نشرنا في الأعداد السابقة تفاصيل أول أزمة في مجلس الأمة بسبب تمسك رئيس المجلس وعدد من الأعضاء علي رأسهم كمال الدين حسين، بتطبيق الديمقراطية السليمة.. ورغبة عبدالناصر في تطبيق شيء آخر.. ولم تكن آخر أزمة.. فبعد أقل من شهر حدثت الأزمة الثانية بسبب سياسة التعليم.. وكان بطلها تلك المرة كمال الدين حسين. تفاصيل الأزمة يرويها كمال الدين حسين فيقول: تقدمت ببيان سياسة وزارة التربية والتعليم إلي مجلس الأمة وأحيل إلي لجنة التربية والتعليم وتمت الموافقة عليه.. وكان البيان نتيجة لجنة تضم كبار رجال التعليم في مصر.. فقد كنت من المؤمنين أن أهل الخبرة هم الذين يجب أن نستمع إلي آرائهم وبالذات في الموضوعات التي تتعلق بمستقبل البلد والأجيال.. وكان البيان يتضمن اهتماما بالتعليم الفني والمهني وخطة التربية والتعليم لمدة 02سنة. ويواصل وفي صوته حسرة ومرارة: إن الخطة التي تضمنها البيان وكم أتمني الرجوع إليها لو كانت نفذت لكان موقف مصر الآن موقفا مختلفا تمام الاختلاف.. ولما كان في مصر أمي واحد ولما انهار التعليم العالي والتعليم الفني.. ولما أحسسنا بنقص في الفنيين لتشغيل مصانعنا.. وبعد أن تمت الموافقة علي البيان وصل إلي علمي أن عددا من أعضاء المجلس المعروفين بميولهم الشيوعية يحاولون جمع رأي عام في المجلس للموافقة علي تعديل نظام الجامعات، بفتح باب الانتساب بدون قيد ولا شرط، وكانت مجالس الجامعات حددته بالتجاوز عن عدد سنوات الرسوب في السنة الدراسية الواحدة.. ولم اهتم في بادئ الأمر.. إلا أنه حدث في أحد اجتماعات مجلس الوزراء وكان يرأسه جمال عبدالناصر أن قال لي أثناء الجلسة: ياأبوكمال ما تسيب باب الانتساب في الجامعات مفتوح للجميع.. عايزين الناس تبقي مبسوطة. وقلت له: مش ممكن ياريس.. احنا حددنا القبول لمن نجح وحصل علي 05٪ أما غيرهم فلن تكون هناك أماكن لاستيعابهم ولا أساتذة ولا مدرجات. فابتسم وقال: بكرة تشوف مجلس الأمة حيعمل لك إيه.. ولم أعر الأمر اهتماما في البدء.. إلا أنني فوجئت أن عددا من الأعضاء تقدموا إلي المجلس بمشروع قرار برغبة بإباحة الانتساب للكليات النظرية في الجامعات الثلاث.. وكانت وقتئذ جامعات القاهرة وعين شمس والإسكندرية، لجميع الحاصلين علي الثانوية العامة دون التقيد بحصولهم علي 05٪.. تقدموا بهذا المشروع يوم 2ديسمبر.. وبدأت جلسات مناقشته.. وأحيل إلي لجنة التربية والتعليم.. ولأول مرة لم تتخذ اللجنة قرارا محددا، فقد عارض المشروع عدد من أعضاء اللجنة وأيده عدد من الأعضاء.. لم تصل اللجنة بذلك إلي قرار.. وطبقا للائحة فقد أعيد مشروع القرار برغبة إلي المجلس لمناقشته.. وتحددت جلسة الثلاثاء 01ديسمبر 7591 لهذه المناقشة. بيان كمال حسين وقد بدأت الجلسة متأخرة عن موعدها في المساء بسبب وفاة أحد الأعضاء وهو المرحوم حسن عطية بالسكتة القلبية في البهو الفرعوني.. وبدأ عدد الأعضاء الحاضرين يتناقص مع مرور