»حتي عثمان بن عفان« (صلي الله وعلي وسلم) وأرضاه رفض أمام من اجتمعوا علي قتله أن يترك الحكم وقال جملته الشهيرة "لست خالعا قميصا ألبسنيه الله عز وجل" قد تلقي تلك الكلمات ضوءا علي المشهد شديد الارتباك في مصر والممتلئ حتي حافته بالتحريض والاحتقان والكراهية الشديدة والانحيازات التي تدور حول جماعات وفرق وأحزاب وانتماءات تتخللها كلمات فقدت معناها من نوعية "كل الدم المصري حرام" وأخري تصرخ بأنه" لن يسمح بإراقة نقطة دم واحدة" في حين أن الواقع الفعلي يتحدث عن آلاف المصابين وعشرات القتلي الذين سقطوا في شوارع مصر وميادينها علي أيادي أشهر مجرمي العصر الحديث "الملثمين" المشهورين باسم "المجهولين". ولكن ومن المؤكد أن مصر ستشهد في الفترة المقبلة صراعا حادا وظهورا واضحا لجماعات العنف الديني السياسي الذين سيكون لهم كلمة في الفترة القادمة وهذا لا علاقة له بعزل الرئيس مرسي الذين كانوا يكفرونه علنا ومنذ البداية ولم يستبشروا بقدومه خيرا، فهؤلاء هم الخطر الحقيقي الذي يتهدد المجتمع المصري المفكك الآن علي خلفية الصراع مابين بعض التيارات الإسلامية والتي تتزعمها جماعة الإخوان الذين كانوا قد نجحوا في الوصول إلي الحكم بالفعل وفقدوه بفعل ما يتمتعون به من قدر هائل من العناد نافسوا به عناد "مبارك المشهور وهم لم يتواروا عن الحكم فقط ولكن سقطت معهم أسطورتهم التي اشترك في صنعها معهم حالة غياب الديموقراطية لسنوات طويلة في مصر بأنهم يمتلكون الكفاءات والأفكار والرجال العباقرة القادرين علي تغيير الأحوال وتحقيق الرخاء وفشلوا فشلا ذريعا خلال عام حكموا فيه ولم يقدروا علي تحقيق التوازن في الشارع ويرجع إليهم ومعهم المعارضة التي سقطت بدورها في الشارع فضل هذا الانقسام وأصبح الشارع المصري، حزينا، محاربا بعضه البعض، وسقط الجميع في اختبار الحنكة السياسية وفن الإدارة والتعامل مع الآخر، ولم يتبق لنا سوي حالة من الاحتقان تعيد إلينا أحداث ماض قريب لم ننسه حتي الآن من تحركات الجماعات التكفيرية الجهادية التي تعتنق فكر الخوارج القديم الذي لم يختف أبدا رغم كل الجيوش التي واجهته منذ جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه وحتي الآن فأفكارهم تعود وتخبو حسب كيفية مواجهتهم ولم يوقفهم أبدا سوي المواجهة الفكرية، التي لا نراها الآن بعد الأحداث الدامية التي تشهدها مصر وأدت إلي حالة من الاقتتال لايمكن أن نطلق عليها سوي "حرب شوارع" للصراع علي السلطة في المقام الأول تحت شعارات من نوعية الحفاظ علي الشرعية والديموقراطية ورغبة الجماهير وغيرها من الشعارات التي تقف لتغلف الصراع علي السلطة في حقيقة الأمر، ولكن الأمر شديد الخطورة هو ما يحدث علي الأرض الآن من مظاهرات حاشدة تنادي بعودة "مرسي" ولا تقبل بغير ذلك يدفعها شعور عميق بأنهم تعرضوا للظلم والإقصاء وهو رأي كثير من المصريين حتي ولو لم يكونوا تابعين لأي تيار، في مقابل تيار آخر يري أن خروج الجماهيرللمطالبة بعزل "مرسي" جاء كاسحا ومعبرا عن جموع المصريين ولكن هناك الكثير الذي أفسد المشهد من ظهور شخصيات بعينها كانت تابعة لنظام مبارك لا تتحدث عن الرغبة في التغيير فقط وهو حق مشروع ولكنهم يتحدثون عن المحافظة علي ثورتهم! بجانب الاعتقالات التي أذيع معظمها وغلق القنوات الدينية والقبض علي كل العاملين حتي عمال البوفيه، ولم يمح الإفراج عنهم مشهد اعتقالهم الذي أثار تخوف الجميع من عودة الشرطة إلي سابق عهدها ، ويزيد علي هذا كله مشاهد الجثث الملقاة علي الأرض والعنف الهائل وإلقاء الأطفال من فوق الأسطح الذي يتم اتهام الإخوان به مع ما يتلقونه هم أيضا من طلقات