الشمس ساطعة والثلوج مازالت تغطى قنوات المىاه الحديث عن روسيا في لاتفيا يثير غضب الناس تماماً كما هو الحديث عن إسرائيل في مصر 73٪ من مباني العاصمة ريجا مسجلة في منظمة اليونسكو كمبان تراثية ربما سمعت عنها بصورة عابرة، أو ربما عن طريق متابعتك لمباريات كرة القدم الأوروبية شاهدت منتخبها الكروي في إحدي المباريات. لكن بالتأكيد كثير منا لا يعرف الكثيرة عن هذا البلد الجميل الذي يدعي "لاتفيا"... بنظرة أولي لهذه الدولة التي لا يتعدي عدد سكانها ال2مليون نسمة والتي انضمت عام 2004 للاتحاد الأوروبي، قد تعتقد أنه لا يوجد الكثير لنتحدث عنه هنا. لكن الواقع أنه خلف هذا الهدوء الظاهري يوجد تفاصيل دقيقة وصراعات دفينة وقصص تاريخية وتجربة ديمقراطية ومرحلة انتقالية تستحق الدراسة والاهتمام. لاتفيا هي إحدي دول البلطيق مع ليتوانيا واستونيا وهي ثلاث دول نالت هذا اللقب لوقوعها علي شاطئ بحر يحمل نفس الإسم "بحر البلطيق". تلك الدول كانت من أوائل المناطق التي حصلت علي استقلالها فور انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991 رغم أنها لا تبعد كثيراً عن العاصمة الروسية موسكو. العاصمة هي "ريجا"، مدينة أوروبية جميلة تتعافي في هذا الوقت من العام من قسوة البرد القارس في الشتاء لتبدأ ثلوجها في الذوبان وتظهر أوراق الشجر الخضراء علي استحياء وتظهر معها حركة الناس وهم أكثر نشاطا وحيوية وانطلاقا. الجو في الشهور الأولي من الربيع في هذه البلاد يبدو أكثر برودة من شتاء مصر في شهر يناير، لكن الاختلاف هو الاستعداد لهذا البرد حيث أن التصميم الهندسي والتدفئة في الأماكن المغلقة تجعلك لا تشعر بالبرد نهائياً سوي وأنت في الشارع فقط، بينما في مصر لو سألت أي أجنبي مقيم بمصر سيقول لك أنه لا يتحمل برودة الشتاء في مصر لا لشئ ولكن لأن البيوت غير مستعدة. المدينة يعبرها نهر دفينا الذي يصب في خليج البلطيق وتتفرع منه قنوات تنتتشر في أنحاء ريجا. مع قدوم فصل الربيع تري في تلك القنوات واحدة من أجمل المشاهد التي من الممكن أن تراها حين تبدأ الثلوج التي تغطي القنوات في الذوبان وتري الشمس ساطعة وكتل الجليد عائمة يتخللها ممرات مياه صغيرة تعبر فيها الأوز والبط الملون، والذي يمنع إيذاؤه واصطياده. ريجا لا تعرف الزحام. وكيف تعرفه وكل سيارة تسير في الحارة المخصصة لها لاتنحرف يميناً ولا يساراً لاتقف سوي في الإشارات التي يتم احترامها رغم عدم وجود عساكر للمرور. وهذا الانسياب المروري ينعكس بالطبع علي المواعيد واحترامها، فكل شئ بالساعة والدقيقة ، لا يمكن لأحد أن يتأخر عن ميعاده لأنه ببساطة ليس لديه حجة للتأخير. ورغم مرور لاتفيا بحروب وتقلبات سياسية مختلفة إلا أنها لم تتعرض للهدم بالكامل مثل الذي تعرضت له برلين مثلاً بعد الحرب العالمية الثانية. لذلك فحوالي 73٪ من مباني العاصمة ريجا مسجلة في منظمة اليونسكو كمبان