أمريكا تخلت عن لاتفيا فى الحرب العالمية الثانية الدول التي استقلت من الاتحاد السوفيتي في بداية العقد الأخير من القرن العشرين ربما تكون أحدث تجارب التحول الديمقراطي في العصر الحديث. فهذه الدول كانت تحت حكم السوفييت تتعرض للقمع التام لكل الحريات الاجتماعية والاقتصادية، ثم بدأ يراود مواطنيها الحلم القادم من الغرب، حلم الحرية والديمقراطية والانفتاح الاقتصادي. هذا الحلم شجعته بقوة الولاياتالمتحدة وحلفاؤها الأوروبيون وبالفعل استقلت هذه الدول وبدأت تجربتها الديمقراطية الخاصة. حديثنا هنا عن لاتفيا وهل حقق هذا التحول للحلم الأمريكي السعادة والرخاء للاتفيين، هم لا يعتقدون ذلك. ربما تتشابه تفاصيل كثيرة في مرحلة التحول الديمقراطي في مصر وتونس ودول الربيع العربي مع المرحلة نفسها في دول البلطيق. فقد كانت هذه الدول تخطو خطواتها الأولي لبناء مؤسسات ديمقراطية. ونحن هنا كنا نعاني قمعا أمنيا وسياسيا، وكان الجميع صامتا لايجرؤ علي الحديث. كان الكل في حاله لا يشغله حال حكامه والناس المحيطين به. نفس الشيء كان يحدث في هذه المنطقة، وربما مع قمع وظلم أشد. كانت السجون مفتوحة دائماً لمن يتفوه بكلمة الديمقراطية، لم يكن هناك سوي جريدة أو جريدتين لا يشغلهما سوي تمجيد السوفييت وقناتين تلفزيونيتين حكوميتين. بعد الاستقلال في عام 1991 جاءت الحرية بعد عقود من الانغلاق وبالتالي كان حرية منفلتة بعض الشيء، كان الصراع والصراخ والسب والعويل الطابع الأساسي لهذه الحرية. ظهرت عشرات الصحف والقنوات التلفزيونية، الشعب كان ينزل إلي الشوارع في مسيرات ووقفات ضد السوفييت وضد أصحاب المصالح الذين كانوا يسعون بكل السبل لعودة الأمور كما كانت في الماضي. ولأن الممنوع مرغوب، فقد حدث وقتها تحول كامل للمجتمع اللاتفي، وانفتاح مندفع نحو كل ماهو غربي وأمريكي. توارت الثقافة الروسية بتاريخها وكتبها وثقافتها وحلت محلها الثقافة الأمريكية. الموسيقي الأمريكية وأفلام هوليوود كانت تذاع ليل نهار. مطاعم الهامبورجر بالنسبة للاتفيين كانت مبهرة، كانوا يقفون علي مطاعمها بالطوابير ليتذوقوا هذا الساندويتش الممزوج بطعم الحرية الأمريكية. المطعم الأمريكي الأكثر شهرة في العالم لم يكن افتتاحه في منطقة وسط المدينة في ريجا حدثاً عادياً بل جاء رئيس الوزراء بنفسه ومعه أعضاء الحكومة ونواب برلمان ليفتتحوه وزاره رئيس الجمهورية لتناول الطعام فيه. وبغض النظر عن التأثير الأمريكي، يمكن القول إن هذه الفترة من تاريخ لاتفيا كانت فترة حالمة جميلة. كان الجميع يمني نفسه بمرحلة جديدة مختلفة فيها كثير من الرخاء وقليل من الفساد، فيها سعادة ونمو وارتفاع مستوي المعيشة ومستوي تعليمي أفضل وقدرة اقتصادية تنافسية ومرتبات مرتفعة. لكن كعادة كل الشعوب التي تمر بمرحلة من التطلع الزائد في مستقبل مشرق تصطدم بواقع مختلف وبإمكانيات لا تتيح تحقيق كل المطالب والأمنيات. لا نستطيع القول إن لاتفيا دولة فقيرة أو أن سكانها يعانون من أزمات اقتصادية طاحنة. لكن الواقع يقول إن هذا البلد بعيد تماماً عن التطور الاقتصادي الذي حدث في دول غرب أوروبا. مازالت الرواتب عند بعض الفئات متدنية. مازال هناك ظلم في توزيع الثورات، مازال هناك طبقة من الفاسدين الذين يهدفون إلي السيطرة علي كعكة التجارة والصناعة والاستثمار. وهذا الفساد لايوجد كثيرون يتحدثون عنه، أو لا يوجد اهتمام من الشعب بإنهائه