رصاص تقتلهم بإصرار شديد، فلم يعد هناك طرف بريء من الدم وليس كل مقتول مظلوما، ولا يمكن أن ننسي ما يحدث في سيناء من تغلغل جماعات العنف في شعابه منذ سنوات طويلة ، ولا ما يتعرض له الأقباط من هجمات عقابا لهم علي انحيازهم لثورة المصريين كما يري معارضو ثورة 30 يونيو حتي أن أكثر الأشاعات انتشارا وخاصة في كثير من الأحياء الشعبية أن الرئيس المؤقت المستشار عدلي منصور "مسيحي" وهو أمر يغذيه بقوة كثير من المعتصمين في رابعة الآن، رغم أن الرجل يتوسط اسمه"محمود"، وتحولت كل الأحداث الآن لغطاء سميك لموجة عنف ستضرب مصر إذا لم تواجه بقدر كبير من الحكمة والتغيير الحقيقي وترسيخ فكرة العدالة الاجتماعية وتقديم لغة الحوار والإقناع فالمعتقدات لاتواجه بتقطيع الأيدي فقط ولكن بمخاطبة العقول حتي ولو كانت ضالة ويري الدكتور سمير نعيم المفكر وأستاذ علم الاجتماع السياسي بأن موقف جماعات التكفير وأصحاب الفكر المتشدد سيعتمد علي شكل نظام الحكم في الدستور القادم الذي سيتم وضعه وسيحدد مستقبل مصر في مختلف نواحي الحياة، إلي جانب أن هذه الجماعات ستقوي وسيدخل إليها الكثيرون في حالة غياب مشروع قومي متكامل يوظف إمكانيات مصر الهائلة ويضع التعليم الحقيقي في بداية أولوياته فنحن نريد تعليما لايقوم علي إلغاء العقل والتلقي فقط كما كان حتي نقضي علي مفهوم السمع والطاعة بدون نقاش ويستغل ربع مساحة مصر فنقضي علي الفقر والبطالة والجهل والظلم الاجتماعي وبذلك نحرم الجماعات المتطرفة من البيئة الصالحة لزرع العنف والتكفير، ولنا تجربة في ذلك في فترة الخمسينات والستينات عندما كان لمصر مشروع قومي ولم يكن فيه تهميش لأحد ولا ازدراء للمرأة التي نتذكر عنها مقولة كانت سائدة "يابنت بلدي قومي وجاهدي وراء الرجال" وكانت العدالة الاجتماعية محققة حتي أن الأسعار ظلت ثابتة من عام 1952 وحتي 1976 ولم يكن هناك حالة فتنة طائفية واحدة وحدث بعد ذلك في أيام السادات أن خرجت تلك الجماعات وخرجت إلي السطح بعد انهيار المشروع القومي وتم خصخصة كل شيء من التعليم والصحة والثقافة. ويوضح الدكتور نعيم: ولا يبقي أمامنا الآن سوي طريقين إما أن نتبع طريق السلامة أو طريق الندامة الذي كان ما نسير عليه أيام مبارك ومرسي من بقاء لصورة الظلم الاجتماعي وأن يزداد الأغنياء غني والفقراء فقراً وتزداد الاحتجاجات والفوضي وتصبح التربة صالحة تماما لهؤلاء المتطرفين.. أما سكة السلامة فقد وضعت أسسها ثورة 25 يناير 2011 للتطور والتقدم والتنمية البشرية والعدل الاجتماعي. وبشأن كيفية مواجهة جماعات العنف التي قد تكون جزءا من المشهد القادم، يقول: نحن لدينا تجارب ولن نبدأ من نقطة الصفر فحتي في نظام مبارك لجأ إلي التفاوض معهم واستمالتهم إلي نبذ العنف وكثير منهم أعلنوا مواقفهم بوضوح ولكن ظلت بعض الخلايا نائمة تنتهز الفرصة لكي تخرج سافرة بعدما سنحت الفرصة بعد تولي محمد مرسي الحكم وأطلق لهم العنان وشجعهم في سيناء وأفرج عن كبار المجرمين الذين شاركوا في جرائم لقتل الشرطة وليس لدي أي أحد مانع أن نتبع نفس الطريق للحوار والمشاركة وعدم الإقصاء مع هؤلاء في الفترة الحالية، ونتوقع أن استجابة بعضهم ستكون موقفية وتكتيكية وهنا لابد أن تلجأ الدولة إلي طريق القانون وحده وبذلك تستخدم في مواجهتهم القوة الناعمة والقوة الخشنة، وأهم من كل هذا ما ذكرته عن مشروع قومي يتسع للجميع. ثمة حالة من الظلم تسيطر علي كثير ممن انتخبوا مرسي ويتم تصوير المسألة بأن هناك رغبة في محاربة الدين وليس إصلاح الشعب، وفي هذا السياق يقول الدكتور نعيم: لن يتحقق رفع الإحساس لدي البعض بالشعور بالظلم إلا