بخلاف أنه يعتبر من أعرق وأقدم الأسواق في المنطقة العربية.. لم يغب عن بالي لحظة أن خان الخليلي هو العروس الجالسة علي تل قاهرة المعز.. تتلالأ بالأنوار، كما يتلألأ اللؤلؤ المنثور علي صدر الحسناء منذ فترة إنشائه التي تعدت أكثر من 600عام في العصر المملوكي.. إنه الحي القابع في بستان تتدلي علي جانبيه المشربيات، بالإضافة إلي وجود عدد من الأسبلة التي زينت واجهته بالمشغولات النحاسية والفضية. ومازال خان الخليلي اسمه يسبقه دائما كأحد أشهر الأماكن السياحية الشعبية في القاهرة، بما يتميز به من وجود "بازارات" ومحال ومطاعم شعبية.. يرتادها آلاف السائحين العرب والأجانب.. ولما يتمتع به المكان من طابع روحاني لوجود ضريح الأمام الحسين، وكذلك خلده أديب نوبل العظيم نجيب محفوظ في رواية بديعة تحمل نفس الاسم "خان الخليلي". وهأنذا اقتربت من دخول خان الخليلي.. وبات واضحا أن التجارة هناك هي عصب الحياة علي طول الشوارع والممرات الضيقة هناك ولا غرابة في أن المحلات الكبيرة والصغيرة تضع لافتات باللغات الإنجليزية والفرنسية وحتي العربية والصينية أيضا.. وكل محل يبذل من يعمل فيه جهده وفنه في اجتذاب المارة والسائحين بالعرض الخارجي للمشغولات الفضية والمنحوتات النحاسية والصدفية والبرديات والتماثيل والجلاليب الشرقية والفرعونية بالإضافة لجذبهم بالأسعار المغرية.. ولا أخفي اتباعي للمثل القائل "مشاهدة واحدة علي الطبيعة تساوي ألف حكاية" حيث جاءت البداية بلقاء أحد تجار الخان ويدعي سعيد سيد قال: أعمل تاجر نجف منذ أكثر من عشر سنوات وأجيد الحفر والشغل علي النحاس.. إلا أننا للأسف نعاني من تراجع التدفق السياحي وهذا بدوره تسبب في انكماش حركة البيع والشراء لأن نشاطنا يقوم علي توافد السائحين العرب والأجانب، وللعلم رغم هذا التراجع فهناك سلع تجد إقبالا ورواجا في البيع مثل نماذج الأهرامات والتماثيل الفرعونية والحلي والمشغولات المعدنية.. بالإضافة إلي لوحة سيدة الغناء العربي أم كلثوم المنقوشة علي النحاس مع باقي المشغولات النحاسية التي تعتمد في المقام الأول علي الصنايعية الفنانين.. وأشار سعيد لمعاناة الكثيرين في خان الخليلي بسبب انصراف الصنايعية عن المهنة خصوصا من الشباب.. بالإضافة إلي أن التجار يعانون الأمرين من ارتفاع سعر النحاس المستمر في الزيادة بسبب ارتفاع سعر الدولار.. هذا إلي جانب أن الناس في الخان يعانون من ارتفاع الإيجارات وفواتير الكهرباء.. ويقول أحمد علي وينادونه في الخان بلقب أحمد الطيب: بجانب أني بائع لأغلب منتجات السياحة أعمل تاجرا لخامات الحرف اليدوية بخان الخليلي وأعتبر من المؤسسين لهذه الحرفة وهذا الفن داخل ربوع الخان.. واستنادا لذلك سألناه عن حكاية تسمية الحي بخان الخليلي فأجاب: هناك تفسيران الأول فيهما يرجع لعصر المماليك حيث أمر الأمير جهاركس بهدم منطقة عند مقابر الفاطميين وكانت قريبة من مسجد الإمام