تراثية عريقة. ورغم أن المباني التي تراها في ريجا ربما تراها في مدن أوروبية أخري عديدة إلا أن مايلفت انتباه أي زائر هو التصميم الضيق لمعظم الشوارع بحيث تبدو المدينة وكأنها مجسم صغير للحالة المعمارية الأوروبية، تشعر كأنك في استديو أو بلاتوه سينمائي، وبالفعل تبدو المدينة كمكان مثالي لصناع السينما بسبب هذا الطابع وقلة عدد السكان وتم تصوير عدد كبير جداً من الأفلام الروسية في شوارعها بخلاف فيلم شارلوك هولمز النسخة القديمة. الطبيعة السكانية في لاتفيا جعلت للمرأة دورا كبيرا جداً في الحياة الاجتماعية، حيث أن دول البلطيق تتميز بوجود عدد أكبر من السيدات عن الرجال، وهو ما انعكس علي خروج المرأة للعمل، حيث تراها في كل مكان تعمل بائعة وفلاحة وتاجرة بل وسائقة أتوبيس وترام وقطار. وعندما تسأل عن المرأة اللاتفية بشكل أكثر تفصيلاً تجد أنها امرأة تعمل في جد وإخلاص، بل وتعول أسرا بأكملها. وفي كثير من الأحيان تجد أسرة الزوج فيها لايعمل شيئا سوي أنه يذهب ليلاً إلي البار أو النادي الليلي وينام طوال النهار، بينما تنزل المرأة في الصباح لتعمل وتحصل علي قوت يومها لبيتها وأولادها. تاريخ ريجا أو لاتفيا بشكل عام يتمحور في دولتين هما ألمانياوروسيا. طوال تاريخها كانت لاتفيا محتلة من تلك الدولتين بالتناوب وبينهما كانت هناك فترات قصيرة من الاستقلال. كانت هذه الدولة دائماً مطمعاً للغزاة نظراً لأهميتها الاقتصادية لوجود نهر يسمح بعبور السفن من روسيا إلي خليج البلطيق ومنه إلي كامل أوروبا. الشعب اللاتفي كان دائماً مايعمل بالزراعة فقط، وكان يترك التجارة للوافدين من الجاليتين الروسية والألمانية الذين كانوا يتمتعون بالثراء الفاحش في مقابل فقر سكان البلد الأصليين. لكن رويداً رويداً بدأ عدد من اللاتفيين يتفهم أهمية التجارة في بلدهم، وبدأت تظهر طبقة من الأثرياء اللاتفيين ربما أشهرهم هو "جيلد" أو كما يسمونه "جيلد العظيم" الذي اشتهر كتاجر للسلع الغذائية في بداية القرن العشرين. هذا الرجل كان له قصة طريفة، فبعد أن صار أحد أهم التجارفي البلاد طلب الانضمام لاتحاد التجاريين الذي يضم في عضويته تجارا من الألمان فقط. وبعد أن رفضوا قرر تشييد مبني عظيم مباشرة أمام مبني اتحاد التجاريين الألمان ووضع علي سطحه سطحه قطة توجه مؤخرتها تجاه مبني الألمان وكأنها تقوم بإلقاء مخلفاتها عليه. وبعد أن شعر الألمان بالإهانة قرروا الموافقة علي قبول عضوية جيلد الشرفية مقابل تحويل القطة مؤخرتها للاتجاه الآخر. لعل أبرز مايؤثر علي الحياة السياسية في دول البلطيق هو تاريخهم مع الاتحاد السوفيتي. وهي مرحلة مازال تأثيرها ظاهراً حتي الآن. فالغريب أنك عندما تتحدث عن روسيا تجد الوجوه قد تغير لونها وظهر الغضب عليها، تماماً كما لو كنت تتحدث عن إسرائيل هنا في مصر. هذا الأمر قد تستغربه كزائر في البداية، لكن عندما تعرف التفاصيل تفهم