في أسوان.. وتحت أشعة شمسها الدافئة، أبدع الفنانون التسعة منحوتات خارج نطاق الزمن، وأبدعت الفتيات بأناملهن الرقيقة والإزميل الأشد قسوة في ترويض أقوي حجر وهو الجرانيت الأسود والأحمر، ليشكلوا لنا في ختام سمبوزيوم أسوان الدولي للنحت في دورته ال22 ترانيم نحتية تحاكي الواقع، وسيمفونيات تعزف علي أوتار الحجر، تحول فيها الجرانيت الصلب من كتلة شرسة إلي عمل فني تدب فيه الحياه، واستطاعوا ترويض الجرانيت ليشكلوا لنا لحنا عصريا ومنحوتات رائعة الجمال تحكي قصة كل فنان شارك في السمبوزيوم. رغم حالة التقشف الشديد الذي يعاني منه صندوق التنمية الثقافية، ورغم قلة عدد الفنانين المشاركين من دول العالم إلا أن هناك إصرارا علي استمرارية هذا الحدث الجميل، فرغم قلة الإمكانيات المادية التي ضربت السمبوزيوم الذي بلغ من العمر 22 عاما، إلا أنه اشترك في دورته الأخيرة تسعة فنانين منهم خمسة من اليابان وألمانيا وأسبانيا والصين وجورجيا، بجانب ستة من شباب الفنانين المصريين المشاركين بالورشة تركوا أعمالا سوف تخلّد في المتحف المفتوح الذي يحوي حتي الآن 215عملا معروضا وسط بيعة أسوان الساحرة وجمال نيلها وخلود آثارها وأصالة تراثها، بالإضافة إلي90 قطعة نحتية تزيِّن المحافظات وميادينها، فن النحت الذي أبدع فيه المصريون القدماء وتركوا أعمالهم مسجلة علي جدران المعابد والمسلات يأتي بعدهم جيل من الشباب يحلمون بمواصلة ما بدأه أجدادهم ليشكلوا عبقرية الزمان وأنشودة المكان في نفس المكان الذي يحمل عبق الماضي ورائحة الحاضر. شروق هلال بنت الإسكندرية فتاة حالمة بالطيارة الورق تهوي العمل علي القصص وتحت عنوان "عداء الطائرة الورقية" استطاعت أن تحقق حنينها وحلمها فهذا العمل مستوحي من طفولتها عندما كانت تستمتع باللعب بالطائرة الورقية تحلق في سماء الإسكندرية، إنها تعيد ترنيمة طفولية كادت تندثر، القطعة النحتية تحتوي علي عنصر خفيف الظل وتشير الفنانة إلي قصة بيتر بان عندما كان ظله منفصلا عن جسدة. موسيقي السماء بورتريه عندما تنظر إليه تشاهد وجهك وأنت تنظر إلي السماء هو عمل للفنانة المصرية علا موسي حيث مشهد المنحوتة رقبة طويلة تسند رأس امرأة مائلا للخلف في لحظة سلام، وقد أبرزت الفنانة فقد الأنين وخطا أفقيا مستقيما لأعلي وربما أغلقت الفنانة العينين وكل الحواس الأخري في حالة من التأمل والاستمتاع بموسيقي السماء. ومن اليابان يبهرنا الفنان هيروكي أسكاوا ونقف أمام منحوتته في حالة صمت واندهاش وتفكير فيما يحدث، إنه ادخل العبقرية الهندسية إلي منحوتته الضخمة التي حاول فيها الدمج بين أحدث وأقدم وسائل التواصل وتحت عنوان "قاسيم السعادة" يصنع أسكاوا من حجر الجرانيت سماعات عملاقة تعمل عمل الهاتف، وحين تقف عند نقطة معينة وتتحدث في اتجاه واحد من السماعات ينتقل الصوت فتسمعه يصدر من الأخري. ليو يانج من الصين تأثر بنيل أسوان، حاور النيل مرات عديدة يمضي يانج وقته في نحت نسخته من نهر النيل في قلب حجر الجرانيت. "وضع تحفز" كان عنوان قطعة الفنانة ريم أسامة التي تأثرت بالطبيعة وتأثرت بقطها شيكوا الذي توفي فأردات أن تخلد ذكري شيكوا في عمل منحوتة له، وفعلا استطاعت ريم أن تنحت علي حجر الجرانيت صورة قط تبدو متحفزة وعلي استعداد للانقضاض علي شيء أو مستعدة أن تلعب، والشكل التجريدي والتكعيبي لمخالب القط يؤكد وضع القوة والانطلاق. خوسيه كارلوس ميلان من اسبانيا صوّر لنا رحلة الضوء اللانهائية في عمله النحتي، العمل رأسي بطول 2متر ونصف وتحت عنوان الضوء اللانهائي، حاول إيجاد طرق للتعبير عن الأفكار غير الملموسة في عمل ثلاثي الأبعاد، قطعتان متطابقتان تقابل إحداهما الأخري، قوتان متساويتان متعاكستان، توافقتا علي البقاء في حالة توازن، العمل يهدد الإحساس بالتوازن ويؤكده في نفس الوقت، ويقول خوسيه: أعتقد أنني أبحث عن الجمال، وأري أن الجمال هو البساطة التي تحتوي علي قوة هائلة. إيجاد