الحسين.. وتحويلها إلي سوق ونسب إليها اسم الخان وهي تعني "السوق" وظلت تزخر بالأواني النحاسية والمنتجات الصدفية المزدانة بالرسوم الفرعونية.. أما التفسير الثاني فيرجع إلي اسم تاجر شهير جاء من بلده الخليل الفلسطينية وقرر البقاء فيها وأقام فندقا في تلك المنطقة لاستضافة إخوانه التجار.. وعرف المكان باسم "خان الخليلي".. وخلال الحديث مع عم أحمد علي، تدخل جمال عبدالمنعم تاجر تحف وبرديات ومنتجات صدفية وتحدث بنبرة حزن مؤكدا أن سوق خان الخليلي يكاد يكون خاليا من الزوار.. معظم ساعات الليل والنهار بعد أن كان يعج بالزوار وكنا لا نجد مكانا لقدم فيه، فالإقبال الآن يتزايد علي مدينتي شرم الشيخ والغردقة اللتين تتوافر فيهما أماكن الإقامة بالنسبة للسائحين.. والتجار هناك يقومون بالشراء من خان الخليلي ويبيعون بضاعتنا هناك.. ومن خلال مروري داخل أروقة السوق كنت أشعر أن الناس هناك تجار.. والتجارة في دمهم.. ولهذا يتألقون في تزيين محلاتهم وبازاراتهم ويعرضون البضاعة بطريقة فنية تدل علي براعة وذوق رفيع.. وفجأة توقفت عند محمود علي.. صاحب بازار لبيع المنتجات السياحية ومنتجات الصدف والأحجار الكريمة والأواني النحاسية والتماثيل الفرعونية أيضا. والمثير أنه أكد علي أنه لم يعد السائح هو نفسه الذي يحمل مواصفات السائح منذ زمن بعيد.. فالسياحة الوافدة إلي الخان كانت تتنوع بين الجنسيات الألمانية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية.. وهكذا.. أما الآن فقد انتصرت علي السائحين الصينيين خاصة أن 45٪ من تجار الخان يلجأون لاستيراد البضاعة مصنعة في الصين.. وقديما كان خان الخليلي مركزا مرموقا لتسويق الإنتاج الحرفي واليدوي نظرا لأنه كان يوجد 75٪ من الورش القائمة علي إنتاج التماثيل الفرعونية والمشغولات والأطباق النحاسية.. ومنتجات الصدف المتميزة.. وعلي الرسوم الفرعونية وما شابه ذلك في الخان نفسه.. وللأسف توقفت هذه الورش عن الإنتاج والعمل نظرا لمشكلات التصنيع وارتفاع أسعار الخامات، لذلك تراجع حجم الإنتاج بنسبة تصل لأكثر من 40٪ تقريبا، وأصبح الأمر لا يقترن بموسم سياحي معين، وفي كل الأحوال فهو ينتعش قليلا بدءا من شهر أكتوبر إلي شهر فبراير وهي فترة السياحة الأجنبية، أما ما يأتي بعد ذلك فدائما ما يقتصر علي السائح الصيني.. وعند سؤال محمود علي عن إمكانية عودة الانتعاش لسوق خان الخليلي أكد أن الأمور مؤخرا تسير إلي الأفضل مؤقتا في ظل الاستقرار والأمان الذي تعيشه المحروسة حاليا.. وهناك راحة نفسية لدي الغالبية.. والمسألة مسألة وقت وسوف ينتعش الخان في الفترة القادمة لأننا نمتلك مقومات كبيرة للنهضة السياحية.. وبعد أن أصبحت الأسعار في متناول السائح المصري والعربي والأجنبي.. وبالنسبة لعلي توفيق وحمادة القاضي صاحبي بازار لبيع الفضيات والأحجار الكريمة.. فقد أشارا إلي أن الإقبال علي الشراء في سوق خان الخليلي