نعيش الموت كل يوم.. نمارسه في سكرات مغيب شمس تحتضر.. ياقوتة مشعة تتلاشي وتموت، ويهل الليل الأزرق يرصعه قمر من فضة يفني علي أعتاب الشروق.. نجرب الموت الليلي واسمه النوم تكلله الأحلام، نعشق الحبيب ويموت الحب ليبقي هو فأذكر ما سطره يوسف زيدان في (عزازيل) »فلقد مات من مات وبقي الحي ميتا«، وآه من موات الأحياء والمعاني.. فنحن نذوق اليوم من البعض موت الوطنية ليبقي الوطن في حالة يتم.. إن ثنائية العشق والموت، هي بمثابة بكائية رائعة لمبدع استثنائي هو الشاعر، المؤلف، السيناريت، الكاتب ورئيس التحرير محمد الغيطي، فمن خلال ديوانه (يموت الحب وتبقي حبيبتي) يعلن عن هاجسه وقرينه اللدود العدم، الموت الكامن في أشهي اللحظات، وأكثر العلاقات حميمية، بل وأرفع القيم مثل قوله (يموت البطل ويبقي المهرج.. يموت القلب ويبقي الجسد.. تموت البصيرة ويبقي البصر.. يموت العطر وتبقي الزهرة).. هو أيضا يرجم التعصب والتيارات الإظلامية التي تصارع من أجل إسدال غلائلها القاتمة علي أنوار الوطن وتتجلي تلك البصيرة المستنيرة في قصيدته (المنقبة والسكران) حيث تتجلي ظاهرة رفض الحياة ومقايضتها بالموت وتحريم الحلال فكل ما يحظي بألق الحياة الدنيا مرفوض، ملعون!! ولا يتميز محمد الغيطي كشاعر مرهف وعميق فحسب ولكن ككاتب مستنير وليبرالي يتقن منازلة محاكم التفتيش بل أيضا كرئيس تحرير لمجلة أسبوعية نجح في إنعاشها وتحقيق نقلة هائلة لتواكب كل الأحداث المتلاحقة التي يمر بها الوطن في كل المجالات. فلقد أعلن الفكر والتعبير الحر في مواجهة الأحادية الصاعدة والغزو الوهابي، وأرجع ماسطره في قصيدته (يموت الحب وتبقي حبيبتي) تموت الوجوه وتبقي الأقنعة.. تموت الجذوة ويبقي الرماد.. تنتحر قبة السماء.. في لجة الخواء.. تتبخر الأفاعي في جسد أنثاي التي أعشق فحيحها.. تتعري الكلمات.. وتلقي بأرديتها علي قارعة المعاني.. تموت المعاني وتبقي الأردية في خرائب الكلمات.. يموت الحب وتبقي حبيبتي شاهدة علي انتحاري الأبدي في جحيم الأمل.. أموت ولايبقي من أعضائي إلا قلب ينتظر الموت في لعبة الحياة.. أي عبث وأي سخف؟! محمد الغيطي علي مذبح الفقدان يمطرنا شعرا ونثرا، فقدان الحب، الهوية، النقاء، اليقين، فكلماته تترنح بين العشق والموت، الشك واليقين، القرب والبعاد، الشرق والغرب، الوجود والعدم، الرغبة والعزوف، الباطن والظاهر، الثابت والمتحول، الخفة والثقل، اليأس والأمل. هو في تردد هاملت، تمرد وثورة الشاعر رامبو أذكر قصيدته (المركب الثمل) هو نزاري الهوي في قصيدته (الغجرية): (أيتها المتوحشة النهمة.. لا تأكليني بالشوكة والسكين.. التهمي ثمرتي برملها ب (عبلها) بطين خلقي الجديد في جنة إبليس وجحيم غوايتك اللا نهائية يا صلصاتي العفية).. (في غابة أنوثتك البربرية رياحي استوائية خارطتك موسمية وجغرافيا جسدي تعشق الموسمية.. هو أيضا مثل كل الشعراء مصاب (بالبيرومنيا) أي الولع بالحرائق، فالشعر يحاكي الحرير، المخمل، والأورنجزا قابلة للاشتعال في لحظة بفعل نظرة، لفتة، ظل، لون، كلمة، نبرة، هو السأم والحسية اللافحة المتجلية من خلال (أزهار الشر) لبودلير وفي النهاية له مذاقه الخاص، مخيلة ثرية حبلي بالصور فهي تدنو من قصص قصيرة شعرية، مكتظة بالتساؤلات المبصرة لا إجابات تنويعة علي لحن أرسطو عندما تكون الأسئلة مبصرة والإجابات مظلمة، محمد الغيطي هو المتوحد في دنيا الإشراقات المبهرة والنهايات الغامضة، المتوغلة في رماد العدم، حائر هو في أتون الوجوه المتشظية للحقيقة ويبزغ تاناتوس إله الموت عند الأغريق وإيروس إله الجنس في إبداع الغيطي فهما صنوان، فالموت ربما يحمل في طياته التحرر والخلاص من تلك الهوة الفسيحة، المعتمة، المتخيلة، المتجردة من الوعي المهلك، القرين الفادح للأوديسا الإنسانية، التجرد من ارتعاشات وانتفاضات الوجود المربكة. وتبزع الحسية.. لحظات نفيسة.. مدمجة حيث يمتزج وينصهر الموت والحياة في آن واحد، استنساخ واختزال لجدارية الحياة، فيبدأ الصعود من الرغبة إلي الذروة ثم الهبوط من روابي النشوة المزهرة إلي التوغل في سكرات غائمة، ثم السقوط في هوة العزوف الكلي، العجز المتشح بالعدم، فتخمد أعتي الشهوات وتحسم عذابات الذات التي طالما تأرجحت بين الخواء والامتلاء، والاشتهاء والزهد، النهم والضجر، الموت والحياة، ماهو تنويري وماهو إظلامي.. إن الغيطي يتقن عملية الفصد، ربما يسعي للتصالح مع الموت فلديه إحساس موجع بالزمن، بالنهايات، فرائحة الموت تهيم، جاثمة في سطوره الحادة تارة والناعمة تارة، فالموت نداهة فاحشة الغواية المطلوب التصالح معها كما فعل سوفوكليس، بودلير، دولاكرواه دستويفسكي، شوبان، نجيب محفوظ، أمل دنقل. وتتجلي في عالم الغيطي الأجواء الباريسية في قصيدة (سان دونيه) والسجال الأبدي بين العهر الظاهر والباطن، الجهر والعلن ماهو شفيف وماهو سميك، خبيث، تنويعة علي صدام الحضارات. ومن خلال (المنقبة والسكران) يرصد الزوجة المنقبة التي تردد كالببغاء أقوال دعاة الفضائيات فهي تنعت زوجها بالكفر وابنها بالكفر فالجميع من كفار قريش!! والثعبان الأقرع في انتظار المصريين وأخيرا أرجع (قانون العشاق) كما صاغه الغيطي: (ما إن نقترب حتي نبتعد.. وما إن نبتعد حتي نشتاق.. لغز في القرب وفي البعد هوذا قانون العشاق).