الجمال في الخطوط والمسطحات هو شيء يستهويني. أما الفنان علي سعدالله علي فيعود إلي السمبوزيوم بعمل قوي عن الثور. هذا الكائن القوي كان يبهر سعدالله، لذلك حاول أن يقدم لنا الثور من شكله الطبيعي والنمطي إلي شكل آخر منفردا، حيث ثور سعدالله مستوحي من الإلهة حتحور وهي علي صورة بقرة، أعجبني فيه هيكل الجسم ولغتة الجسدية التي تظهر في وقفتها وقوتها ونظرتها للأمام، وقد أعطي الفنان اهتماما خاصا للقرون حيث تركزت فيها قوة الثور، ويستمد الفنان كل أعماله من الطبيعة. شيماء درويش تأخذنا بمنحوتاتها إلي عالم آخر، وإلي تربة إنسانية تعيشها حواء وهي تجربة الولادة وكيف يستقبل الجنين الحياة، العمل النحتي علي شكل بيضاوي مليء بالمنحنيات الناعمة، صلابة الجرانيت تضيف مفهوما جديدا للجنين، ففي الجرانيت يحفظ الجنين إلي الأبد في حالتة الوليدة البريئة.. الفنانة تقدم لنا تجربتها الشخصية عند ولادة ابنها موسي، العمل صورة لجنين يحتضن نفسه بكفيه الصغيرين مخبِّئا وجهه الصغير من العالم الجديد. في مواجهة الريح يأخذنا الفنان تامر رجب في رحلة ليغوص بنا في عالم الطبيعة ويبحث بصفة خاصة عن تأثير حركة الرياح علي الكائنات الحية غير الإنسان، هذا جزء من موضوع أكبر يعمل عليه الفنان عن تأثير حركة الرياح علي التكوينات بصفة عامة، ويقول تامر: هناك مخلوقات في كل مكان حولنا مثل الحشرات أو الكائنات الدقيقة تواجه نفس قوي الطبيعة التي يواجهها الإنسان. ماجد ميخائيل الحائز علي جوائز في النحت يبدأ عمله بكلمة واحدة هي "كرسي"، وقد تطورت فكرة الكرسي التي بدأت معه منذ عام مضي ونبع منه العمل الذي نفّذه في سمبوزيوم هذا العام هو كرسي العمدة.. حيث الكرسي هو نقطة الانطلاق التي يبدأ بعدها تحرير الفكرة إلي أبسط شكل فينتج عنه أعمال في كثير من الأحيان تكون هندسية لكنها غير عادية. تحت عنوان "احتفظ به" يقف عمل الفنان الألماني كلوس هانسيكر عموديا يتوسطه شكل بيضاوي رأسي، وبخطوط أفقية في النصف العلوي والسفلي يعكس بعضها البعض، شكل الجزء العلوي يشبه تاج الملكة تفرتيتي في حين أن الخطوط تذكرنا باللحي التي نجدها علي الأقنعة المصرية القديمة، عنوان العمل مأخوذ من مقولة ألمانية حول الحفاظ علي القديم مع خلق الجديد. لغة الجسد، عنوان تريز أنطوان لويس حيث رأت فرصتها في سمبوزيوم أسوان الدولي للنحت، فمنذ تخرجها في كلية الفنون الجميلة جامعة الإسكندرية، ظلت تريز متأثرة بالفن المصري القديم، وبشكل خاص بالأشكال النهدسية التكعيبية، وقد تطورت أعمالها من البورتريهات التجريدية إلي جسم الإنسان مع التركيز بصفة خاصة علي لوحة الجسد، وقد اتخذت من نفسها مثالا حيا موديلا للتعبير عما تريده. وتقول تريز: كنت أعمل دائما علي موضوعات علي مسافة مني فأردت أن أخوض تجربة العمل علي موضوعات أكثر خصوصية وأكثر ارتباطا بشخصي ويندرج هذا الاتجاه الجديد تحت موضوع الهوية حيث رسمت الفنانة نفسها في أوضاع مختلفة وبدأت تدخل أشكالا عضوية تخلطها مع الأسلوب الهندسي التكعيبي الذي كانت تتبعه في أعمالها السابقة وتصور تريو الإنسان كما لو كان يحاول أن يرتفع من وضع الجلوس. وعن ختام السمبوزيوم يقول الدكتور أحمد عواض رئيس صندوق التمنية الثقافية إن هذة الدورة قامت بالتجهيز لها الدكتورة نيفين الكيلاني رئيس صندوق التنمية الثقافية السابق وبصراحة دورة رائعة وستستمر جهود صندوق التنمية الثقافية في رعاية هذا الحدث الدولي الذي يؤكد علي ريادة الجرانيت المصري الذي نحت منه أعظم المعابد والمسلات والتماثيل الفرعونية التي مازلت باقية وشامخة حتي الآن. ويقول ناجي فريد قوميسير عام السمبوزيوم هذه الدور رقم 22 وهذا إنجاز غير مسبوق في استمرارية هذا السمبوزيوم التي أصبحت قطعة تزيِّن ميادين مصر، والقطع المعروضة التي أصبحت متحفا مفتوحا أمام السياح تؤكد أننا حريصون دائما علي تقديم صورة مصر الثقافية أمام العالم بشكل رائع.