ضعيف نظرا لكواليتي الزبون.. ونقصد هنا نوعية السائحين الصينيين الذين حولوا رتم حركة السياحة لرقم ضعيف جدا جدا.. وبالنسبة لسوق البيع فعندنا مثلا كان سعر جرام الفضة الثقيلة والثرية بالمشغولات لا يزيد عن قروش بسيطة ، أما الآن فقد زاد سعر جرام الفضة بشكل كبير وأصبح الزبون يفضل شراء الأطباق الخفيفة.. ووجدت تراجعا ملحوظا في الأذواق وحدثت طفرة في الأسعار خلال السنوات الأخيرة الماضية.. ويعود صاحبا البازار علي والقاضي يرددان ويقولان: رغم أن السياحة تضاءلت.. وتراجعت أسعار المنتجات في خان الخليلي بنسبة 50٪ في الفترة الأخيرة خاصة بعد أن غزت المنتجات الصينية السوق المصري لقلة سعرها.. إلا أننا نؤكد علي أن الأوضاع ستتحسن قريبا في ظل بدء الإقبال علي خان الخليلي من السائحين العرب والأفارقة والروس والإيطاليين. وبمرورنا من عند سكة البستان توقفنا قليلا عند قهوة نجيب محفوظ التي تم تطويرها بشكل حضاري وهي بالمناسبة قريبة جدا من قهوة الفيشاوي.. وقهوة محفوظ تم تحويلها لأحد المراكز الثقافية الراقية الذي يضم كافيه ورستوران راقيا جدا لاستضافة السائحين الأجانب والعرب من عشاق أدب نجيب محفوظ وعدد كبير من المثقفين أمثال محمود السعدني وجمال الغيطاني ومحمد عفيفي وأحمد فؤاد نجم.. والأهم هنا أن قهوة محفوظ تسهم بالفعل في تنشيط الحركة الثقافية مع قهوة الفيشاوي التي تعتبر أحد الأماكن المحببة للأدباء والفنانين وهي الأقدم منها بكثير أيضا.. وهناك التقينا علي الجانب الأيمن من خط سيرنا مع عم يحيي رمضان بائع جلاليب وشنط اليد الذي أكد لنا أنه يفضل بيع كل ما يختص بفن الخيامية الذي يعشقه منذ الطفولة ويعمل بها منذ 40عاما.. وأشار لتطور هذه المهنة لدرجة أنها دخلت في فن الديكور.. ودخلت في صناعة كسوة الكعبة المشرفة وخيام الحج والبدو. وأضاف: إن إقبال السائحين خصوصا العرب يزداد بالتحديد في شهر رمضان المعظم وأكد أن هذه المهنة تعتمد علي التطريز علي الأقمشة السميكة باستخدام مجموعة من الألوان الزاهية والخيوط البارزة علي الجداريات والحقائب والجلاليب أيضا.. وبكل صراحة أشار عم يحيي إلي أن سوق السياحة مضروب فلا يأتي إليه سوي الزبائن المصريين والصينيين وغاب عنه الأسبان والإيطاليون. ويلتقط خيوط الحديث عم صلاح اللمبي وهو من أشهر تجار خان الخليلي وابن المنطقة.. ويقول : أعمل هناك منذ 40 عاما أو أكثر وبالمناسبة مع قدوم موسم الصيف يأتي معظم الزائرين من دول الخليج وكذلك الدول العربية مثل لبنان وسوريا قبل أن تدمرها الحرب. ودائما مايكون موسم شهر رمضان مميزا جدا علينا حيث يكثر السهر في منطقة الحسين والأزهر.. ويضيف أنه بسبب غياب الأمن في السنوات الأخيرة عاد الاستقرار في مصر للأفضل.. ونتمني أن يحدث التغيير والانتعاش للسوق ولكنه لن يحدث بين يوم وليلة.. ويؤكد صلاح اللمبي أن المنطقة تتميز بطابع خاص فهناك المشغولات الذهبية والفضية