الساعات.. وقبيل منتصف الليل جاء دور مناقشة مشروع القرار بالرغبة ولم يكن باقيا بالجلسة إلا عدد ضئيل هم أصحاب المشروع بقرار برغبة.. ووقفت لأبدي رأيي في المشروع بقرار.. قلت: لقد راجعت الجامعات في إمكان قبول منتسبين جدد فكان قرارها بالرفض لسبعة أسباب.. وكنت فعلا قد راجعت الجامعات لإيماني أن أهل الخبرة هم الأحق بإبداء الرأي.. ولأنني من المؤمنين أن السعي لإرضاء بعض الجماهير بإقرار ما يضر بوطنهم لا يقبله إنسان حر مخلص لوطنه.. وذكرت الأسباب السبعة وهي: أولا: منافاة نظام الانتساب للتعليم الجامعي ووجوب إلغائه في أقرب فرصة. ثانيا: الضرورة المؤقتة هي التي دعت الجامعات لقبول العدد الكبير من المنتسبين هذا العام. ثالثا: أن نسب النجاح بين المنتسبين ضعيفة ولا تتناسب مع الجهد الذي يبذل معهم والأفضل أن يجدوا فرصا للعمل بالشهادة الثانوية بدلا من إضاعة الوقت والبحث عن العمل مرة ثانية. رابعا: هيئة التدريس قاصرة عن أن تقوم بهذا العبء الكبير. خامسا: أن إمكانيات عقد الامتحانات وتصحيح أوراق الطلبة بشكل يتفق مع العدل إمكانيات قليلة في الوقت الحاضر.. فإن الوقت الطويل في إجراء التصحيح يشغل هيئة التدريس عن الاطلاع والبحث العلمي.. سادسا: مستقبل خريجي الكليات النظرية مهدد بالبطالة وليس هناك ما يدعو إلي تفاقم المشكلة. سابعا: انقضي من الفصل الدراسي الأول معظمه ولم يبق سوي شهر واحد علي الامتحانات.. استقالة بعد منتصف الليل واستمرت المناقشة حتي بعد منتصف الليل.. وبعد قفل باب المناقشة أخذت الأصوات فنال مشروع القرار برغبة أغلبية كانت في الواقع أقلية لانصراف أغلب الأعضاء ولم يبق إلا مؤيدو، المشروع فقط.. ووجدت نفسي أنني لن أنفذ تحقيق هذه الرغبة لأنها ضد الصالح العام وليس الغرض منها إلا كسبا رخيصا لإرضاء بعض الجماهير.. وتنازعتني العوامل.. هل أبقي في منصبي ولا أنفذ قرار الرغبة.. فأكون ديكتاتورا.. أم استقيل وأترك المجال لغيري لتحقيق رغبة المجلس فأكون ديمقراطيا.. ولما كنت من غير المستوزرين الذين يحافظون علي المنصب حتي لو كان ضد ما يمليه الواجب نحو الوطن فقد قررت أن استقيل وذهبت إلي مكتبي في الوزارة وكتبت استقالتي.. وطلبت جمال عبدالناصر تليفونيا وأصررت علي أن أقابله في نفس الليلة.. وقدمت له استقالتي بعد منتصف الليل. وقام كمال الدين حسين من مكانه ودخل غرفة مكتبه وأحضر صورة من خطاب استقالته ونصه: السيد رئيس الجمهورية لقد عهدتم إلي القيام بأعباء وزارة التربية والتعليم، وقد حاولت جهدي أن أؤدي واجبي بما يرضي الله والوطن والضمير مترسما مبادئ الثورة المجيدة، عاملا علي خدمة بني وطني بكل ما أوتيت من قوة. ولكن يظهر من قرار مجلس الأمة في جلسة اليوم أنه غير مقتنع بما أوردته في بياني خاصا بموضوع الانتساب في الجامعات وما رأيته عن اقتناع وبعد استشارة المجلس الأعلي للجامعات ومجالس الجامعات المختلفة.. ولما كنت أجد نفسي إزاء