بتحقيق حرية الفكر ونشر الحقائق والحوار لأن ما تلقاه معظم هؤلاء هو أمر من المرشد وقيادات جماعة الإخوان بأن ذلك هو الرئيس الشرعي مع غلق القنوات الفضائية التابعة لهم هو أمر يعمق بالفعل الإحساس بالظلم لديهم ولا يمكن أن ننسي أنهم تربوا علي عدم مناقشة ما يقال لهم لكن لو تم كشف الحقائق بشكل موضوعي وإنه لم يحدث أي نوع من أنواع الإخلال بالشرعية بل علي العكس الإخلال بالشرعية جاء من مرسي نفسه الذي خلف وعده مع الجميع وأنا يمكن أن أمثل الوضع بأن هناك شخصا أعطي توكيلا مسجلا في الشهر العقاري محدد المدة لشخص آخر بإدارة أعماله واكتشف بعد ذلك أن هذا الشخص غير أمين علي إدارة أعماله، وبالتالي من حقه هنا أن يقوم بإلغاء هذا التوكيل وهو ما حدث بالفعل في حالة خروج ملايين من المصريين ضد محمد مرسي. ويتابع: أقول له إن من حقهم أن يرشحوا أنفسهم وأن يستمروا كذلك في العمل السياسي ولا ينسحبوا من المشهد. وإذا كنا نبحث عن حالة من السلم الاجتماعي عن طريق التحاور مع الدكتور نعيم، فلابد لنا أيضا أن نلجأ إلي رجل متخصص في شؤون الجماعات الراديكالية وهو الدكتور نبيل عبدالفتاح الذي لا يستبعد عودة ظهور العنف من جانب الجماعات الراديكالية الإسلامية ، وهو أمر متوقع تماما ولكن التجرية كما يقول أثبتت أن النزوع إلي العنف والتشدد الديني لا يأتي بنتيجة ولا يحقق التفوق لهذه الجماعات ولدينا خبرات واسعة في التصدي الصارم لهذه الجماعات في حقبتي الثمانينيات والتسعينيات ولكن وجودها الآن سيكون بشكل مختلف تماما ففي الفترة السابقة التي ظهرت فيها وبخاصة في صعيد مصر كان هناك تعاطف مع فكر الجماعات الراديكالية ولكن الوضع الآن مختلف كثيرا فهناك اتجاه عام لرفض العنف والتكفير وبخاصة بعد التجربة الفاشلة لجماعة الإخوان المسلمين في السلطة ومحاولاتهم في تغيير شكل المجتمع وهو ما تصدي له الشعب بالتعاون مع أجهزة الدولة واكتشف المصريون بوضوح الفارق بين الخطاب الديني الذي انتهجوه وقالوا إنهم يسعون من خلاله إلي إقامة دولة قائمة علي العدالة الاجتماعية التي لم تتحقق ولم يكن هناك مشروع لتحقيقها وثبت أن كل ما يرغبون فيه هو الوصول إلي السلطة فقط وبخاصة مع ظهور لهجة خطاب قادة الجماعة التي يدفعون من خلالها قواعدهم الشعبية للصدام مع الشعب وبات واضحاً بين المصريين أن الخطاب الديني الذي تستخدمه الجماعة ما هو إلا قناع. مستقبل جماعة الإخوان المسلمين في مصر له رؤية خاصة لدي الدكتور نبيل عبدالفتاح حيث يري أنه لابد من التمييز بين أمرين، بين قيادة الجماعة الآن وحق آبائها المؤسسين وصولا إلي الأستاذ عمر التلمساني فإن جزءاً كبيرا من الجماعة هم من الشعب المصري ولا يتحملون أخطاء مرسي والقادة ولا يمكن إقصاء جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الجماعات الأخري من المشهد السياسي ولابد من التعامل معهم بالحوار والنقاش وإعلاء كلمة القانون وإذا كانت هناك اتهامات جدية في حقهم فلابد أن يتم إكفال الضمانة القانونية للدفاع عنهم وهذه هي تقاليد الدولة المصرية ولابد من إعطاء فرصة للعناصر الإصلاحية داخل الجماعة في إعادة تأهيلها وأن يحصلوا علي فرصتهم كاملة في التنافس الشريف علي أساس سليم. وحول قراءته لمظاهر العنف التي تنامت أخيراً في الشارع المصري يقول عبدالفتاح: إن العنف مؤلم وسقوط ضحايا أمر مؤسف ولكن ما حدث ليس بكثير علي انتقال ثوري وأن مشهد العنف الذي نتابعه الآن هو نتاج أخطاء سابقة وبخاصة بعد مشهد مرتبك ساهم فيه من قبل المجلس العسكري والإخوان والنخبة المدنية وتم الكشف أمام المصريين أنهم بلا كفاءات ولا خبرة ولا خيال سياسي.