أحمد إبراهيم لم يعد جدار كرملين قادرا علي إيهام البصير والضرير الروسيين، بأن الدبّ العملاق لهما خلف الجدار بالمرصاد، بالبصر للضرير وبفقع العيون للبصير إن أتياه طوعا أو كرها علي التوالي .. والقابعون وراء الجدار أنفسهم غير قادرين علي إعادة النظارة السوداء إلي أعينهم، بعد أن خرجوا من نعوش الشيوعية الاشتراكية العُظمي يمشون علي تراب الأرض .. إنهم مشاةٌ لن يعودوا بأرجلهم للنعوش إلاّ جثامين لها بالموت الرحيم. منذ ثلاثين سنة أكتب وأكتشف أن مقالا وراءه قصة حقيقية، كتابته ممتعة قراءته أمتع، فلم أفتعل قصصا وهمية في كتاباتي .. قصتي مع روسيا بدأت ببدايات تفكّك الاتحاد السوفييتي، حيث انتهي سفري من دبي إلي كازاخستان (المآتا) ومنها بتحريض من المستشار القانوني السوداني المرافق (الله يرحمه) إلي العاصمة موسكو، لاعتقاده أن عروضا تجارية مغرية لنا من كبار المسئولين بكازاخستان، غير مسموح التداول بها أو التعامل معها دون الرجوع إلي المرجعية العليا (موسكو)، وهكذا خسّرنا (بفتح الّراء) المرحوم الزول سامحه الله، حُفنة دولارات إضافية إلي موسكو، كانت زوجتي وأولادي في بيتي المتواضع أولي بها، لكن الأمر لله، وانطلق بنا القطار إلي موسكو. قليلا قبل موسكو بكازاخستان، دخلناها أيام انجذاب الجمهوريات الستة (كازاخستان، تركمانستان،طاجيكستان، أوزبكستان، آذربيجان وقرغيزيا) ذات الأعراق والجذور الإسلامية الميّالة للإسلام والمسلمين، وجدنا فيها قوما كلما دخلنا عليهم ذكّرونا (بأنهم مسلمون) ولسان حالهم يقول: "هذا اللي يسمونه إسلام، يقولون عنه شي كُويّس هذا..! وإن الحلال والحرام أيضا يقال عنهما كُويّستان..!" .. هكذا كنا نسمع ونري ونحن جلوسٌ ومشاةٌ بينهم. مطعمٌ تناولنا فيه العشاء بالمآتا، صاحبة المطعم (مدام آينة) رأتني أكتب بقلمي من اليمين لليسار، جرت نحوي بقطعة ورقية مقوي (كرتون سجائر) "أنت تكتب بالعربي؟ طيب اكتب لي هنا (بسم الله الرحمن الرحيم) سأعلّقها علي باب المطعم..!"، ثم أرسلت لنا الخبز وهي تبتسم عن بعد بصوت مرتفع "حلال حرام، حلال حرام" ثم اقتربت من طاولتنا تسأل مبتسمة "هل تحبوا ويسكي حلال حرام حلال حرام.!" سألتها عبر المترجم كيف يامدام؟ ويسكي وحلال.!، أجابتني: "هذا اللي يسمونه "حلال حرام حلال حرام" يقولون عنها شغلانة كويسة..!" .. فلو تواصلت معها أكثر لكانت مدام (آينة) أتتنا تلك الليلة برقص حلال حرام، ملاهي ليلية، دسكو . المبيعات كانت تزيد علي السياح المسلمين بحلال حرام، فتذكرت صديقا لي في باريس، أنه سأل يوما المدير التجاري لشركة الدواجن الفرنسية التي يعمل لديها (لماذا سيدي تختمون علي العلبة "مذبوح علي الطريقة الإسلامية، ونحن نذبحها بالمكينة.؟" فأجابه المدير "مفعولٌ سحري يزيد مبيعاتنا في الشرق الأوسط..!" وهكذا "حلال