لماذا يستهلك المسلمون أكثر من غيرهم؟ سؤال يطرح نفسه بقوة مع صدور كل إحصائية جديدة تؤكد تصاعد حمي الاستهلاك داخل كل مجتمعاتنا العربية بصورة تفوق مثيلتها في دول الغرب الغنية ليس هذا فحسب بل اننا نستورد مواد غذائية نلقي بجزء كبير منها في صفيحة القمامة. والمشكلة الاستهلاكية في العالم العربي تتجاوز الإسراف في المواد الغذائية إلي الإسراف في الاستهلاك الترفي حيث تقول إحدي الإحصائيات ان الدول العربية تنفق سنويا بليونا دولار علي مستحضرات التجميل وأشارت دراسة أخري صدرت مؤخرا إلي أن معدل استهلاك الفرد من العطور ومستحضرات التجميل في بلدان المنطقة هو من أعلي المعدلات في العالم. ويتجاوز 335 دولارا شهريا. ولان الاستهلاك "الجنوني" هو السمة الغالبة في المجتمعات الإسلامية فهناك من الأسر من تلجأ إلي الاقتراض لشراء احتياجاتها وهو أمر أدي إلي تزايد حدة الديون العربية الخارجية. "عقيدتي" تطرح في هذا التحقيق السؤال: لماذا يستهلك المسلمون كثيرا؟ وكيف نواجه حمي الاستهلاك الترفي؟ والاجابة علي لسان العلماء في التحقيق التالي: في البداية يرصد الدكتور حمدي عبدالعظيم الخبير الاقتصادي المعروف والرئيس الأسبق لأكاديمية السادات للعلوم الادارية تداعيات مشكلة الإسراف الاستهلاكي علي ميزانية الأسرة وكذلك علي الاقتصاد الوطني فيقول: الواقع والإحصائيات يؤكدان بالفعل ان الاستهلاك العربي يزيد بصورة مطردة تصل في العديد من الأحيان لحد السفه والدليل علي السفه العربي الاستهلاكي ان كافة الإحصائيات تؤكد إهدار المليارات العربية علي الفياجرا وحفلات الزفاف وتدخين الشيشة وأطعمة الكلاب والقطط. والمواد الغذائية وللأسف الشديد فإن السلوكيات الاستهلاكية في العالم العربي تغيرت كثيرا. إما بسبب ثورة المتغيرات والإنتاجية الكبيرة فقد أصبحنا ننتهج مسلكا استهلاكيا ومعظم استهلاكنا جاء عشوائيا وأنا أري الاستهلاك المبالغ فيه يعد مرضا اقتصاديا اجتماعيا بسبب غياب الضابط الاجتماعي في عملية الاستهلاك فالكثير من الإمكانات التي لا يستفاد منها بشكل صحيح بإمكانها أن تشارك في عملية التكافل الاجتماعي مثل المواد الغذائية التي يتم إهدارها ومثل الأموال التي تنفق علي السلع غير الأساسية والذي لا يعرفه الكثيرون ان تأثيرات هذا السفه عديدة ليس فقط علي المستوي الفردي بل تمتد لتشمل كذلك إضعاف معدل الادخار المتدني أصلا في معظم الدول العربية وهذا المعدل يعد المؤشر الرئيس لقياس قدرة الدول علي البناء الذاتي لنهضتها واقتصادها وتوفير فرص أفضل للأجيال المقبلة فارتفاع معدل الادخار يعني فرص استثمارية جديدة ولكن وبينما يبلغ المتوسط العالمي للادخار 21%. ويرتفع إلي 39% في بلدان شرق آسيا فيما يبلغ المعدل ذروته في الصين مسجلا 47%. فإن المعدل لا يتعدي في الدول العربية الغنية بالنفط 18% علي الرغم من تمتعها بمستوي دخل جيد وينخفض المعدل كثيرا في بقية الدول العربية غير النفطية. المظاهر الاجتماعية وعن وجهة نظر الاجتماع في القضية يقول الدكتور يحيي مرسي أستاذ علم الاجتماع بجامعة حلوان: الإسراف يعني ببساطة في علم الاجتماع عدم نضوج الشخصية وقد يكون السبب فيه الجري وراء المظاهر الاجتماعية التي تؤدي إلي الترف والبذخ دون قيد وهو ما يؤدي إلي عملية تدهور طبقي آخذ في الاتساع والتعمق جيلا بعد جيل حيث يزيد الاتساع الضخم في الفجوة بين الأغنياء والفقراء مع بروز آليات اقتصادية تسمح للأغنياء بأن يزدادوا غني وتدفع بالفقراء لكي يزدادوا فقرا ليس هذا فحسب بل ان الزحف الاستهلاكي يدفع بالطبقات الفقيرة والمتوسطة لكي ينفقوا ما يفوق طاقتهم في مجالات الاستهلاك الكمالي مما يحدث خللا واضحا في ميزانية الأسر مع ما يسببه ذلك من مشكلات اجتماعية عديدة أبسطها زيادة حدة الخلافات الأسرية وانعدام الاستقرار الأسري. ويقول د. مرسي: إذا كنا نريد فعلا التصدي لمشكلات السفه الاستهلاكي فنحن في حاجة ماسة لإدراك أن نمط