استرداد الإمبراطورية مترامية الأطراف يداعب خيال ورثة الذئب الأغبر ، مصطفي كمال أتاتورك . بعد أن عاش الأتراك عقودا طويلة مهملين المجال العربي ومنطقة الشرق الأوسط، أفاقوا مؤخرا بعد أن راجعوا حساباتهم وقرروا أن قوتهم الإقليمية قد تكون عوضا عن إجهاض طموحاتهم بشأن الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي . السوق العربية كبيرة يمكنها أن تكون حقلا خصبا للاستثمار الاقتصادي ولممارسة دور حيوي سياسيا . يقود رجب طيب أردوجان رئيس الوزراء التركي صاحب الشخصية الكاريزمية التوجه التركي الجديد من خلال مداعبة مشاعر بسطاء العرب بخطبه الحماسية التي يلقيها دفاعا عن قضية فلسطين أو بمهاجمة الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز بعد الاعتداء الصهيوني علي غزة العام الماضي. ومنذ أيام جاءت فرصة ذهبية لأردوجان باعتداء إسرائيل الدموي علي سفينة الحرية ، التقط أردوجان الفرصة التي وفرتها الجريمة ليحول المسألة إلي مكسب داخلي ومكسب إقليمي . أدرك أن الجريمة فرصة ليعالج قضايا سياسية داخلية ، وفي نفس الوقت ليحجز مكانا كبيرا في المنطقة . نجح أردوجان في تحقيق نجاح ملفت في الشارع العربي بعد أن أطلق عاصفة خطابية حماسية خاطبت غرائز الشعوب العربية المتعطشة إلي النبرة الحماسية ورفع الشعارات. أتت النتائج إيجابية. رفع البسطاء في العديد من الدول العربية صور أردوجان ، ورفع آخرون العلم التركي. رأي فيه الناس، المدافع عن قضية فلسطين والحقوق العربية. استخدم عبارات لم يستخدمها حاكم تركي من قبل، " لقد تعبنا من أكاذيب إسرائيل ، وقادة إسرائيل الذين أظهروا من جديد للعالم أنهم يعرفون القتل جيدا وأن الهجوم الوقح وغير المسئول علي السفينة التركية ينتهك القانون ويدوس علي الكرامة الإنسانية. إن تركيا ليست دولة يتيمة يمكن أكل حقوقها ، وبقدر ما تكون صداقة تركيا قوية ، فإن عداوتها أقوي ". استخدم أردوجان عبارات غاضبة، لكنه لم يقل بقطع العلاقات مع إسرائيل، وفي الوقت نفسه أبقت تركيا علي التعاون العسكري مع إسرائيل وقال وجدي جونول وزير الدفاع التركي إن تركيا لن توقف التعاون مع إسرائيل في مجال الدفاع. ويذكر أن أحد برامج التعاون القائمة، تسليم أنظمة طائرات بدون طيار من طراز هيرون التي تحلق علي ارتفاع متوسط وعلي مدي طويل وتبلغ قيمة عقد هذه الطائرة 183 مليون دولار، سلمت إسرائيل منها خلال شهر أبريل الماضي 6 طائرات للجيش التركي ومن المتوقع خلال الفترة القادمة تسليم 4 طائرات أخري هذا بخلاف برامج أخري عديدة. لقد اتبعت تركيا سياسة جديدة فيما يتعلق بعلاقاتها مع إسرائيل ، فقد تصرفت عكس إيران التي اعتمدت علي التهديد العسكري مع إسرائيل، بينما تنهج تركيا سياسة احتواء العالم العربي والسيطرة عليه مع العالم الإسلامي، وهي تدرك أن الطريق إلي القلوب العربية والإسلامية يمر بسهولة عبر فلسطين ، ولكن تركيا لن تقطع علاقاتها بإسرائيل وسيستمر التعاون بينهما، وهو ما أكده د. أحمد داود أوغلو وزير الخارجية التركي، فقال: لقد حان الوقت ليحل الهدوء محل الغضب. وفي الرد علي إسرائيل ينبغي أن نتجنب السلوك الانفعالي. الموقف التركي يفهم في إطار مصلحة أبناء أتاتورك وطموحهم في فرض نفوذهم في المنطقة ، لكن ما لا يفهمه بعض الدول والشعوب العربية أن مصالح الدولة التركية هي التي تحكم تصرفات حكامها ، لقد ألغي البعض بجرة قلم أو بشخطة مذيع في الفضائيات، تاريخ الكفاح العربي، سواء لمصر أو غيرها من الدول العربية لمجرد أن رجب أردوجان ألقي بخطبة حماسية في مجلس النواب التركي مظهرا نفسه محرر فلسطين والمدافع عن الحقوق العربية. لقد عاش الشعب العربي في مصر لأكثر من 60 عاما يكافح ويحارب من أجل القضية الفلسطينية التي يؤمن بأنها قضية مصير وقضية عربية في المقام الأول . عاش شعبنا في أزمات اقتصادية وتحمل الويلات من أجل القضية وهو ما نساه البعض مهرولا تجاه تركيا أو أردوجان لمجرد أن 9 ممن قتلوا علي السفينة من الأتراك معتبرين ذلك، الجهاد الأعظم الذي قامت به تركيا، في الوقت نفسه نسوا حوالي 100 ألف شهيد مصري رووا بدمائهم صحراء سيناء التي احتلتها إسرائيل بسبب دفاعنا عن القضية الفلسطينية. لم يسكت البعض، بل عادوا لمهاجمة مصر موجهين الاتهامات لها بأنها تساهم في حصار غزة. لقد أمر الرئيس مبارك بفتح المعابر لدخول المعونات والأغذية والأدوية إلي غزة ، وفي نفس الوقت تجاهل كل من وجه اتهاماته إلي مصر وهو ما زاد من صياح البعض محاولين استدراج مصر إلي حوار هابط وساذج معتقدين أن رفع العلم التركي إلغاء لتاريخ العلاقات التركية مع إسرائيل وهي التي كانت من أوائل الدول التي اعترفت بالدولة العبرية . نسي هؤلاء الشراكة الاستراتيجية بين الدولتين ، وتوقفت ذاكرتهم عند خطاب أردوجان الذي ألهب الأكف العربية أكثر من التركية والذي يدرك أن العرب يعشقون الخطب الحماسية والصياح بالتهديد والوعيد لأعدائهم، فكان أن استجاب لهذه المشاعر وقدم لهم وجبة خطابية ساخنة، بينما لم يقدم شيئا علي أرض الواقع.. علي مراهقي السياسة أن يحاولوا فهم الأمور علي حقيقتها.