أبطال الفيلم فى العرض الخاص يندر أن يصل النجم إلي الستين وهو لايزال محتفظاً بدرجة كبيرة بتألقه وتوهجه الفني، عادة ماتخذل السنون شعبية النجوم في مرحلة ما بعد الخمسين، فمابالك بالستين؟ طبعا هناك نجوم استثناء لهذه القاعدة، فلم يكن شون بين أو روبرت دي نيرو، وآل باتشينو، وجاك نيكسلون يوما من النجوم الذين يعتمدون علي وسامتهم، ولذلك فإن التقدم في السن لم يكن بأي حال مشكلة لأي منهم، ولكن ريتشارد جير كان يوما، من النجوم الذين اشتهروا بالوسامة، وملامح الرجولة، وكان الرهان عليه أن يقدم أدوارا رومانسية تخلق منه نموذجا أو استنساخا من روبرت ريد فورد أو مارلون براندو، وخاصة أن أفلامه الأولي كانت تسير في هذا الاتجاه "الجوجولو الأمريكي"، ضابط وجنتلمان، ولكنه لأسباب غير واضحة، قرر أن يغير مساره، ويتجه إلي نوعية مختلفة من الأدوار لاتعتمد علي الوسامة، ويتمرد علي الصورة الذهنية للنجم الوسيم. وربما يكون هذا أحد أسباب تعثره، في فترة ما من حياته! ولكن لأن الإنسان في أي مهنة أو مكانة هو نتاج لاختياراته، فقد انتظر طويلا، حتي جاءته الفرصة ليعود مرة أخري وبقوة إلي بؤرة الضوء بعدما قدم فيلم امرأة جميلة مع جوليا روبرتس، ثم العروس الهاربة، و"سامرباي" مع جودي فوستر، ثم قدم شخصية سير لانسلوت في فيلم الفارس الأول، أمام كل من شون كونري وجوليا أرماند، ولكنه عاد مرة أخري إلي صفوف متأخرة من بين نجوم هوليوود، نظرا لصعود جيل ثان من النجوم منهم توم كروز وبراد بيت، وظل ريتشارد جير يقدم أفلاما متوسطة القيمة، لم تنطلق باسمه أبعد مما كان عليه، ولسبب غير مفهوم أيضاً، ظل قانعاً بتلك المكانة! لم يصارع كثيرا حتي يتخطاها، إنه ينتظر فرصة ما تنطلق به مرة أخري إلي الصف الأول، أو تجعله باقياً في حلبة السباق، وفي زيارته القصيرة للقاهرة العام قبل الماضي، عندما كان ضيفا علي مهرجانها السينمائي، حضرت الندوة الصحفية التي أقيمت له، وإدارتها الممثلة داليا البحيري، ولم تكن تعرف للرجل سوي فيلمه "امرأة جميلة"، كنت معنية بسؤاله عن كيفيه اختياره لأفلامه، وخاصة اثنين منهما لم يظهر في الأول " سيمفونية أغسطس "للمخرج الياباني سوي في ثلاثة مشاهد فقط، بينما استغرق دوره الثلث الأول من أحداث "هاتشي.. قصة كلب" وكانت البطولة للكلب! وكان رده في منتهي الظرف، والبساطة في الفيلم الأول كان المخرج الياباني العظيم يحتاج لاسم ممثل أمريكي ليضمن توزيع فيلمه في الولاياتالمتحدة، ولم أمانع أن أكون هذا الممثل لمساندة تجربة مخرج كبير في حجم كيرو ساوا، وفي الفيلم الثاني أعجبتني قصة الكلب باتشي وهي قصة حقيقية حدثت في اليابان، لكلب وفي اعتاد أن ينتظر صاحبه، عند عودته من عمله علي محطة القطار، ليصاحبه للمنزل، وبعد وفاة صاحبه ظل الكلب ينتظر كل يوم في نفس الموعد، لمدة عشرين عاما، ولم ييأس أبدا أو يمل الانتظار حتي أصابته الشيخوخة وتوفي، وأقام له الأهالي الذين يعرفون قصته تمثالا وضعوه علي المحطة، كنت أعلم أن الكثير من نجوم هوليوود ربما يتحفظون في قبول الدور، ولكنني لم أتردد في قبوله، لأنني أعجبت بالسيناريو، وبالحكاية! كان هذا تفسيرا مقنعاً بما فيه الكفاية، يبرر لماذا تراجع اسم ريتشارد جير، عن الصف الأول، إنه من يلعب الأدوار التي تروقه فقط، بصرف النظر عن كونها ضمن أفلام مضمونة النجاح أم لا! وفي أحدث أفلامه "ARBITRGE" وترجمته الحرفية