نجم أشرق في سماء القاهرة الليلية.. حظي بعبقرية الخلود والمجد الأبدي.. أتقن المزج بين النشوة السماوية المحلقة في الأثير اللانهائي وبين المتعة الدنيوية من خلال إبداع فذ موسيقي وصوت محمد عبدالوهاب الأب الروحي للموسيقي الحديثة ولحزب الجمال، قدسية العشق والأنشودة الوطنية المجللة بالشموخ الذي لايعرف الابتذال حيث الهبة الربانية تضوي وتجلي الروح وترتقي بوجدان الشعوب، إلي هذا الحزب أنتمي لا إلي الأحزاب التي تدعي التنوير، ظاهرها النور وباطنها الإظلام. إن محمد عبدالوهاب احتضن كل النجوم الهائمة التي رصعت سماء المحروسة فأغدق بموسيقاه علي المواهب الصاعدة آنذاك فعملقته الإبداعية وولعه الصادق بالفن النفيس جعله يتجاوز كل ماتنضح به نفوس البشر في أكثر الأحيان فكانت أجمل أغنيات عبدالحليم من تلحينه، ليلي مراد، نجاة، وردة والقائمة شاهقة فكانت سعادته ورسالته تشييد أجيال من المواهب. ولم يشعر الموسيقار يوما بالاستعلاء فأعطي للقصيدة التي صارت تحت وطأة ألحانه جماهيرية فروّج للشعر لدي العامة، فامتزج وتوحد صوته ولحنه مع كلمات عزيز باشا أباظة وشوقي بك وعلي محمود طه وكامل الشناوي ومن القصيدة إلي الأغنية الظاهرة التي جمعت بين ليلي مراد، أنور وجدي، إسماعيل ياسين، شكوكو، عزيز عثمان وإلياس مؤدب في فيلم عنبر ثم اللحن الذي جمع بين فؤاد المهندس وسعاد حسني في جناب السفير وصولا إلي (قمر 41) التي رقصت علي أنغامها نجوي فؤاد، فكانت تلك الرقصة وهذا القمر الممسوس بنغمات الموسيقار السحرية أشبه بنداهة ليلية فادحة الغواية يسعي إليها كل المصريين آنذاك، وهكذا فلا استعلاء في الفن، فلقد أثري كل ألوان وأنماط الإبداع. هو بحق صاحب النغم والصوت الملكي يموج بالفخامة يناوش المخيلة الثملة بالحنين لمصر التي كانت الليبرالية، الكوزموبوليتانية، المعتدة بذاتها، كانت مصر تعرف البهجة والفن الراقي الذي وحد بين كل طبقات الشعب فالفجوة ذابت بفعل الصوت والنغم السحري فلا فرق بين الباشوات، البسطاء، المثقفين، الملوك الرؤساء والثوار الكل يعشق محمد عبد الوهاب، فلقد ملك أخطر الحواس قاطبة، حاسة السمع لأنها تتسلل بالرغم منك فأنت لاتسعي إليها مثل أنواع الإبداع الأخري بل هي تسعي إليك، تقتحمك بعذوبة آسرة، فالكتاب يجب أن تقتنيه وتقرأه واللوحة يجب أن تذهب إليها كذلك السينما، أما النغم والصوت فهما مثل النسيم الليلي ينساب ويتسلل إلي حواسك، يتوغل في الروح الخاملة يوقظها، يحضها علي الحلم والتحليق، يستدعي الأمس ويستبق الغد، تلتحم الموسيقي بالهواء الليلي المتبرج بشذا الياسمين، إبداع عبدالوهاب مغاير لما يسمي اليوم بفن (استعمال مرة واحدة) واعتبره فن الكلينكس، اسمع و(ارمي) تجارة استهلاكية لاتنتمي لهذا المحراب الذي شيده وأنفق سفرته الوجودية المذهبة علي أعتابه.. إن عبدالوهاب