ما عاهدت به ربي وضميري من ألا أقدم علي عمل إلا إذا كنت مقتنعا به تمام الاقتناع وبفائدة للوطن والمواطنين الذين أبذل نفسي دائما في خدمتهم. ولما كنت أجد نفسي غير قادر علي تنفيذ هذه الرغبة من المجلس فأني أرجو أن تتفضلوا بقبول استقالتي من وزارة التربية والتعليم، راجيا لكم دوام التوفيق في الأخذ بيد الوطن إلي مراقي العز والسؤدد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته المخلص كمال الدين حسين وانتظر كمال الدين حسين حتي انتهيت من نقل استقالته واستأنف حديثه قائلا: تركت الاستقالة لعبدالناصر معلنا إصراري عليها، وعدت إلي منزلي واعتكفت به، وجاءني في الصباح الأخ بغدادي محاولا اقناعي بالعدول عن قراري.. ولكنني أبلغته إصراري عليها.. وبدأ توافد أعضاء مجلس الأمة إلي منزلي يحاولون إقناعي هم الآخرون بسحب استقالتي علي أساس أن القرار برغبة لا يلزم الوزير تنفيذه.. إلا أنني كنت مصرا علي الاستقالة.. اعتبرت أنها محاولة لإحراجي برفض سياسة التعليم التي كنت رسمتها. عبدالناصر يزورني وفوجئت بعبدالناصر يحضر إلي منزلي في المساء.. مساء يوم 11ديسمبر وحاول إقناعي بسحب الاستقالة.. ولكنني رفضت.. وبعد انصرافه زارني رؤساء الجامعات الثلاث يؤيدون موقفي.. ويعلنون لي أنهم سيعقدون المجلس الأعلي للجامعات لمناقشة الموقف. وفي اليوم التالي.. يوم 21ديسمبر زارني المرحوم الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي ومكث معي أكثر من ساعة وأعلن تأييده لي واحترامه لقراري. ونشرت جريدة »الأخبار« تصريحا لأستاذ الجيل المرحوم أحمد لطفي السيد قال فيه: »إن كمال الدين حسين علي حق، بل علي ألف حق.. فما كان لمجلس الأمة أن يتخذ قرارا وهناك مجلس أعلي للجامعات، وأنا أعلم أن كمال الدين حسين رجل يعرف ما يقول وحريص علي عمله وعلي مركزه.. ولو كان من عادتي أن أهنئ الناس لهنأته علي موقفه، ولذلك فلن أهنئ كمال الدين حسين، فلا تهنئة علي واجب«. وفي نفس اليوم اجتمع المجلس الأعلي للجامعات برئاسة المرحوم محمد كامل مرسي مدير جامعة القاهرة وحضور الدكتور السعيد مصطفي السعيد مدير جامعة الإسكندرية والدكتور أحمد بدوي مدير جامعة عين شمس وجميع العمداء وأصدر قرارا بعدم قبول المنتسبين إلا في حدود الشروط التي سبق أن تم الإعلان عنها. وفي يوم الأحد 51ديسمبر طلب عبدالناصر أن يقابلني.. وحضر المقابلة المشير عبدالحكيم عامر.. وتم الاتفاق أن يرفض عبدالناصر الاستقالة علي أن يعلن أن السياسة التي يعرضها الوزراء علي مجلس الأمة لوزارتهم هي تعبير عن سياسة الحكومة.. ووافق عبدالناصر وانتهت الأزمة بعد أن جعلت عبدالناصر يقر سياستي ولا يسعي إلي كسب لإرضاء الجماهير علي حساب الصالح العام. ولكن هل انتهت محاولات عبدالناصر عند هذا الحد بالنسبة لكل من كمال الدين حسين وبغدادي.. إنه كان يشعر أن الاثنين يكونان جبهة ضده، وأنهما يعوقان تحركه في تحقيق أغراضه.