والخيامية والتماثيل والأشياء الفرعونية المقلدة. والزائرون للخان سواء كانوا عربا أو أجانب يعشقون هذه المنطقة للطابع الروحاني خاصة في ظل تواجدها بالقرب من مسجد سيدنا الحسين الذي يشعر معه الجميع بحالة من التبرك. ويكمل اللمبي ويقول: أما الطابع الخاص لمشغولاتنا فأولا هي مشغولات يدوية وتحمل ذوقا رفيعا ويضاف لذلك وجود الورش الخاصة بتلك الصناعة في منطقتي الجمالية والحسين والشغل فيها مميز ومعروف عن غيره الذي يأتي من المناطق الأخري. ويؤكد اللمبي أن من يشتري منتجات الخليلي وينبهرون بها سرعان مايقومون بعمل رواج ودعاية للسلعة في الخارج لأنها سلعة تقتني فتجد الآخرين يأتون لزيارتنا في خان الخليلي ويشترون منتجاتنا أيضا.. فزبوننا معروف لنا.. كذلك هناك حالة من التنوع في المنتجات مابين إسلامية وعربية راقية. ولا أبالغ بالنسبة لمعروضاتنا الخيامية لو قلت إن السياح مازالوا يفضلون الخيامية البدوية وليست المطبوعة والرزق يزيد في شهر رمضان بنسبة 100٪ لإقبال الفنادق والنوادي علي الشراء. ويضيف اللمبي مؤكدا كلام حسين إسماعيل صاحب البازار الموجود أمامه بالسوق قرب وكالة السلحدار التي أنشئت عام 1235 هجرية حيث أكد وجود منتجات خاصة بالزبائن الذين يطلبون كتابة أسمائهم علي المشغولات الفضية والذهبية.. وهذه المهنة يجيدها أيضا هو وحسين جاره في الخان.. وسبق أن تعلماها في الصغر قديما حيث كان هناك الصنايعي الكبير يأتي بالشباب ويعلمهم المهنة وينقل لهم فنونه الآن انقرض هذا الجيل ولم يعد لهم شبيه.. فالجيل الأول من الصنايعية ابتكروا فنونا وأخرجوا من تحت أياديهم جيلا ثانيا.. والجيل الثاني توارثوها جيلا بعد آخر.. والجيل الثالث قليل منهم الذي استمر في العمل في تلك المهنة.. فهناك من فضل التعليم وليس تعلم الحرفة والكثير منهم امتهن مهنة الطب والهندسة وعلوم الكمبيوتر والمحاسبة. وأشار اللمبي وحسين إلي أنه في ظل وجود مكان مميز مثل سوق خان الخليلي.. فهذا يعد فرصة طيبة لابد من اغتنامها لبقاء مثل هذه المنتجات اليدوية الفريدة ذات الرونق والشكل المميز الذي يدل علي خصوصية وجمال الفن المصري. ويبقي في النهاية أن الحكومة برئاسة الدكتور مصطفي مدبولي تعمل بشكل جيد ومتميز خاصة في إطار جهود د.رانيا المشاط وزيرة السياحة وكم نتمني التوفيق لها في عودة السياحة لمجدها السابق حيث لو تم ذلك ستجد المكان عند منطقة الحسين وخصوصا خان الخليلي يمتلئ بالسائحين مثلما كان في السنوات السابقة.. ومثلما سبق ونجحت الحكومات السابقة في تطوير شارع المعز.. مازلنا نعقد آمالا عريضة علي د. مصطفي مدبولي رئيس الوزراء ود.خالد العناني وزير الآثار ود.رانيا المشاط وزيرة السياحة ومعهم محافظ القاهرة المهندس عاطف عبد الحميد في عمل أو إيجاد أو توفير أماكن تيسيرا لانتظار سيارات رواد خان الخليلي.. ولو تم هذا سيكون له عظيم الأثر علي تنشيط السياحة في المنطقة.