الأبعاد المختلفة لتلك الحساسية الموجودة بين اللاتفيين والروس، فمن الواضح أن الشعب عاني كثيراً من التضييق الشديد الذي كان يفرضه السوفييت علي الشعب سواء في الحياة الاجتماعية أو في التحكم الاقتصادي في كل موارد البلاد. الممنوع مرغوب كلمة تسمعها وتجد معناها هنا في ريجا، فكل شئ له علاقة بالثقافة الغربية كان محرماً ومجرماً قبل الاستقلال عام 1991. جميع المطاعم التي كانت تحمل طابعا غربيا تم إغلاقها. تسمع هنا في ريجا القديمة عن كافيه شهير تم إغلاقه وحبس صاحبه فقط لأنه كان يقدم مشروب الموخيتو الأسباني، وتم افتتاحه ثانياً بعد الاستقلال. تري فروع مطاعم الوجبات السريعة الأمريكية في كل مكان، وتجد المفاجأة أن المطعم الأمريكي الأكثر انتشاراً حول العالم، قام بافتتاح أول فرع له في المدينة القديمة رئيس الحكومة اللاتفية بنفسه وعدد من الشخصيات السياسية البارزة في عام 1995. هذه المرحلة خلقت نوعا من الحساسية بين اللاتفيين وبين كل ماهو روسي. والمشكلة الأكبر أن هناك جالية كبيرة من أصل روسي تعيش في البلاد، ولوبي قويا يتبع موسكو يسمي "الهوليجانز" وهم رجال أعمال أثرياء يعملون سياسياً لضمان بقاء مصالح روسيا الاقتصادية في البلاد. هناك نوع من الاحتقان كبير خاصة فيما يتعلق بالثقافة والقومية. فمازالت حتي الآن تتمسك الأجيال الثانية والثالثة من الروسيين بالتحدث بلغتهم، لدرجة أنك من الممكن أن تري حديثاً دائراً في الشارع بين شخص يصر علي التحدث بالروسية وآخر باللاتفية والاثنان يفهمان بعضهما لكن كل منهما متمسك بلغته. كما تطالب الجالية الروسية كل فترة بحقوق مميزة مثل مشروع القانون الذي تقدموا به باعتبار اللغة الروسية لغة ثانية في لاتفيا، وهو الطلب الذي تم رفضه بشدة بالطبع. كل هذه الأمور تستفز اللاتفيين، الذين يرون في هؤلاء الأشخاص غير منتمين لبلادهم التي تربوا فيها، ولايحترمون تاريخها ولا خصوصيتها وتجد كثيرا من الناس هناك يقول "حسنا هم يحبون روسيا، فليذهبوا إليها، لماذا يريدون جلب روسيا مرة أخري داخل بلادنا" في المقابل هناك تقارب واضح بين اللاتفيين والأمريكان باعتبار أن الولاياتالمتحدة ساعدتهم في الاستقلال عن الاتحاد السوفيتي، وأيضاً لوجود عدد كبير من اللاتفيين الذين عادوا إليها بعد أن هربوا من بطش السوفييت في عهود سابقة. التجربة الديمقراطية في دول البلطيق تجربة وليدة، بدأت مع سقوط الاتحاد السوفيتي، تلك التجربة لها ملامح تشبه كثيراً ما يحدث في بلادنا من مرحلة انتقالية شهدت انفتاحاً كبيراً للحريات ونزول الشعب لأول مرة في انتخابات ديمقراطية حقيقية، وكيف لم يكن صندوق الانتخاب نهاية المطاف للاتفيين، بل بداية تجربة ديمقراطية مازالت في طور التشكيل والتهيئة خاصة أن الديمقراطية لم تكن ذلك الحلم الوردي الذي يحقق كل أماني الرخاء والتطور والاستقرار. تجربة مهمة ومفيدة نتحدث عنها الأسبوع القادم.