عاش المصريون حالة من التوتر وساعات الترقب العصيبة الأسبوع الماضي قبل إعلان نتائج التصويت في انتخابات الرئاسة التي آل فيها المركز الأول للدكتور محمد مرسي مرشح "الحرية والعدالة" تلاه في المركز الثاني الفريق أحمد شفيق رئيس الوزراء الأسبق للمخلوع، المنتظر الإعادة بينهما لتحديد الفائز النهائي بكرسي الرئيس. ومع اهتمام وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية لرصد نتائج الفرز في الجولة الأولي لحظة بلحظة عاش الناخبون أصعب لحظات حياتهم مع موجات المد والجزر بصعود مرشح إلي مركز معين وهبوطه بعد دقائق في بورصة الانتخابات، كان ضرورياً أن نرصد أبرز المشكلات النفسية التي تعرض لها المواطنون في هذه الأوقات الحرجة وكيف يمكن أن تنعكس هذه النتائج الأولية وكذلك جولة الحسم المرتقبة علي الحالة النفسية للناخب سواء كانت حالة فرح شديد لفوز مرشحه أو حزن واكتئاب حاد نتيجة الخسارة. التقيت د.هند البنا استشاري الصحة النفسية للوقوف علي هذه التفاصيل. سألت د.هند: في ظل الأجواء التي تعيشها مصر لانتخاب رئيسها الجديد، ما الآثار النفسية المترتبة علي نفسية الأسرة المصرية بعد إعلان نتائج الانتخابات، خصوصاً أن كثيراً من البيوت المصرية تتعدد في اختيارات أفرادها للمرشحين؟ هل يؤثر ذلك في ظهور مشكلات نفسية واحتقانات بين الأزواج أو الآباء وأبنائهم.. إلخ؟ فقالت: الشعب المصري بطبيعة الحال يعاني من التعصب والتشبث برأيه والدفاع عنه باستماته حتي لو كان خطأ، وفي بعض الأحيان لا يقبل النقد ويرفض أن يفرض عليه أحد رأياً غير ما هو مقتنع به، من هنا تأتي المشاحنات والتوترات بين الآراء المختلفة، وهذا عكس ما نادت به الثورة وهو الديموقراطية، فالمفهوم الحقيقي للديموقراطية يعني أن يكون لكل واحد رأي يحترمه الآخر ويستطيع مناقشته بحياد، وهذا بعيد كل البعد عن الشعب المصري، فقد نجد أن كل واحد له رأي ويصر عليه ولا يستطيع تقبل رأي الآخر أو التفاعل معه بل يقابله بالهجوم والنقد ويصل الأمر إلي الخلافات والمشاجرات، وهذا ليس بغريب علي الشعب المصري حتي قبل الثورة وما أفرزته من آراء متناقضة ومتطرفة أحياناً، فقد كان يظهر ذلك أيضاً في مباريات كرة القدم التي يتعصب فيها كلٌ لفريقه. خلافات أسرية علي المرشحين! وعلي اختلاف التوجهات والآراء داخل الأسرة الواحدة حول مرشح دون الآخر، ودفاع كل فرد عن مرشحه، والاتهامات المتبادلة بينهم ما بين الفلول والخيانة العمالة وغيرها من الاتهامات التي أصبح يلقيها الناس علي بعضهم البعض، فحالة عدم الاتفاق بالتأكيد لها تأثير علي العلاقات داخل الأسرة الواحدة وإنتاج حالة من الخلافات والمشاحنات والتوترات، وهذا يتضح بشدة في هذه الأيام بعد إعلان نتائج الانتخابات من حالة الإحباط التي يعاني منها البعض لعدم نجاح مرشحهم، الذي كانوا يعتبرونه طوق النجاة، فقد يصل الأمر بين أفراد الأسرة الواحدة إلي حالة من المنافسة والشماتة أحياناً أن مرشح أحدهم فاز دون الآخر، وهذا يزيد من الاحتقان ورفض الآخر وخلق حالة من الخلافات التي تؤثر بطبيعة الحال علي الجو العام داخل الأسرة الواحدة في الوقت الذي نسعي فيه إلي التكاتف والتوحد، فنحن الآن نعيش في مرحلة حرجة ومهمة في تاريخ مصر ولابد من الحد من العند والالتفاف حول رأي واحد ومحاولة سماع رأي الآخر بما في ذلك مصلحة الجميع، وليس مصلحة فرد بعينه تشبث برأيه، فالمصريون جميعا يقع عليهم هذه