معظم مكتبات المثقفين تباع لتجار الكتب القديمة من قبل الورثة أثار حادث حرق مكتبة الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل الشهر الماضي، الكثير من مشاعر الاستياء من البعض الذي يعادي الكتب ويكره المعرفة، إلا أن ما خلفته الواقعة، هو بمرارة الحسرة علي ضياع كنوز من ذاكرة مصر الثقافية ويومياتها التاريخية، وهنا تساؤل حول من يحمي المكتبات الشخصية لرواد الفكر والإبداع المصري، في ظل أعوام مضطربة متقلقلة النار فيها تحت الرماد، وإهمال تم تنظيمه في شكل مؤسسي. سؤال مشروع يلتهم فراغ الحياة الثقافية المصرية، المنخرطة في أتون الثورة الذي لا ينتهي لهيبه، وضجيج العنف المتواصل بلا انقطاع، يدهس عمالقة التنوير الذين أضاءوا مشاعل النور في سنوات ألق القاهرة الثقافي، عندما كانت "المعزية" مدينة أنوار لا إرهاب، في أوروبا لا محل للسؤال، فالمعتاد -في بلاد تحترم الكلمة- إقامة متحف في منزل الأديب والمفكر فور رحيله، يضم مكتبته الخاصة ومتعلقاته الشخصية. بعد حريق مكتبة هيكل؛ التي ضمت كنوزا معرفية ووثائق تاريخية، يلح السؤال عن مصير المكتبات المشابهة؛ وما أكثرها، في مصر، تختلف في قيمتها بحسب قدر صاحبها، إلا أنها تساعد في استكمال فسيفساء الذاكرة المصرية، التي تعاني من مرض النسيان، وتحكم الأهواء، المؤدي إلي اختلاق أوهام تكتسب سمعة الحقائق، في غفلة من التاريخ. أين تذهب المكتبات الشخصية التي تضم كتبا وكتابات شخصية لكبار بحجم طه حسين وعباس محمود العقاد وأنيس منصور وجمال حمدان وزكي نجيب محمود وأحمد لطفي السيد وغيرهم كثير؟!، ستحصل علي لا جواب في الأغلب، ففي زحمة الحياة، تتبعثر الأشياء، ربما لعدم إدراك القيمة، من العبث أحيانًا البحث عما ضاع، في بلد تجاوز التسعين مليون نسمة، نصفهم علي الأقل أميون لا يعرفون القراءة والكتابة. عاشت مصر خلال القرن العشرين لحظات ميلاد كبار مفكريها ووفاتهم، وبينها جري مداد الكتب والصحف، وكان كل أديب أو مفكر يستند إلي مكتبته الشخصية في التأليف، فقيل إن الأديب نجيب محفوظ كان يقرأ مائة كتاب ليكتب رواية واحدة، ولا شك فقد كان جماعة للكتب النادرة، منذ أيام حي الجمالية الذي سكن فيه محفوظ، بينما سكن الحي أعماله الخالدة. أنيس منصور (توفي عام 2011) الذي عرف بموسوعيته في القراءة والكتابة علي حد سواء، قال في أحد لقاءاته التليفزيونية إن مكتبته الخاصة تجاوزت ال 30 ألف كتاب، في جوانب المعرفة الإنسانية كافة، لكن الأهم كتاباته الشخصية والوثائق المتعلقة بفترة الرئيس الأسبق أنور السادات، الذي كان منصور كاتبه الأول ومفكره الأوحد لسنوات، فضلاً عن مراسلات أنيس منصور المتبادلة مع كتاب ومفكرين في مصر والعالم، معظمها لم تره عين إنسان. لا يختلف الوضع كثيراً، عند الحديث عن المكتبة الشخصية للمفكر الإسلامي المثير للجدل جمال البنا (توفي يناير 2013 الشقيق الأصغر لحسن البنا مؤسس تنظيم "الإخوان المسلمين"؛ وشتان ما بين الأخوين، فالبنا الصغير، الذي عرف بمشاغباته الفكرية للسلطة الدينية التقليدية وتحديه الأفكار العقائدية البالية، امتلك مكتبة ضخمة تتجاوز ال 15 ألف كتاب عربي، و3 آلاف كتاب بالإنجليزية، بعضها من أوائل المطبوعات في عالمنا العربي. لكن ما يميز مكتبة جمال البنا حقيقة، تلك المجموعة الفريدة لبعض أوراق حسن البنا الشخصية، وجميع أعداد مجلات الإخوان، التي صدرت في فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، ووثائق الجماعة التي تحكي الفصول الأولي من تاريخ ذلك التنظيم سيئ السمعة. إذا ما كنت مكتبتيّ أنيس منصور وجمال البنا لا يعرف مصيرهما، فإن الإهمال هو مصير مكتبة عملاق الأدب العربي عباس