دبت الشيخوخة في أوصال مصر بعدما تحول وجهها البهي إلي صفحة مشوهة ومجعدة بفعل الإهمال فما من طريق إلا ورقدت فيه القمامة تلالا كأنها جبل الظلمات، وقد تواطأت معها الحفر والمطبات تقصم ظهور السيارات و»تقصف عمرها بدري« ثم تتكفل بالسائرين فتصيبهم بالكسور المميتة.. ناهيك عن مياه الشرب غير الصالحة للاستخدام الحيواني لاختلاطها بالمجاري التي تطفح فتصيب الشوارع والناس بالشلل والأمراض الفتاكة.. يعني دائرة جهنمية من عته شيخوخة المدينة وعجزها عن تقديم الخدمات الحيوية للناس الذين أصيبوا بفعل الفقر بحالة من عدم الاتزان والتداعي... لقد أصابنا الإهمال والفساد بالعجز عن مواجهة الحياة لأننا لانملك أدني أدوات المقاومة حيث أصابنا الفقر بالشلل والبؤس والإحباط والاكتئاب. وأذكر هنا رواية بديعة للأديب الكولومبي جابرييل جارثيا ماركيز الحائز علي جائزة نوبل عن روايته الشهيرة »مائة عام من العزلة« أما الرواية التي أشير إليها الآن فبعنوان: »ليس لدي الكولونيل من يكاتبه« وقد رأيت فيها حالة مقاومة إيجابية رغم الوهن والشيخوخة فهذا الكولونيل العجوز يعيش وحيدا مع زوجته المريضة بالربو بعد وفاة ابنهما الوحيد، ويقوم بإرسال خطابات مستمرة إلي الجهات المعنية أملا في الرد عليه وزيادة راتبه التقاعدي لكن الرد لايصل أبدا حيث لايوجد من يعنيه أمر الكولونيل كي يكاتبه ومن ثم يقوم الكولونيل بتربية ديك وتسمينه باقتطاع غذائه من قوت يومه الشحيح هو وزوجته المسنة العليلة، وذلك كي يشارك به في مسابقة مصارعة الديوك التي يأمل أن يفوز فيها ذلك الديك فيحصل الكولونيل العجوز علي قيمة الجائزة التي ستوفر له دخلا يعيش به لعدة أشهر هو وزوجته.. في هذه القصة يشبه الكولونيل فقراء كثيرين في مصر ممن يقوم أكثرهم بتربية الدواجن والطيور لبيعها والكسب من هذه التجارة وكذلك توفير الغذاء من بيضها ولحمها وهذه صورة من صور التحايل علي لقمة العيش ودرء الفقر الذي اكتسح ديار معظم المصريين فأصبحوا مثل الكولونيل الذي ينتظر خطاب العدل والإنصاف من الدولة فلا مجيب كأنه يصرخ في الصحراء الكبري، فيكون عليهم مثله أن يكافحوا من أجل لقمة العيش بشتي الطرق والوسائل البدائية المتاحة حتي لو وصل الأمر إلي بيع الليمون في إشارات المرور. إن الأدب الذي يستلهم الواقع، يعيد إنتاجه بعبقرية تتلاءم مع أزمات ومحن البشر علي اختلاف مواقعهم في كل زمان ومكان.