لو ربطنا ما بين الحديثين الشريفين اللذين ذكرناهما في العدد الماضي لعرفنا أن المقصود ليس الكثرة التي نتخيلها ونسعي إليها. فلا عبرة بكثرة كغثاء السيل. لا عبرة بكثرة من الرغاوي والفقاعات. إذن كيف نفهم الحديث الأول؟ يقول الرسول الكريم: "تناكحوا" أي تزوجوا. وهو أمر نكون قد نفّذناه بمجرد الزواج. ثم يقول صلي الله عليه وسلم: "تناسلوا" وهو هنا ليس فعل أمر لكن المقصود به: إن من يتزوج ينجب. أو مقصود به: إذا تناكحتم تناسلتم. أو بمفهوم أبسط : تناكحوا فتناسلوا. وهنا يكون كل من أنجب طفلاً واحداً قد تناسل لأنه لو كانت كلمة تناسلوا فعل أمر فأين يذهب العقيم والعاقر منه؟! خاصة وأن الله لا يكلّف نفساً إلا وسعها. الفقرة الثالثة من الحديث: "تكاثروا" وهنا مربط الفرس. ليس المقصود بالكثرة كثرة الأولاد. أو كثرة الذرية. المقصود تكاثروا أنتم وهو أمر طبيعي بعد تناكحوا تناسلوا. فحاصل جمع رجل « امرأة بعد الزواج والإنجاب لا يكون " 2 " وإنما يكون " 3 " علي الأقل. بمعني أدق أصبح الشخص الواحد قبل الزواج ثلاثة علي الأقل بعد الإنجاب. وهذا هو معني تكاثروا. إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأمرنا بكثرة النسل وإنما أمرنا بالتناسل. ولو كانت العبرة بالكثرة علي النحو الشائع بين الناس الآن لما كان الحديث النبوي الثاني: "كغثاء السيل" إن النبي الكريم يريدنا ثوابت. شوامخ. رواسخ. لنا مكانتنا بين الأمم نتقدم الصفوف. ونستوعب العلوم. ونبدع في الآداب والفنون . لا نمد أيدينا إلي أحد . لا نكون في حاجة إلي أحد مما يجعله سيّداً علينا متحكّماً في مصائرنا لقوله سبحانه وتعالي: "كنتم خير أمّة أخرجت للناس" فكيف نكون خير أمّة أخرجت للناس ونحن نتعرض لما نتعرض له في هذه الأيام؟! ويقول سبحانه وتعالي: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله" فالفئة القليلة الكثيرة الإيمان الكثيرة القوة الكثيرة الثراء المتقدمة علمياً تسود. والفئة الكثيرة الضعيفة الهشة المتناثرة المتخلفة يقودها من يقودها كما يقود الراعي أغناماً. الغنم كثر والراعي واحد. وعلي مستوي الأسرة الصغيرة لا معني لرجل ينجب أطفالاً لا يقدر علي تربيتهم تربية حسنة ولا يقدر علي تعليمهم تعليماً راقياً. ولا يقدر علي المحافظة علي صحتهم كما ينبغي. لا معني لرجل ينجب أطفالاً لا يكونون ركائز في المجتمع وتروساً عاملة في ماكينة الحياة. إن العكس هو المطلوب. رجل ينجب أطفالاً يقدر علي أن يضعهم زهوراً في سترة الدنيا. ورجل بهذا الفهم والوعي لا يمكن اتهامه بأنه خالف حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم. فقد تناكح وتناسل وانتقل من حالة الواحد إلي حالة الكثرة. ثم بعد ذلك يريد أن يقدّم لرسول الله صلي الله عليه وسلم نسلاً قوياً في إيمانه وأخلاقه وعلمه وكرامته وأدبه ليتباهي به النبي يوم القيامة. فالمؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف. ويقول صلي الله عليه وسلم: ¢ لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء يسألون الناس أعطوهم أو منعوهم ¢ إن أمّة عاملة قويّة خير من أمّة ضعيفة متسوّلة. تُري بمن يتباهي النبي صلي الله عليه وسلم.. بالعاملين أم بالعاطلين؟ بالمتقدمين أم بالمتأخرين ؟! ولا حول ولا قوة إلا بالله .