حرام" أصبحا وباتا أخوي رضاعة علي ألسنة هؤلاء الذين وجدتهم بروسيا في الستعينيات، إنهم يحبون الإسلام لكنهم لايعرفونه.! لم نتوقف مع فرقة "حلال حرام" بالحلال بيّن والحرام بيّن، مدام (آينة) صاحبة المطعم، لو تواصلت معها بآيات أخري بعد آية (بسم الله) لانتقلت المدام من الكرتونة إلي المصحف الكريم، لكني تركتها بعلبة سجائر عليها (بسم الله)، ولهثت جريا وراء سماسرة الظلام ولصوص عمولات الليل نحو موسكو، تركت الآيات خلف ظهري وألصقت الدولارات بصدري، لكن حُفنة دولاراتنا لم تكن تتجاوز أصابع اليدين، فلم نستطع أن نعمل بتلك الجمهوريات ما ستعمل بها عواصم اليورو، وقد أصبحت اليوم (روسيا) رسميا العضو رقم 156 في منظمة التجارة العالمية WTO بعد 18 عاما من المفاوضات الشاقة، أي منذ أيام حُلمنا بإحلال الاقتصاد الشيوعي بالإسلامي، لكن قطار عذاري الروسيات فوّت علينا القطار. باب التجارة من أوسع أبواب التلاحم بين الشعوب، أندونيسيا المسلمة الكُبري، وراءها تجار الجزيرة العربية الذين مرّوا بها، تلك الجمهوريات المستقلة عن الكرملين، لودخلناها بكرا بالحلال دون الحرام لكنّا ثقّفنا ثُلت سكانها، مئة مليون مسلم بين 300 مليون ضائعين، المسلمون فيها من تناقص إلي تزايد، يوما كان يُقتل فيها طفل المسلم خوفا علي المئوية الديموغرافية للشيوعية العظمي، واليوم المسلم فيها بالزوجة الرابعة بحلال دون حرام، والمسلمون مئة مليون.! لم نقترب منهم بقرآننا، ألصقناهم بدنانيرنا ودراهمنا، ذهبنا إلي أسواقهم شهبندرا، وإلي ناديهم وملاهيهم بجُبّة قيس وخمريات أبي النواس، يلقيها علي الشقراوات (روميو حرف الضاد) بالثوب العربي، ويترجمها إسلاموف ومحمدوف بكرفتّة وتراتيل "حلال حرام، حلال حرام.!" نصُّ خبر اليوم (حصلت روسيا علي العضوية الكاملة) يوحي أن هناك عضوية كاملة وناقصة، يمكن حالة تركيا هي الناقصة، تبكي وتتوسّل بأوروبا من عقود لعضوية الاتحاد الأوروبي، تُطرد مرة أنها غير مؤهلة، وأخري لأنها غير مستوفية، وثالثة لأنها ملتحية فتحلقها أنقرة، ثم لأنها بشوارب فيحلقها إسطنبول، وقد يُطلب منها العودة حليقة الشعر بمكياج الأنوثة الفاتنة، وستفعلها تركيا من أجل اليورو والدولار، لأن تركيا أثبتت أنها تعمل أي شيء من أجل الدولار، المكياج وتغيير الجنس، وقد شرّع برلمانها السماح بالزني بالقانون في دولة 79.9 من سكانها محمّديون، محوّطون بمليون مئذنة ومنارات ومساجد العثمانيين.! ياتري يوم انضمّت روسيا إلي منظمة WTO بعد 18 سنة من الكفاح المرير، هل فكرنا بمنطقة سكانها يفوق مصر وتركيا مسلمون متعطشون للإسلام، كانت في مهدها تبحث عن الحلال دون الحرام، تري ماذا فعلنا لنروّي هؤلاء العطاشي؟ خطوةٌ نحوهم بالإسلام القرآني والتعامل الإيماني؟ أم لازلنا نسير قُدما في ذلك القطار الشهواني.؟!