السلوك الاستهلاكي يتأصل لدي الطفل منذ الصغر وعملية التنشئة الاستهلاكية هي عملية مستمرة يتعلم الطفل من خلالها المعارف والمهارات والاتجاهات التي تتناسب مع حصوله علي المنتجات ولهذا فنحن في حاجة لمعالجة المشكلة في الأجيال الصغيرة أولا. الحجر علي السفيه وعن رأي الدين في هذه المسألة يقول الشيخ محمود عاشور وكيل الأزهر السابق: إذا كنا نرغب في مواجهة ارتفاع فاتورة الاستهلاك في المجتمعات العربية والإسلامية فعلينا أن نطاللب المواطن العربي بالتخلي عن عادات الاستهلاك الزائد عن الضروريات ومن المهم أن نستهدف الشباب المسلمين لأنهم الشريحة الأكثر استهلاكا في كافة المجالات فعلينا أن ننشر بينهم القيم الدينية الهادفة التي توضح أهمية الاعتدال الاستهلاكي تنفيذا لقوله تعالي "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين" "الأعراف: 31" وفي هذه الآية دعوة صريحة إلي اتباع التوسط والاعتدال في الاستهلاك ومن المهم أيضاً أن نوضح للإنسان المسلم أن الاعتدال في الاستهلاك سيوفر له فرصا كبيرة للادخار واحترام الوقت اعتبار ان الاستهلاك غير المنضبط بمعايير دينية وإنسانية يجعل الإنسان متلهفا للشراء ووقته موزع داخل هذه الحاجات خصوصا وان أوقات الفراغ تكون حافزا للاستهلاك غير المنضبط بالاضافة إلي فرصة الوقوع في فريسة لأمراض نفسية عنيفة تكون عائقا أمام تحقيق الإنسان لأي طموحات. ويجب أن نذكر الناس بالقاعادة التي أرساها النبي صلي الله عليه وسلم بقوله: "ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان ولابد فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه" فالغريب أن يعتبر الغرب هذه القاعدة مبدأ طبيا هاما في العصر الحديث بل إن بعض مستشفيات ألمانيا اتخذت من الحديث شعارا سطرته علي أبوابها ومداخلها في الوقت الذي نتجاهله نحن تماما. عادة مؤسفة أما الشيخ شوقي عبداللطيف وكيل وزارة الأوقاف المصرية لشئون الدعوة فيقول: لقد حددت الشريعة الإسلامية نمط الاستهلاك وكمية الطعام والشراب التي ينبغي أن يتناولها الإنسان المسلم وذلك من خلال قوله تعالي "يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا" وقوله تعالي "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا" فمن حيث النوعية يجب أن يكون الغذاء حلالا طيبا ومن حيث الكمية ينبغي الاعتدال وعدم الإسراف والدعوة إلي ترشيد الاستهلاك لا يقصد بها الحرمان من التمتع بملذات الدنيا بقدر ما يقصد بها العمل علي تربية النفس حتي يتمكن المسلم من القيام بدوره في النهوض بواجبه الاستخلافي في الأرض كما يقصد منها الدعوة إلي التوسط وعدم الإسراف في الاستفادة من نعم الله عز وجل والتي حث عليها الله سبحانه وتعالي في كثير من الآيات القرآنية مثل قوله تعالي: "إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا". فالمسلم مطالب بتطبيق منهج الله في الوسطية وعدم الإسراف قال سبحانه: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس" لانه اضافة إلي كره الله عز وجل للمسرفين فإن من نتائج الإسراف خاصة في الطعام والشراب إماتة القلوب قال صلي الله عليه وسلم: "لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب فإن القلب كالزرع يموت إذا كثر عليه الماء". وورد في الحكمة: "ان البطنة تذهب الفطنة". وقال أحد الصالحين: "إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة". وقد نهي الإسلام عن السفه لدرجة ان الله تعالي قال في القرآن الكريم "ولا تؤتو السفهاء أموالكم" "النساء: 5" فالمال في الإسلام مال الله والإنسان مستخلف فيه ويده علي ماله يد وليست يد ملكية مطلقة ومن هنا فان تشريع الحجر علي السفيه الذي لا يحسن التصرف في المال له أبعاد فلو أطلق العنان للسفهاء لكي يسرفوا ويبذروا ويرتكبوا المحظورات ويشبعوا الشهوات والنزوات لتحولت المجتمعات البشرية إلي مجتمعات قطيعية تحكمها الشهوة والنزوة.