لم تعتد أبدا علي اليأس.. ولم يعرف الطريق إلي قلبها وعقلها.. فقد كانت دائما مخدرا ومسكنا طبيعيا لكل من حولها ممن يعانون جراحا وآلاما نفسية وجسدية.. وهاهي اليوم تقف بمفردها بعد أن منعت الطبيبة واحدة من أقرب الصديقات إلي قلبها والتي لم تسقط بعد في أحد امتحانات الحياة.. لتواجهها بما يعد في نظرهم صراحة وحقائق طبية.من حق المريض أن يعرفها بالكامل.. »لست متفائلة بحالتك أقضي مايمكن أن تعيشه بسلام بآلام محتملة، دون أن تتدهور الحالة »ثلاث سنوات«.. بعدها سوف يكون الانهيار الكامل لكل الأجهزة، خاصة الشرايين والأوردة.. وكلام كثير لم تسمع منه شيئا أو تفهم.. وكأنها نسيت تلك اللغة الأجنبية التي عشقتها، وعشقت ثقافتها.. لحظات أصيبت فيها بالصمم وهي عادة اكتسبتها للدفاع عن نفسها منذ كانت صغيرة، عندما لاتريد مناقشة عزيز عليها حتي لا تطوله بلسانها الحاد الساخر.. فلا تسمع وتسمعه مايؤلم وبذلك تكظم الغيظ حتي لاتغضب ويغضب محاورها إن كان يهمها أمره. لاتدري كم من الوقت سقط من حساب الزمن لتعود إليها حاسة السمع، والطبيبة تسترسل في تعليماتها وتعطيها أوراقا كثيرة بها أسماء أكثر لأدوية وكل ما يلزم تلك الحالة الحرجة.. وتنصحها في النهاية قائلة: »أنصحك برؤية »طبيب نفسي« ليؤهلك بما تفعلينه لتقبل ماتبقي من العمر. »يارب« هي كل ما استطاعت أن تتفوه به قبل أن تتماسك وتجيب علي ذات الثوب الأبيض قائلة: »لاتخافي«.. لقد كنت طبيبا نفسيا لكثير من المتألمين والمجروحين.. ربما لاتعرفين عني شيئا سوي هذا الجسد المهزوم من جراء المرض... لكن هناك »رب كريم« قادر علي كل شيء. لتخرج من الغرفة بحثا عن الصديقة التي كادت تموت قلقا.. فتضحك قائلة لها »صحتي بمب«.. أين سنحتفل بعيد ميلادي في تلك البلاد التي أشعر لأول مرة فيها بالغربة«. عاودت فتح هاتفها »الجوال«.. وكم كانت فرحتها شديدة فقد وجدت رسائل عديدة أكثر بكثير جدا مما تتخيل من أناس ربما لاتحادثهم كثيرا.. لكنهم أبدا لم ينسوا يوم ميلادها.. فقد كانت لهم يوما مصدرا للأمل والتفاؤل.. .. طبيبا نفسيا لآلامهم.. صديقة مخلصة حفظت أسرارهم ومازالت.. فكيف إذن ينسونها.. ومع هذه الرسائل والمحادثات اختفي شبح الخوف من السنوات الثلاث القادمة.. فهناك »رب كريم«. وإذا كان البعض يشعر بسعادة غامرة في الاحتفال بعيد ميلاده فهناك كثيرون يكرهون الاحتفال بأعياد ميلادهم .. لأنه يعني بالنسبة إليهم أن هناك عاما قد انقضي من عمرهم.. فلماذا إذن الاحتفال.. ناسين أن هناك أعواما قادمة.. وفي النهاية الأعمار بيد الله. ومابين الحب .. والكراهية للاحتفال بعيد الميلاد كان الفيلم »السويسري« »اختفاء جوليا« للمخرج »كريستوف شوب« واحدا من أمتع الأفلام التي عرضت في المهرجان .. وذلك من خلال استعراض العديد من الشخصيات في مراحل متعددة من العمر.. ويشارك في بطولته كورينا حرفوش.. برونو جانز.. ستيفان كورت.. أندريه جونج. ويعتبر مخرج الفيلم كريستوف واحدا من أهم مخرجي السينما السويسرية وذلك قبل أن يتجه للسينما الأمريكية الطويلة، وهو أيضا يقوم بتدريس الإخراج في عدد من المعاهد