الموازنة، أو المحاسبة، يسترد ريتشارد جير عافيته الفنية، بل يقدم واحدا من أهم أدواره السينمائية، إن لم يكن أهمها علي الإطلاق! إخراج نيكولاس جاريكي، وبطوله سوزان ساراندون، تيم روث، وبريت مارلينج، وقد عرض الفيلم مؤخراً ضمن مهرجان سانداس، وتم اختياره ليكون فيلم افتتاح مهرجان أبو ظبي الذي يقام من الفترة ما بين 11 - 20 من أكتوبر الحالي. تبدأ أحداث الفيلم بليلة عائلية في قصر الملياردير روبرت ميللر "ريتشارد جير" للاحتفال بعيد ميلاده الستين، ويبدو الرجل هادئا سعيدا وهو يلقي كلمة يشكر فيها عائلته الصغيرة المكونة من زوجته "سوزان ساراندون" وأبنائه وأحفاده، ولكنه بمجرد إطفاء الشموع يهرع للقاء عشيقته الفنانة التكشيلية الشابة، التي كانت تنتظره ليشاركها افتتاح معرضها الفني، وفي نفس الوقت، كان علي موعد لمناقشة شروط بيع شركاته التي كانت تواجه أزمة اقتصادية طاحنة تهدده بالإفلاس، وسط كل هذا كان يتصرف برباطة جأش وهدوء حتي لاتفلت الأمور من بين يديه، فهو يؤمن أن الانهيار الحقيقي لايحدث إلا لو تصرف الإنسان وكأن لديه مشكلة ما، وعليه أن يبدو دائما وكأنه يسيطر علي الأمور ويعرف كيف يواجهها، لقد كان حريصا كل الحرص أن يبعد أفراد عائلته عن مشاكله، وأزماته، رغم أن ابنته تعمل معه محاسبة في شركاته، إلا أنها لم تعرف أن الشركة تعاني أزمة، وأن والدها علي شفا الإفلاس! ولكن.. الأمور ترتبك ويقفز الفيلم الي نقطة ذروة، عندما يقع حادث سيارة، تذهب ضحيته عشيقته الشابة، وينجو هو بمعجزة، ويحاول أن يبعد اسمه عن موقع الحادث حتي لايتسبب ذلك في فضيحة، تؤدي إلي تعثر عملية بيع شركاته! ولكن محاولته هذه يكاد يفسدها محقق لحوح، يكتشف العلاقة بين روبرت ميللر والفتاة التي راحت ضحية الحادث، ويدخل سيناريو الفيلم في دهاليز قضائية ومحاولات من المحقق لاصطياد روبرت ميللر، ومحاولات الأخير الإفلات بأقل قدر من الخسائر، وتكاد الأمور تفلت من بين يديه، عندما تكتشف ابنته أن حسابات الشركة، بها بعض التزوير في أرقام الأرباح، وعندما تخبر والدها بما اكتشفته، تتأكد أنه وراء هذا التزوير حتي لاتبدو أن الشركات تعاني خسارة، وبالتالي تتعقد عمليات البيع، وتعاني الفتاة من أزمة ضمير بين ولائها لوالدها وبين قناعتها بأنه ارتكب كارثة اقتصادية يضلل بها البنك الذي اعتزم الشراء، وتهدد بفضح الأمور، حتي لتعرض سمعتها للانهيار! وتدخل الزوجة سوزان ساراندون طرفا في الصراع، بعد أن تتأكد أن زوجها كان متورطا في قصة عاطفية، وإنه كان سببا في الحادث الذي أودي بحياة الفتاة، وتساومه الزوجة أن تشهد لصالحه بشرط أن يتنازل عن الشركات لصالح أبنائها، ولكنه يرفض المساومة! ويقرر أن يستخدم كل مهاراته للخروج من أزمته بأقل قدر من الخسائر! وينجح روبرت ميللر باستخدام كل الوسائل المشروعة، وغير المشروعة لحماية اسم عائلته، وحماية موقفه الاقتصادي، وكما بدأ الفيلم بخطبة قصيرة يشكر فيها عائلته ينتهي الفيلم بحفل ضخم، يقام تكريما له للمساهمة في أحد المشاريع الخيرية، الضخمة، بعد أن أفلت من كل الكمائن التي كانت الواحدة منها تكفي لسقوطه! حافظ ريتشارد جير علي كل دقائق الشخصية، وعلي ردود فعلها التي تخفي بركانا من الغضب، بحيث يبدو من علي السطح في حالة هدوء وثقة بالنفس، إنه النضج الفني لنجم يتألق ثانية وهو علي أعتاب الستين من عمره، في فيلم ربما يقفز به مرة أخري للصفوف الأولي!