علمنا كيف نحب الوطن بكرامة، بجدية وبتفان (وطني حبيبي)، (صوت الجماهير)، (الجيل الصاعد) تلك الوطنية المكللة بالنبل والترفع. أما أناشيد اليوم، الفانية الغارقة في هوة الفجاجة والمزايدات الرخيصة، مثال (اسم الله عليكي يا مصر) (سلامتك يا مصر)، (يا روحي يا مصر) (ياعيني عليكي) ولم نسمع قط في فرنسا أو ألمانيا ينشدون (ياشيري يا فرنسا) (يا عينيه) يا (إيطاليا) فلنتعلم من الموسيقار كيف نحب المعشوق سواء في بلاد الهوي أو في بلاد الوطن وأن نبعث درة القيم.. الكرامة التي اندثرت ذات يوم معتم.. وسوف تندثر أيضا كل التيارات الإظلامية التي تسعي مأجورة لطمس الهوية المصرية ووأد الفن والإبداع. وأستدعي جبران: (الفن طائر حر يسبح محلقا في الفضاء عندما يشاء ويهبط إلي الأرض عندما يشاء، وليس من قوة في هذا العالم تستطيع تقييده أو تغييره. الفن روح سام لايباع ولايشتري وعلي الشرقيين أن يعرفوا هذه الحقيقة المطلقة. أما الفنانون بيننا وهم أندر من الكبريت الأحمر، فعليهم أن يكرموا نفوسهم لأنها الآنية التي يملؤها الله خمرة علوية.. إنما الموسيقي لغة الأرواح بل هي سيال خفي يتموج بين روح المنشد وأرواح السامعين.. المصري الجديد يتسم بفقدان الذاكرة سواء الإيجابية أو السلبية، إن الأوطان يعلو شأنها وتتفاخر بالعظماء الذين أنجبتهم.. عبدالوهاب شيد هرما رابعا من النغم والنشوة السمعية زينت دنيانا.. نجيب محفوظ هرم خامس من الفكر والكلمات المجوهرة ويتم التطاول عليهما من شحات الانتخابات!! بينما سيبقي إلي أبد الآبدين شحاذ نجيب محفوظ! وأيضا شحات الغرام لمحمد فوزي! عبدالوهاب يغيب عن جدارية ضمت رموز مصر! يا للعار وإفقار الوطن الدءوب، ولكنه لايغيب عن خزائن وجدان الشعب العربي بأسره يكتنز رحيق فنه الذي أتقن التطور. هل تكون ليالي الشرق والروابي الخضر بدون عبدالوهاب، هل يأتي المساء بلا حضرته؟ هل نشتري الورد وهو غائب؟ هل نتطلع إلي سماء الليل الأزرق المنجومة في دنيا الليل والفن؟ هل نستعذب آلام العشق دون بكاء بكبرياء، وعبدالوهاب لا يكرم التكريم المنشود؟! أستدعي خزائن الأبيض والأسود (رصاصة في القلب) مصر في ذروة البهاء شعب كله من الصفوة النوستالجيا تصيبني بغصة في الروح، حسرة موجعة لما آلت إليه الأمكنة والأزمنة جروبي في قلب وسط البلد المدينة فاتنة، موشاة بالملاحة والحسن، الوجوه بديعة، لامجال للقبح، الشوارع نظيفة، تسمع كل لغات الأرض (بونجور) فمصر رحم العالم وبوتقة الحضارات الحنين يدغدغني، رنين كريستال بوهيميا في أنغام عبدالوهاب، إيقاعات التانجو، كلوب محمد علي شبرد عطر جورورفيان، ديوريسميو، الأمسيات المخملية ترصعها (أحبه مهما أشوف منه) (في الليل لما خلي)، زمن لم يعرف التكفير والرياح البدوية المعادية للحياة وللجمال بأقانيمه الثلاث: الإبداع، الخير، والحب.