الأيام مسئولية لابد أن يكونوا علي قدرها بعيدا عن الخلافات الشخصية وتطرف الآراء. أفراح وأحزان وتقدم البنا عدة نصائح لكل أسرة لاستقبال خبر إعلان فوز مرشح بعينه بمنصب الرئيس خصوصاً مع حالات الفرح الشديد أو الحزن الشديد، حيث تري ضرورة أن يعي كل فرد من أفراد المجتمع أن نجاح أي مرشح أو غيره ما هو إلا إرادة جموع الشعب، قد يكونون اتفقوا علي أحد دون غيره، ولزيادة عددهم فاز هذا المرشح، لذلك فهذا حكم الأغلبية، وليس من حقك أن ترفضه أو تنتقده أو تتهمهم بالجهل أو غياب الوعي لأن هذا المرشح ليس بمرشحك، ولم يتفق معك أيدولوجياً ونفسياً، لذا لابد من تقبل الوضع الذي تراه أنت سلبياً، فالأغلبية رأته إيجابياً، ويجب احترام الرأي الآخر، وبالطبع قد تكون هناك بعض الاضطرابات النفسية مثل القلق والتوتر وفقدان الثقة والإحباط التي قد تصل للاكتئاب في بعض الأحيان لدي من خسر مرشحهم المنافسة. وفي ضوء عدم اتفاق أسر كثيرة علي مرشح واحد وعما إذا كان اختلاف التوجهات والانتماءات السياسية داخل الأسرة الواحدة يعد ظاهرة صحية تشير إلي السواء النفسي بين أفرادها أم العكس تقول د.هند: الاختلافات بين التوجهات والانتماءات السياسية داخل الأسرة الواحدة الأصل فيه أنه يعبر عن حالة صحية وأن الأسرة تمارس الديموقراطية وتسعي إلي ذلك، والنقاش حول هذه الآراء المختلفة قد يساهم في خلق حالة من الارتباط والتوازن داخل الأسرة الواحدة، هذا في حالة تقبل أفراد الأسرة الواحدة الآراء المختلفة بحياد وموضوعية، أما إذا كان هذا يزيد من المشاحنات والتوترات بينهم فهذا يؤكد عدم القدرة علي التواصل وغياب مفهوم الديموقراطية وكذلك الاستقرار والهدوء الذي يسعي إليه الجميع ويبحث عنه في ظل الأجواء المتوترة حالياً. المصير وفي حديثي معها أثارت د.هند مسألة مهمة وهي القرارات المصيرية العامة المشتركة بين عدد كبير من الناس مثل اختيار الرئيس، إلي أي مدي يلعب فيها "العقل الجمعي" دوراً في توجيهها لاشعورياً باتجاه معين؟ وهنا تقول: الشعب المصري يخوض تجربة جديدة من نوعها، فللأسف يعاني أحياناً حالات من التخبط وعدم الثقة وعدم القدرة علي اتخاذ قرار بمفرده، فيحاول أن يكون رأيه من خلال وسائل الإعلام أو حلقات النقاش التي تدور بينه وبين أصدقائه أو أفراد عائلته، ونظراً للخوف الشديد من المسؤولية الملقاة علي كتف كل مصري، والخوف من إلقاء التهم بالعمالة أو الانتماء للنظام السابق، يصبح العقل الجمعي هو المتحكم في الجميع، ويتحدث الجميع بنفس اللغة والمفردات، ككلمة "فلول" مثلاً، أصبح الجميع ينطق بها ويعتبرها إهانه وسبة إذا ما لقب بها، فالعقل الجمعي يسهم بشكل أو بآخر في تكوين رأي الأغلبية من الشعب الذي يعاني من التوتر وعدم الاتزان والخوف الشديد من مسؤولية لم يعتد عليها وهي اختيار رئيس لأول مرة، فقد تجد البعض ممن لم يستطيعوا تكوين رأي أو اختيار أحد المرشحين، يقررون عدم المشاركة، ليس موقفاً سياسياً أكثر منه خوفاً من المسؤولية والشعور بتأنيب الذات إذا لم يفلح هذا المرشح في تنفيذ طلبات الشعب وشعوره بالأمان والاستقرار الذي غاب عنه طوال الفترة الماضية. هذه القرارات المصيرية بالتأكيد تؤثر علي الشخص وعلي حالته النفسية مقارنة بالقرارات العادية التقليدية التي يتخذها في حياته اليومية بشكل اعتيادي ولا تتوقف عليها تبعات كبري، وهو ما تفنده استشاري الصحة النفسية بقولها: قد يعاني البعض من التردد