفة بالرصاص المصبوب بهدف هزيمة حركة حماس. كما ركزت الوثائق علي الآراء السلبية التي نسبتها للقيادات السعودية والإماراتية في حق الرئيس الباكستاني آصف علي زرداري. أو آراء المسئولين المصريين في القيادات القطرية. وكذلك ما أشاعته الوثائق حول الرئيس السوداني عمر البشير وتهريبه ما يقرب من 9 مليارات دولار إلي خارج البلاد. وأفردت الوثائق المسربة اتهامات وجهتها لسوريا بأنها علي استعداد لإنهاء تحالفها مع إيران وحماس وحزب الله في مقابل حصولها علي الأمن والسلام مع إسرائيل. كما زعمت التسريبات ان مصر رفضت عروضا لشراء أسلحة نووية من السوق السوداء بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وغيرها الكثير من الاتهامات الصريحة أو الضمنية التي لم تسلم من سهامها دولة عربية أو إسلامية. واللافت في هذا الخصوص انه بالرغم من ضخامة عدد الوثائق وامتداد الفترة الزمنية التي تغطيها وتتناول دقائقها. إلا ان الوثائق المتعلقة بإسرائيل تكاد تكون معدومة في حين ان الدولة الصهيونية هي قاسم مشترك في أغلب هذه القضايا إن لم يكن كلها وضلوعها في أزمات العالم العربي والإسلامي لا يمكن إنكاره.