والقضاء عليه رغم مناخ الحريات الكبير هناك. ويري كارليس داجيليس وهو صحفي شهير في لاتفيا ويملك محطة إذاعة هناك إن الناس لم تعد كما كانت مهتمة بما يحدث في الحياة السياسية والاقتصادية. ويلقي كارليس الضوء علي التغيرات التي حدثت في الإعلام اللاتفي باعتبار أن ما حدث لوسائل الإعلام هو مرآة لما حدث في المجتمع كله. الإعلام كان يلقي الضوء في البداية علي الأوضاع السياسية الخاطئة والفساد الذي يجب القضاء عليه، والطابور الخامس السوفيتي وضرورة تحسين أحوال المعيشة والانفتاح علي العالم مع الحفاظ علي الخصوصية اللاتفية. وكان الجميع متفاعل مع الأحداث ويريد أن يقدم الأفضل. الآن الإعلام تغير، لم يعد يهتم بالسياسة، كل اهتماماته تتلخص في الترفيه، في أحدث صيحات الموضة، في أخبار الفنانين، في المكياج، في الأزياء، في اللايف ستايل والسيارات الفارهة. وهو ما نراه في الواقع اليومي للاتفيين، لم يعد هناك كثيرون يتحدثون عن السياسة، لم يعد أحد يذهب لصناديق الانتخابات، لم يعد الشباب يكترث بما يحدث. صحيح هناك حرية رأي وتعبير، لكن هناك أيضاً يأس. يأس من أن يستمع من في السلطة لمطالب الناس. يأس في تأثير صوت المواطن العادي في تحركات السياسيين وقراراتهم، الكل يتحدث لكن من في السلطة يفعل مايريد. الديمقراطية ليست صندوق انتخاب، الديمقراطية أولاً وأخيراً وعي لدي المواطن بقيمة رأيه وصوته، وعي بأن شيئاً لن يتغير إذا ظل صامتاً في بيته لايتحدث ولايعبر عن رأيه. للأسف هذا الوعي لم ينم بالشكل المطلوب مع التوسع في مستوي الحريات السياسية، لذلك مع الوقت بدأت تتحول الديمقراطية لأداة في يد أصحاب المصالح. "الهوليجانز" هو المسمي الذي يطلق علي رجال الأعمال الموالين للروس في المناخ السياسي اللاتفي. قد لايتمتعون بالشعبية الحقيقية لكنهم يملكون المال والنفوذ والعديد من وسائل الإعلام، هؤلاء يلعبون علي وتر العصبية لدي الأقلية الروسية في لاتفيا، يلعبون بالمال والمصلحة، يشترون الأصوات في الطبقات الفقيرة في المجتمع اللاتفي ومع قلة الوعي السياسي وعزوف عدد كبير من جيل الشباب خاصة علي التصويت في الانتخابات، تجني هذه الطبقة الغنية ثمار الديمقراطية والحرية في أحيان كثيرة. بالطبع هناك مقاومة لكنها ليست بالقوة الكافية. المقاومة ستأتي مع رجوع الناس للاهتمام بالشأن العام مرة أخري، مع إصرارهم علي الإدلاء بأصواتهم وعدم الاكتفاء بذلك فقط، لكن بنزولهم إلي الشارع أيضاً لضمان ألا ينحرف من أعطي الشعب ثقته بهم عن المسار الصحيح والسليم. وعن اعتماد لاتفيا علي القوي الكبري في نيل استقلالها وكون أمريكا هي الحليف والصديق الأهم للاتفيا منذ الاستقلال. اعترف الصحفي ديدزيس ميلبكسيس بدور الولاياتالمتحدة وخصوصاً وسائل الإعلام الأمريكية في نشر مطالب اللاتفيين بالاستقلال عن الاتحاد السوفيتي وساهم في ذلك أيضاً وجود جالية كبيرة جداً من دول البلطيق في الولاياتالمتحدة ساهمت في عرض القضية بشكل واسع هناك. وبالفعل الولاياتالمتحدة الآن هي الحليف وصديق قوي للاتفيين، لكن ديدزيس في نفس الوقت شكك في نوايا هذه العلاقة القوية وهل هي بالفعل نابعة من محبة حقيقية أم أنها لعبة مصالح لو تغيرت تتحول الصداقة لجفاء ويتحول حلفاء الأمس إلي أعداء. هي بالطبع لعبة مصالح، ويكفي أن نذاكر التاريخ جيداً عندما تخلت الولاياتالمتحدة عن دول البلطيق بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية رغم رغبة هذه الدول في الاستقلال. لكن لعبة المصالح كانت أكبر والاتفاق الذي تم بين روسياوالولاياتالمتحدة هو بقاء هذه الدول تحت السيطرة السوفيتية مقابل إنهاء الحرب. وعندما تغيرت مقاييس اللعبة وأصاب الدب الروسي الوهن تحول الأمر تماماً وساهمت الولاياتالمتحدة بقوة في استقلال هذه الدول ورعاية المرحلة الانتقالية فيها. ويري ديدزيس أن اعتماد أي شعب علي اللاعبين الخارجيين في تحقيق مكاسب سياسية داخلية لابد أن يكون له حدود وأن يكون عن دراسة متعمقة عن أسباب دعم الخارج لمطالبه السياسية وماهي المكاسب التي ستحققها هذه الدولة التي تدعم المعارضة في البلاد والحساب علي هذا الأساس. السياسة لعبة مصالح بلا جدال ولا شك، وفي ظل العولمة وفي ظل تشابك المصالح الاقتصادية لم تعد القرارات السياسية في أي دولة من محض صدفة أو تحرك تلقائي ولكن من خلال حسابات لها علاقة بالاقتصاد والمصلحة. وهناك مثال واضح جداً في لاتفيا لهذه النظرية. ففي عام 2008 وبعد وقوع الركود الاقتصادي العالمي بعد انهيار بيزنس العقارات في العالم. دخلت لاتفيا في أزمة اقتصادية عنيفة وكان لابد من إيجاد حلول لهذه الأزمة وكان أمام البرلمان اللاتفي خياران. إما فرض سياسات تقشف وزيادة الضرائب وإما خفض قيمة العملة اللاتفية "اللاتس" (وهي بالمناسبة عملة قوية جداً وسعرها ضعف سعر الدولار الأمريكي)، وكان الاتجاه لخفض سعر العملة بالفعل، لكن حدثت ضغوط كبيرة من بعض النواب، وتم فرض ضرائب جديدة وسياسة للتقشف وخفض النفقات. وبعد ذلك تناولت بعض وسائل الإعلام السر وراء هذه الضغوط وهو بنك "سويد بنك" السويدي الذي يسيطر يملك استثمارات كبيرة جداً في البلطيق وكان علي وشك الإفلاس بعد الأزمة المالية العالمية خاصة إذا تم خفض سعر العملة في لاتفيا. لكن عدم خفض قيمة العملة أنقذ هذا البنك، وبالتالي دفع المواطن اللاتفي من جيبه لينقذ البنك السويدي ويحقق مصلحة رأس المال علي حساب مصلحة المواطن نفسه. دومينيكا نوجوكايت طالبة في كلية إعلام من دولة ليتوانيا وهي أيضاً من دول البلطيق وظروفها مشابهة للغاية إن لم تكن مطابقة للاتفيا. دومينيكا غير متحمسة للتجربة الديمقراطية في بلاد البلطيق، تري أن الديمقراطية لم تكن حلاً لمشكلات بلادها بل علي العكس، أغرقت الناس في بحر من الجدل والحديث غير المجدي وفي النهاية لا شيء يحدث ولا شيء يتغير. كطالبة في الإعلام هي درست في الجامعة معايير مهنية وأخلاقية لمهنة الصحفي والإعلامي تري أنها لن تطبقها في الواقع. تري أنها لن تستطيع أن تطرح في وسائل الإعلام مشاكل اجتماعية وسياسية حقيقية لأنه ببساطة لم يعد أحد يكترث، أو بالأحري فإن رجال الأعمال والمصالح لن يهتموا بطرح هذه القضايا لأنهم لا يريدون سوي جني المال، لا يريدون سوي الموضوعات الاستهلاكية الخاصة بالموضة والفن والأناقة، ولا يهتمون بطرح المشكلات الحقيقية. لا يوجد أي ضابط لهذه الأمور، لا يمكن أن تجبر أحدا علي مهاجمة الأوضاع السياسية أو التحدث عن مشكلات الناس. في حين أن الدولة التي عليها هذا الدور في طرح رؤية لإعلام هادف مستقل يتحدث عن مشكلات الناس وهمومهم لا تدعم هذا الاتجاه لأنها ببساطة لا تريده. هم سعداء بهذا الوضع ويقولون هذه حرية ونحن لا نتدخل في الإعلام ولا في اتجاهاته ولا في آرائه. الكل حر لكن هذا كذب. إذا استمر هذا الوضع نحتاج ثورة وفترة انتقالية جديدة"