في اتخاذ قرار يخص أسرته أو يخصه بشكل فردي، والخوف من نتيجة ذلك عليه أو علي أفراد أسرته، فما بالك بقرار مصيري يخص الأمة كلها، بالطبع يؤثر ذلك علي الناخب، ويصيبه بحالة من التوتر والقلق. لاحظنا ذلك علي جميع المصريين في الأيام القليلة الماضية، وحالة التوتر العام الذي عاني منه الشعب، وإلقاء اللوم والاتهامات علي من حصل مرشحهم علي أصوات أكثر، مما قد يساهم في فقدان الثقة في إرادة الناخب، وفقدان ثقة الناخب بنفسه، ويخلق حالة من الاحتقانات والمشاحنات. الاختيار ثم الندم وتحذر د.هند من التبعات النفسية من اختيار الناخب لمرشح معين بشكل عشوائي ودون قناعة (بسبب عدم الخبرة السياسية الناتجة عن الأمية أو الأمية السياسية تحديداً) ثم شعور الناخب بأن اختياره لم يكن صائباً، وتوضح: إلي جانب "العقل الجمعي" هناك تأثير المحيطين والإعلام الذي يلعب دوراً خطيراً ومهماً في تشكيل الوعي، وتكوين القرارات، فالناخب المتردد من الأساس ولا يملك القدرة علي اتخاذ القرار الصائب ويعتمد علي قرارات الآخرين وأفكارهم في تشكيل وعيه، بالتأكيد لن يشعر بأي مشكلة أو توتر جراء اختياره، فهو لم يملك قراراً خاصاً به وليس لديه مشكلة في اختيار هذا أو غيره، وليس منتمياً نفسياً أو فكرياً مع مرشح أو آخر، فالبعض شارك في الانتخابات من أجل المشاركة فقط، وبالتأكيد هذا لن يصيبه بأي شعور بالذنب أو التوتر خوفاً من تبعات هذا الاختيار، لكن هناك نوع آخر من الناخبين وهو النوع المتردد، وهو من استطاع أن يكون رأياً تجاه مرشح أو آخر لكنه يعاني من التردد في اختيار أحدهم، قد يصاب هذا الناخب بحالة من الإحباط أو الشعور بالذنب إذا خالف مرشحه توقعاته. لذلك لابد من تربية الأبناء علي القدرة علي الاختيار منذ الصغر ويشمل ذلك اختيار ألعابهم، ملابسهم، الأنشطة التي يرغبون في ممارستها، ويتم ذلك تحت إشراف الأسرة بناء علي الحوار الفعال وتبادل الآراء وتعويد الطفل حرية الرأي والقدرة علي الاتخاذ القرار، فهذا ما نحتاجه في الأجيال القادمة. البحث عن الأمان استقرار نتيجة الجولة الأولي بين د.محمد مرسي والفريق أحمد شفيق لها دلالات نفسية مهمة حسبما تري د.هند، حيث تقول: الشعب المصري بطبيعته أميل إلي الاستقرار منه إلي الحركة أو الثورة، وبالتالي يسعي دائماً لتحقيق الحد الأدني من الأمان، في مختلف أشكال الحياة، بداية بالمأكل وصولاً للأمان السياسي والمرتبط بالأمان الأمني، فهو مجتمع كان قادراً طوال تاريخه علي التكيف مع أصعب الظروف وأشد الحكام بطشاً، لذا فهو في هذه الفترة التاريخية الحساسة يسعي لاستعادة الأمان ثانية بمفهومه الشامل بعد فترة طويلة من غيابه. فكان اختيار الإخوان أو تيار الإسلام السياسي ما هو إلا محاولة من المجتمع أن يشعر بالأمان في التيار الديني بعد غيابه سياسياً، فالشعب أكثر ميلاً بطبيعته للجانب الديني. هذا إذا ما حاولنا فهم لماذا اختار الشعب المصري التيار الديني المتمثل في الإخوان، وعلي الجانب الثاني نجد أن قطاعاً من الشعب اختار الجانب العسكري أو ما يمثل بقايا النظام رغبة في الشعور بالأمان والاستقرار، وخوف طبقة من الشعب من التغيير تحت مبدأ (اللي نعرفه أحسن من اللي ما نعرفوش)، والبعض اختار مَنْ مثل الثورة، فهذا يدل علي أن هناك قطاعاً من الشعب مقتنعا بالثورة وبالتغيير ويسعي إليه باعتباره هو الأمان، فالجميع يسعي للبحث عن الأمان والاستقرار ولكن كل بطريقته وأفكاره.