محمود العقاد، والتي تضم 18 ألف كتاب، بعد أن قبعت في أحد أدوار دار الكتب المصرية علي كورنيش القاهرة، مصفوفة داخل أرفف، تعلوها الأتربة، خمول لا يليق بشخصية العقاد الأدبية الصاخبة. يتقاسم مع مكتبة العقاد الإهمال، مكتبة صَّنوه وقرينه الفكري عميد الأدب العربي، طه حسين، فعملاً بمقولة من مخترعات الواقع المصري "ما يفرقه الفكر يجمعه الإهمال"، وكأن القدر أراد لهما مصير نديما جذيمة، لا يفترقان، تتقاسم مكتبتا طه حسين والعقاد، أحد الأدوار العلوية لدار الكتب المصرية، إلا أن مكتبة العميد لم يرحمها القدر، فتقاسمتها الأيادي؛ جزء منها في دار الكتب، والقسم الثاني في مركز طه حسين الثقافي (رامتان). ما تتعرض له المكتبات الشخصية في مصر، يكشف منحني الهبوط الثقافي في قاهرة القرن العشرين، فشتان ما بين البداية والنهاية، وهو ما يكشفه أستاذ التاريخ الإسلامي وعالم المخطوطات الأستاذ الدكتور أيمن فؤاد سيد بقوله: "مع تباشير النهضة العربية، اهتمت دار الكتب المصرية بضم مكتبات رواد التنوير، كمكتبة أحمد تيمور باشا، ومكتبة شيخ العروبة أحمد زكي باشا، ولمكتبتيهما يعود الفضل فيما تحتويه دار الكتب المصريةمن كنوز في المخطوطات والكتب القيمة والنادرة، ما جعلها واحدة من أعرق وأهم الدور الوطنية في العالم"، وأبدي سيد استهجانه لعدم وجود قانون ينظم عملية الاعتناء بمكتبات الشخصيات العامة بعد رحيلهما، مؤكداً أن معظم المكتبات الشخصية يتم بيعها من قبل الورثة إلي بائعي الكتب القديمة، لذلك تحول سور الأزبكية لبيع الكتب القديمة إلي مقبرة للمكتبات الشخصية للعديد من القمم الفكرية. وعن أهمية المكتبات الشخصية يقول فؤاد سيد: "المكتبات الشخصية بما تضمه من كتب تكشف اهتمامات صاحبها الفكرية، والتي من خلالها نستطيع تتبع مراحل تكوينه الفكري، كما أن المكتبة الشخصية تضم الإهداءات التي قدمت إلي صاحبها ما يكشف عن جوانب من صداقاته مع مختلف الشخصيات الثقافية المعاصرة له، ناهيك عن أن تعليقات صاحب المكتبة علي بعض كتب المؤلفين، وإضافة بعض تعليقاته عند قراءته لها، قد تضم بينها آراء جديدة لم ينشرها المثقف في كتبه المعروفة". من جهته قال رئيس دار الوثائق السابق الدكتور عبد الواحد النبوي، إن معظم الشخصيات العامة ترفض مد دار الكتب والوثائق بما لديها من مكتبات، سواء بالنص علي انتقالها إلي الدار بعد الوفاة أو عن طريق التبرع المباشر، وللأسف لا يوجد قانون منظم يلزم دار الكتب والوثائق بالإشراف علي المكتبات الخاصة للشخصيات العامة، أو أن يسمح بعلاقة تنظيمية مع المكتبات الخاصة، لذلك لا يحق لدار الكتب إلا أن تنتظر تقدم مالك المكتبة نفسه بطلب لإيداع مكتبته في سجلات دار الكتب. وأشار النبوي إلي أن بعض المكتبات الشخصية في مصر مهمة لما تمتلكه من وثائق شخصية، إلا أن معظمها يضم كتبا من الممكن أن تجدها في أي مكتبة عامة، فمعيار الأهمية لا يعتمد علي العدد الضخم للكتب لدي أي مثقف، بقدر ما ترجع إلي ندرتها وأهميتها، فمكتبة الأستاذ هيكل تكتسب أهميتها من احتوائها علي عدد لا يقدر من الوثائق التي تتعلق بتاريخ مصر علي مدار نصف قرن تقريباً، فضلاً عن امتلاكه لبعض الكتب النادرة. وتابع النبوي قائلاً: "قانون 256 لسنة 1956 المنظم لعملية إيداع الوثائق، أعطي الحق للهيئات الحكومية والأفراد الحق في مد الدار بالوثائق اختياريا، وليس إلزاميا، ما أدي إلي إضعاف دور دار الكتب والوثائق فليس هناك ما يلزم الشخصيات العامة كالأستاذ هيكل مثلاً، بتسليم وثائقها وأوراقها لدار الوثائق، وهو وضع نتمني تغيره بعد إقرار القانون الجديد الخاص بالوثائق، الذي لم ير النور بعد بسبب الأوضاع السياسية الحالية".