الحرة. اختفاء جوليا في توقيت احتفال أصدقائها بعيد ميلادها في أحد المطاعم جعلهم يتساءلون عن مكانها في نفس الوقت الذي التقت فيه صدفة برجل يعيش وحيدا مثلها لتحدث بينهما انجذابة من النظرة الأولي.. لتكون في هذه المقابلة بداية لحياة جديدة بعدما أمضت سنوات طويلة من عمرها في حالة من الوحدة بعد رحيل زوجها.. ولذلك كانت مفاجأة للجميع عندما وجدوا »جوليا« في نهاية السهرة تأتي حاملة »تورتة« بها شموع تحمل سنوات عمرها ووسطها شمعة متوهجة كبيرة تعلن بها بداية حياة جديدة.. فالحب والأمل يدفعان الإنسان للاحتفال بمولده في كل دقيقة وليس فقط مرة في السنة. أعترف أنني إنسانة محظوظة كثيرا ما تمنيت أشياء، إلا واستجاب الله لي وحققها .. وصدق المثل القائل »قيراط حظ .. ولا فدان شطارة«. في كثير من الأحيان نبحث عن التغيير الجذري لننسي أو نتلهي بما يمر بنا من أحداث وبالطبع أقسي ما يمكن أن تحمله داخل نفسك وتعاني منه هو الحالة المرضية.. ومعرفة مدي خطورتها وخطوات تطورها .. هذا الإحساس قد يزيد من حالة التيه أو السرحان وعدم التركيز.. وقد أصابتني هذه الحالة في الفندق الصغير بمدينة »مونز« الذي يقع وسط الغابات .. قريبا من وسط المدينة الصغيرة.. وذلك عندما ضغطت علي »زرار« خطأ في المصعد جعلني أصعد لأعلي بدلا من الهبوط لأفاجأ بسيدة عظيمة أمامي وهي الفنانة القديرة »يولاند مورو« الممثلة بلجيكية الأصل التي قدمت دورا من أروع الأدوار وهو »سبرافين« تلك الفنانة التشكيلية التلقائية.. وقد حصلت »يولاند« عن دورها هذا علي جائزة أحسن ممثلة من مهرجان القاهرة السينمائي .. لكنها لم تستطع الحصور لاستلام الجائزة لارتباطها بعمل سينمائي جديد.. لتحصل بعدها بثلاثة شهور علي جائزة السيزار لأحسن ممثلة. طلة هذه الفنانة وقيمتها كانت هدية بالنسبة لي وفرصة لحوار طويل سوف ينشر فيما بعد .. وماحدث تقريبا مع »يولاند مورو« حدث مع المخرج الأفريقي الكبير »إدريسا اودراجو« الذي كان يقف منتظرا سيارة تقله في نفس وقت انتظاري لسيارتي فكان ذلك بداية لحوار طويل ووعد منه إن تم توجيه دعوة له من مهرجان القاهرة فإنه يرحب بالمجيء إليها.
المهمشون في الحياة يكادون يقتربون من عالم الموتي أكثر من الأحياء.. ولذلك كان التعاطف شديدا مع الفيلم الكازاخستاني الجورجي المشترك »الجانب الآخر« للمخرج »جورج أوفاشيفيلي« والذي قام ببطولته بيكاهوري .. وجالوبا جامباريا .. وهو يروي قصة صبي صغير لايتعدي الثانية عشرة يعيش مع والدته بعد أن دمرت الحرب الروسية كل ما يمتلكون وشتتت شمل الأسرة.. ووسط الفقر الشديد والمعاناة الرهيبة.. يقرر الصغير عبور النهر للبحث عن والده في الشاطئ المقابل ليمر علي كل مآسي العشوائيات المتشابهة في أنحاء العالم الفقير والغني.. فملامح العشوائيات وأمراضها السكانية والاجتماعية واحدة.. وإن تعددت اللغات واللهجات.. والحقيقة أن مشاركة الأطفال في العديد من الأفلام التي تتحدث عن العشوائيات باتت ظاهرة أساسية واستحق عنها الأطفال أن يفوزوا بالعديد من الجوائز لأنهم أثبتوا أنهم ببراءتهم أكثر عبقرية من الكبار.