مؤكد أننا علي أعتاب مرحلة اقتصادية هامة وفارقة في تاريخ مصر، ولا يمكن لأحد أن ينكر الدور العظيم الذي يقوم به رئيس الجمهورية، عبد الفتاح السيسي، منذ توليه الرئاسة، بداية من تحمل المسئولية برمتها علي عاتقه مرورًا بمواجهة المشكلات الاقتصادية والديون التي نتجت عنها، وصولًا إلي محاربة الإرهاب، الذي كان ولا يزال المشكلة الأكبر. مُحاربة الإرهاب ليست بالسلاح فقط، وإنما بالفكر والحُجة والعلم، وطبعًا بالفنون التي تستطيع تغيير الذوق العام، وخلق أجيال قادرة علي التعبير، ونشر الجمال والإحساس، والارتقاء بثقافة شعب طالما نشد أبناؤه التقدم والرقي، ورغم هذا الدور الخطير الذي يُمكن أن يلعبه الفن في حياة مصر، خرجت قرارات اقتصادية هدفها تعطيل مسيرة الفنون. لن يُعكر أذهان المصريين خبر إدراج مأكولات القطط والأسماك والكلاب، وأدوات الماكياج، وأجهزة العناية بالشعر، ضمن قائمة السلع الاستفزازية، وفقًا للقرار الجمهوري، رقم 538 لسنة 2016، بتعديل بعض فئات التعريفة الجمركية، والذي صدر بعد موافقة المجلس الأعلي للتعريفة الجمركية، وأُقرت من خلاله زيادة التعريفة الجمركية علي تلك السلع بنسب تتراوح بين 10 إلي 60٪، أغلب المصريين لم يلتفتوا إلي تلك الزيادة، فهم يدركون أنها فعلًا سلع استفزازية، والاستغناء عنها ليس مستحيلًا، لكن الغريب في الأمر كان إدراج الأحبار، وأقلام التلوين، والأقلام الجاف، ضمن قائمة السلع الاستفزازية، وهو ما استوقف كثيرين، ووضع العديد من علامات الاستفهام حول كيفية تحديد كون السلعة استفزازية أو ضرورية، 14 كلية للفنون في مصر حكومية وخاصة، ضربها هذا القرار في مقتل، وباتت في أزمة حقيقية وصلت إلي تهديد بعضها بالإغلاق، في ظل ارتفاع أسعار مستلزمات الرسم التي تُعد العامل المشترك الأكبر بين جميع هذه الكليات. تفاوت الأسعار واختلافها يومًا تلو الآخر هو الأرض الخصبة التي يزداد فيها جشع التجار وأصحاب المصالح من المستوردين والمحتكرين، هؤلاء لا يشغل بالهم إلا الربح فقط دون النظر إلي المواطن الذي يبذل كل طاقته لتوفير قوت يومه، فليس من العدل أن يقع فوق كاهله مزيد من الضغوط بسبب زيادة أدوات أبنائه التعليمية. قد يكون الأمر مُبررًا لكبار الفنانين ممن لهم باع طويل في ممارسة تلك المهنة، لكن كيف حال طالب مُجبر علي شراء كل هذه الأدوات دون تنازل عن أي منها، فالأمر برمته يقع علي عاتق ولي الأمر الذي أصبح يتحمل أضعاف المبلغ الذي اعتاد دفعه. احتكار التجار الدراسة في الكليات العملية تختلف كثيرًا عن النظرية، فنحن لا نكتفي بالقراءة والمذاكرة فقط فبجانب هذا لا بد من تسليم حوالي 5 مشروعات أسبوعيًا لكل مادة وأحيانًا أكثر، والمشروع الواحد تتراوح تكلفته بين 300 إلي 400 جنيه حسب الخامات المستخدمة، وفي كثير من الأحيان تكون النتيجة النهائية غير موفقة ولا ترضي المشرف علي المادة، ويتم إعادة المشروع، الأمر الذي بات منهكًا لجميع الدارسين بالكليات الفنية، بالتأكيد هناك فارق بين الأقسام، وكذلك بين الكليات، ولكنها اختلافات طفيفة لا تُذكر، هكذا تحدثت الطالبة ليلي عصام، بالفرقة الثانية بكلية الفنون التطبيقية، مُشيرة إلي أن الأزمة الحقيقة تكمن في عدم توافر تلك المنتجات، ووجودها عند مكتبات معينة فقط، وبالتالي يتحكمون في الأسعار وفق رغبتهم لأنهم يحتكرون السوق، ولا يجد الطالب بديلًا أرخص. الطالبة نور أيمن، بالفرقة الأولي بكلية الفنون قسم زخرفة، تتحدث عن طبيعة الدراسة والأزمة التي تواجه معظم الطلاب حاليًا، فتقول: »الأسعار ارتفعت بشكل مبالغ فيه بداية من الأستيكة حتي أكبر علبة ألوان، والزيادة لا تتوقف، ففي التيرم الأول اشتريت علبه ألوان ب120 جنيهًا، وصلت الآن وبعد 3 شهور فقط إلي 380 جنيهًا، تلك الزيادة تنطبق علي باقي الأدوات من أقلام رصاص، وفحم، ومثبتات لون، وورق، وحتي أفرخ الرسم التي كانت تتراوح بين 3 إلي 5 جنيهات، وصلت الآن ل15 جنيهًا للفرخ الواحد، وأنبوبة الجواش التي كانت ب20 جنيهًا وصلت الآن إلي 48 جنيهًا». إهداء للكلية وتري الطالبة أمنية نبيل، ببكالوريوس ديكور قسم تصميم داخلي وأثاث، أن أسعار الألوان تخطت أسعار الذهب الأمر الذي دفع العديد من طلاب الدفعات الجديدة للتحويل من الكليات لعدم قدرتهم علي الشراء، لافتة إلي أن مصاريف طباعة المشروعات ارتفعت للغاية، ووصلت إلي 900 جنيه للمشروع الواحد، فضلًا عن أسعار أقلام التحبير التي كانت ب50 جنيهًا ووصلت الآن إلي 250 جنيهًا. وتتحدث أمنية عن مشكلة داخلية بقسم الديكور، فتقول: »عندنا مادة اسمها تخصص تنفيذي، ونقوم فيها باختيار قطعة أثاث وننفذها، ولا بد من معرفة تكلفتها قبل البدء بها علي ألا تقل عن 5 آلاف جنيه، وفي بعض الأحيان تصل القطعة ل20 ألف جنيه، وكلما زاد ثمنها كانت النتيجة أفضل بالتأكيد، وبعد إتمام المشروع نقوم بترك قطعة الأثاث للكلية، ليتم إدراجها باعتبارها إهداء للكلية الأمر الذي يُثير حفيظة الطلاب بالتأكيد». ولا يختلف رأي الطالبة سارة إسماعيل، بالفرقة الثانية فنون جميلة قسم جرافيك، عن زملائها، فتقول: »تقريبًا كل المستلزمات ارتفعت أسعارها إلي الضعف وبعضها زاد 4 أضعاف، مثلًا الاسكتشات لدينا مُتاح استخدامها بأي خامة، ويمكن أن نستخدم الجاف أكثر أو الماركر باعتبارهم الأرخص، وأغلبنا أصبح يستخدم الخامات الأقل جودة توفيرًا للنفقات، بعيدًا عن أسعار ألوان المياه التي كانت ب135 جنيهًا وأصبحت الآن تُباع بأكثر من 560 جنيهًا. إلغاء المواد أضافت سارة: »الموضوع أصبح مُعقدا لدرجة أن بعض المواد أصبحت لا تُدرس، وبعض الفنيات الضرورية لا نتعلمها بسبب ارتفاع أسعار خاماتها كالزنك مثلًا، الذي تقرر إلغاؤه من العام المُقبل، وهو عبارة عن فرخ يُطبع عليه ووصل ثمنه إلي 600 جنيه للفرخ الواحد». أما الطالبة آمال علاء الدين، بالفرقة الثانية تخصص ديكور، فقالت: »بدأنا ننفذ فكرة ال»ريسيكل» للماكيتات القديمة بسبب ارتفاع أسعار الفوم والنصبيان، حتي الكرتونة الموجودة في آخر الاسكتش بدأنا نستخدمها بعدما كنا نرميها، علاوة علي ارتفاع أسعار الألوان الزيت والجواش، التي دفعتنا لاستخدام ألوان الخشب المائية». بلاها فن علي الحكومة أن تتكفل بكل مصروفات الطلاب الذين يدرسون في الكليات الفنية، وإلا فإغلاقها هو الحل، هذا ما أكدته الدكتورة ريم العصفوري، أُستاذ تصميم الجرافيك بكلية الفنون التطبيقية بجامعة حلوان، لافتة إلي أنها ناشدت الطلاب بالتوجه لمكتب رعاية الطلاب لوضع أي مُعدات قديمة لا يستخدمونها حتي يستفيد منها غيرهم. وأشارت إلي أن قرار رفع أسعار مستلزمات الرسم والتلوين والخامات، تم دون دراسة، فقبل الزيادة كانت الأسعار بالفعل مرتفعة علي أولياء الأمور، والدارسون بالكليات علي دراية بذلك، فكيف لقرار الزيادة أن يتم دون إيجاد حلول بديلة، موضحة أن الأدوات المُستخدمة جميعها احترافية ومُتخصصة، ولا يسهل توفيرها محليًا، وحتي إن وجدت فجودتها مُختلفة تمامًا، ولحين إيجاد بديل يجب وضع رقابة علي الأسواق لتوفير المنتجات الدراسية بأسعار في متناول الطلاب. صناعة محلية ويتفق معها في الرأي الدكتور طارق صالح، عميد كلية الفنون بجامعة أكتوبر للعلوم الحديثة، مشيرًا إلي أن قرار رفع الأسعار أدي لإيقاف حركة القطاع المُستخدمة فيه تلك الأدوات، والمتضرر الوحيد هو ولي الأمر، الذي يدفع فوق مصاريف الدراسة مصروفات أخري تُعادل سعر العام كاملًا بالجامعات الخاصة. أضاف: »الاهتمام بالفنون مُهمة قومية، فكيف لنا أن نرتقي بأفكار وأخلاق المواطن إلا بالفنون، وكيف لنا أن نقضي علي التطرف والإرهاب إلا بالفن، نحن لدينا الإمكانيات ولدينا القدرة علي الإنتاج، فلماذا نضع أنفسنا تحت رحمة المستورد والعملة الصعبة، المصريون أول من صنع وعرف الألوان، وبإمكاننا توفير المُستلزمات اللازمة للدراسة، وافتتاح المصانع المُتخصصة لن يكلفنا كثيرًا مقارنة بما تدفعه الدولة للاستيراد».